الأيام الجميلة!

الأيام الجميلة!

أعرف أنك لست لي! أنت لأولئك الذين تكتب لهم، تكتب عنهم! كثيراً ما باح لسانها بمثل هذا، وساعة ينتابها الغضب، فإن صرخاتها تترامى إلى سمعه وهو مغلق الباب على نفسه يقرأ أو يكون منعطفاً على أوراقه يكتب، والمرأة الأخرى تلك، كثيراً ما صرّحت لابنته، معبّرة عن إعجابها:

- ما أسعد أمك بأنها زوجة كاتب!

ليس له أن ينسى ساعة خرجت من البيت، في ذلك المساء الممطر! وهو يذكر جيداً الجهد الذي بذل ليحول دون خروجها، حتى بلغ حد المنع القسري، وهي تتعلل بأنها وعدت صديقاتها وتحرص على ألا تنكث وعدها، وبأن مظلة في يدها تقيها شر المطر، وأن أي سيارة أجرة كفيلة بأن تُقلها إلى حيث تريد! وعادت إليه، في آخر الليل، مبلولة، لترتمي في سريرها، وتعتذر له، للمرة الأولى في حياته وفي حياتها:

- شدَّما عذّبتُك!!

هل كانت