السفر... مقاربة ظاهرية

السفر... مقاربة ظاهرية

غاية السفر الأولى الوصول إلى المكان. لكنّ المكان يقيم خلف المسافة، والمسافة تقيم خلف الزمان. لذا، كان على السفر أن يُلغي هذين التوأمين المتلازمين العصيّين: المسافة والزمان.

وقد ابتكر لذلك شتّى الوسائل إلى أن وصل في عصرنا إلى سرعة الصاروخ. على أن السفر في محاولته إلغاء هذين التوأمين، إنّما يُلغي ذاته. إذ في إنجاز غايته موته، فوصوله إلى المكان واتصاله به أشبه بالنار التي تأكل ذاتها بعد التهام وليمتها.

ولكنْ في السفر مقاومة لإلغاء الذات، يقوم بها «الانتقال» في السفر: الـ«هنا» يرغب دائماً في الاستيلاء على الـ«هناك». الصفّة الانتقاليّة معرّضة دائماً لهجوم الرغبة في البقاء بعنف. الحبّ العابر معرّض لهجوم النوستالجيا الدائمة، فيما المسافر عبر صحراء شاسعة أو في طائرة أو في سفينة بعيدتَي المدى، يشعر بالاستقرار، إنه لا يسافر، وهنا مفارقة السفر: مظهر لـ«الصيرورة» متأمل ومراد في سبيل «الموجود»، ولا يوجد إلا من طريق افتراض لهذا «الموجود» ينزع إلى أن يتحوّل إلى «موجود» بعينه. مسافر للتجارة مثلا، متمسّك بعاداته، يبحث عن الغرفة نفسها في الفنادق نفسها، وعن المكان نفسه في المطاعم نفسها.

وهكذا، قد يصبح الرحّالة مقيماً برغْمه، إنه السفر الذي يُعدم السفر.

والسفر نوعان: عيني ومجرّد، وكلاهما أنواع. وأسماها السفر المتعمّد. وميزته أن يُنكر ذاته كجوهر. السفر المتعمّد يجعل من السفر أكثر من فِعْل انتقال. هل يمكن القول إنّ الحيوانات الزاحفة والطائرة أو الدّابة على أربع أو المائيّة تسافر عن عمْد؟ السفر المتعمّد ميزة إنسانيّة. وما بقي من سكان الأرض ينتقل بدافع الجوعَين: الجنسي والمعديّ، والحرّ والبَرْد. ولا أعني أنّ الإنسان بمنجى من تلك الضرورات الثلاث. فأهداف السفر في الواقع لديه، لا تُحصر، وتتمظهر بحسب الغرائز والمشاعر التي تتقاذفه، بدءاً من اللاقصديّة حتى الأقلّ قصديّة فالأكثر.

أولاً: سفر الضرورة، وهو من أقدم الأسفار، ويتقاسمه الإنسان مع الحيوان منذ وجوده.

ثانياً: السفر القسْري. وتمارسه عادة المجتمعات الساديّة أو الديكتاتورية، وأحياناً المازوشيّة. ومن أنواعه: الإبعاد أو الترحيل مع حظْر العودة، أو السّوق إلى معتقلات جحيميّة. ونجد أمثلة لها في بعض مجتمعاتنا العربيّة، وفي روايتي سولجنتسين: «أرخبيل عولاغ» بأجزائها الثلاثة، و«الدائرة الأولى»، سجلٌ واف لعذاباتها الحمراء. وأيضاً النّفْي الإجباري أو الاختياري تحاشياً للقتْل أو استباقاً للحكمْ بالنّفي خوفاً من المخبّأ «كشأن أرسطو مثلاً»، مع الأمل في العوَدة «كشأن دانتي وأوفيديوس».

أمّا السفر الأكثر تعمّداً فهو الهجْرة. حيث يفضّل المرء الرحيل على العيش في البؤس أو القَهْر. والمهاجر ينقل وطنه معه، ففي أمريكا مثلاً، نرى أحياء صينية ويابانية ولبنانية وغيرها، بعاداتها ومعالمها وأسمائها المستنسخة. وقديماً قال الشاعر العربيّ: وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى.

النَّفي الطوعي

ولعلّ اللبنانيين هم الأكثر هجرةً بين الشعوب، حيث يشكّل المهاجرون منهم اليوم ثلاثة أرباع المقيمين، وذلك من غرائب الديموغرافيا.

وما يلفت في هذا النفي الطوعي، هي العلاقة بين الظاهرة الإنسانية وفِعل الكتابة. فالمهاجر أو المَنْفيّ إراديّا، يجد نفسه حين تحطّ قدماه على أرضٍ غريبة، محاطاً بأناس غرباء عنه، جنساً ولغة وديناً أحياناً، فيُمنى للوهلة الأولى بضيقٍ وعُُزلةٍ لا يلبثان أن يزولا لتخلّفهما نوستالجيا ممضة . ولا يرى خير مُعزّ له أو مُتنفّس لأحاسيسه المستثارة، غير الكتابة.

وأن يكتب المرء يعني أن يضع نفسه في موقف المراقب لفكره الخاص، والأَوبة بهذا الفكر إلى رَحمِه. فالنفي الطوعي أو الإرادي يضع من يعانيه في مواجهة انوجاد جديد، عليه أن يطابقه مع انوجاد سابق. وفي الإنوجادين، إن المرء الذي ينفي نفسه كما المرء الذي يكتب، يتعرّض لازدواجيّة الذات أو الفكر. المنفى إذاً، فعل إنسانيّ وفكريّ معاً. وذلك ما يُسبغ على كلمة «السفر» الغنى والالتباس، حتى لغوياً.

فـ«السّفْر» لغة (بتسكين الفاء): الكتابة. من سَفَر الكتاب أي كتبه. والسَّفَرة: الكتَبة، جَمْع سافر: كاتب. وذلك لأنّ الكتابة تسفر (بكسر الفاء) أي تكشف عمّا يُحتاج إليه من الشيء المكتوب (معجم مقاييس اللغة). وقال ابن جِنّي (عالم بالنحو): «ينبغي أن يكون السّفْر (بمعنى الكتابة) من قولهم سَفَرت البيت أي كنسته. فكأنّه من كنست الكتابة من الطّرس».

وقال الزجاج (عالم أيضاً بالنحو واللغة): «قيل للكاتب: سافر، وللكتاب: سِفْر، لأنّ ذلك معناه أنّه يبيّن الشيء ويوضّحه». وقال الأزهري في معجمه «التهذيب في اللغة»: «سُمّي المسافر مسافراً لكشفه قناع الكِنّ (أي السّتر) عن وجهه، وسمّي السَّفَر سفراً لأنّه يَسْفر عن وجوه المسافرين وأخلاقهم، فيظهر ما كان خافياً منها».

والأدب العربيّ مدينٌ لأولى النّفي الطوعي بالكثير في انطلاقته الحداثيّة. فهؤلاء «السّفَرة» الأفذاذ بثّوا فيه دماً جديداً لا يمكن نكرانه. ولأعلامه كجبران ونعيمة وأبي ماضي والريحاني والقروي وعريضة والمعلوفَين (فوزي وشفيق) تأثيرٌ كبير على مدى القرن العشرين ولايزال، وبخاصّة جبران الذي يُعدّ من الجذور العربيّة الأولى لما يُسمّى «قصيدة النثر» (دمعة وابتسامة والنّبي).

«أنا غريبٌ في هذا العالم (يقول جبران كشاعر أحسّ بأنّه مقتلع وجوديّا، وكإنسان حياتياً) أنا غريب وفي الغربة وحدةٌ قاسية ووحدة موجعة، غير أنّها تجعلني أفكّر في وطنٍ سحريّ لا أعرفه (...) أنا غريب، وقد جبت مشارق الأرض ومغاربها، فلم أجد مسقط رأسي ولا لقيت من يعرفني ولا من يسمع بي (...). أنا شاعرٌ أنظّم ما تنثره الحياة، وأنثر ما تنظمه. ولهذا أنا غريبٌ، وسأظل غريباً حتى تخطفني المنايا وتحملني إلى طني» (الشاعر: العواصف).

وقد يكون فرانتس كافكا الأبرع تعبيراً عن كون الشعور بالنفي متعلقاً بالوضْع البشريّ، في معزلٍ عن أيّ انتقال. فنحن في مفهومه «خارج الحياة».

مثلاً، في روايته «القصر»، يصل البطل «ك» إلى قريةٍ عند أسفل تلٍّ يرتفع فوقه «قصر»، بناءً على دعوةٍ تلقّاها كمسّاح أراضٍ، بحسب ادّعائه، من سادة هذا القصر. لكنّ هذه القرية بقصرها وبما فيها وما يُحيط بها تظلّ ضبابيّة: الأرض بكاملها في الواقع ربّما، هي مسرح منفاه الرمزيّ. وتقرب من ذلك دينياً، النظرة المسيحيّة إلى العالم، فالإنسان عندها منفيٌّ على الأرض بعد طرده من الفردوس. وهو يتقبّل هذا النفي الموقّت بكلّ طيبة خاطر، لأنّه هبة من الله، آملاً أن يُستدعى إلى جواره كي يحيا أبداً في وطنه الحقيقي.

ثالثاً: السفر العدوانيّ، وهو أنواع: سياسي، اقتصادي أو تجاري، دعائي، عقائدي، وعسكري. ومثاله حديثاً، غزوة «اليانكي» لشعب العراق التي تستخفي وراء أقنعة هذه الأنواع جميعاً. والتاريخ مُتخَم بهذه الأقنعة وموهَن. لكنّ ما تجب الإشارة إليه، أنّ هذا السفر هو أشدّ الأسفار ضرراً وخطراً. وأنواعه تتلاقح تناوباً. فقد يقفز من نوعٍ إلى آخر. وقد يطول أو يقصر وفي كلّ الحالات تظلّ آثاره شاهدةً على كوابيسه، إلا في النَّدرة، ربّما يكون له أثر طيّب.

رابعاً: سفر الفضوليّة. وهو توأم المغامرة، وأفضاله على البشرية لا يمكن أن تُجحَد. إلا أنّه أحياناً قد ينقلب عدوانياً. فاكتشاف كولومبس لأمريكا كان إفناءً للهنود الحمر السكّان الأصليّين. وتناهبت الاكتشافات الأوربيّة خيرات القارّة السوداء وإنسانها وحيوانها. وفي إطار هذا السفر، السفر إلى الفضاء أو إلى أعماق الأرض والمحيطات.

خامساً: السفر للسفر. وقد أطراه بودلير في الأبيات التالية من قصيدة طويلة، عنوانها «السفر»:

«ولكنّ المسافرين الحقيقيّين هم وحدهم أولئك الذين يسافرون
من أجل السفر، بقلوبٍ خفيفة كالبالونات،
لا يتحوّلون أبداً عن أقدارهم،
ودون أن يعرفوا لماذا، يقولون دائماً: لنرحلُ!
أولئك أولى الرغبات الغمام،
الحالمون، كمثل مجنّد مدفعيّة،
بلذائذ شاسعة، متغيّرة، ومجهولة،
لم يعرف العقل البشري لها اسماً بعدُ!».

سادساً: سفر الحجّ، وهنا يحضرني موقف لويس ماسينيون عندما سُئل: لماذا نذهب إلى القدس مادام الله في كلّ مكان؟ فأجاب: «إنّ المكان لا يفرض الصلاة ولكنْ يلائمها. وإذا كان الحاج ينفي ذاته، فلكي يهتدي إلى موطن، ومن طريق «تركيب للأمكنة» يتداخل التاريخي والخالد».

الحج ّسُرّة العالم

ورمزياً، الحجّ هو عودة إلى المحورَ، إلى سُرّة العالم. وللبشريّة محاور مقدّسة بحسب معتقداتها. كلّ مكان مقدّس لديها هو بمقام نقطة التقاء الأرض بالسماء. وقد يكون جبلاً أو تلاً، أو شجرةً، أو هرماً، أو حجراً، أو هيكلاً، وغير ذلك. في الإسلام مثلاً، الحجر الأسود في مكّة المكرّمة، يُدعى يمين الله. وكلّ مَن أوتي له أن يتسلمه يشهد له يوم القيامة. وجبل عرفة أو عرفات، حيث لا يتمّ حجّ المسلم إلا بالوقوف به. وجبل الجلجثة حيث صُلب السيّد المسيح. وجبل الزيتون الذي يركّز لوقا كلّ انتباهه عليه، لكونه هدف الصعود إلى أورشليم (لوقا 29:19) ومنه وفْق التقاليد الرؤيويّة (زكريا 14 : 3-4) ينطلق الربّ إلى العالم.

1 - روحياً: كلّ رتبة طقسميّة مُنضم إلى عقيدة، هي تجاوزيّة، بدءاً من الوثنية حتى يومنا. فالمعمودية مثلاً في المسيحية، هي عبور من ظلمات الخطيئة إلى نور المسيح (أفسس 5 : 8 - 14). وبعض التعاليم يذهب إلى اعتبار عبور نوح مياه الطوفان، إنباءً بعبور المسيحي مياه المعموديّة، عبوراً محرّراً بفضل قيامة المسيح (معجم اللاهوت الكتابي). وثمة كائنات خارج قانون المكان والمسافة والزمان. فالملاك لدى القدّيس توما الأكويني يمكنه أن ينتقل من مكان إلى آخر من دون أن يُحدث «عبوراً». وفي الصوفيّة، عندما ينتمي المريد إلى «الطريقة» (وهي مجموعة من القواعد والرسوم التي يفرضها الشيوخ على مريديهم)، يبدأ ما يسمّونه «السفر». وهو يتألّف من جملة مقامات، على السالك أن يتحقّق بها، ولا ينتقل من مقام إلى آخر يليه حتى يصل إلى درجة الكمال فيه (اللُّمَع لأبي نصر السرّاج الطّوسيّ). وفي مختلف الحضارات تقريباً، نجد «المركب المأتمي» لنقل الميت إلى العالم الآخر، والمركب قديماً هو أداة السفر الأولى بامتياز. وبحسب «كتاب الموتى» للمصريين القدماء، كان يُنعت هذا المركب باسم أوزيريس. لأنّ الميت يتحّد بأوزيريس مع اتّحاده أيضاً بالشمس (رع) حيث غبطته القصوى. وإذ ذاك يُصبح عبور المركب مماثلاً رمزياً لعبور (رع) المحيط السماوي. وذلك ما حمل غاستون باشلار في كتابه عن «الماء»، على التساؤل عمّا إذا لم يكن الموت أصلاً أوّل ملاّح، ولم تكن «عقدة قارون - نوتيّ الجحيم» في أسّ كلّ مغامرة بحريّة.

2 - أدبياً. يقدّم لنا الأدب العربي والعالمي في مجال السفر أعمالاً خالدة، أذكر منها: رسالة الغفران للمعرّي. وتدور حوادثها بين موقف الحشْر والجنّة والجحيم. والكوميديا الإلهيّة لدانتي، وتصف رحلة قام بها الشاعر في الجحيم والمطهر والسماء (الفردوس). والانيادة لفرجيليوس الذي ضّمنها رحلةً إلى الجحيم أيضاً في نشيدها السادس. وملحمة جلجامش عن رحلة البطل بحثاً عن نبتة الخلود. ورحلة ابن بطوطة، ورحلة ابن جبير، ورحلة «السيمورغ» في «منطق الطير» لفريد الدين العطّار. وكتاب الرحّالة ماركوبولو والأوديسة لهوميروس. وأسفار غليفر لجوناتان سويفت. ورحلة الشرق لجيرار دونرفال. وأسفار تشايلد هارولد لبايرون. وأليس في بلاد العجائب للويس كارول. وروايات جول فيرن ذات الخيال العلمي الفذّ الذي سبق إنجازات العصر الحديث بأعوام عدة في غزو الفضاء وأعماق الأرض والبحار، وأسفار السندباد البحري الشهير بأخباره الأسطوريّة في ألف ليلة وليلة.

وذلك كلّه قليل من كثير من ظاهريّات السفر. ولعلّ أمتعها ما يقوم به المرء داخل ذاته.

 

 

هنري فريد صعب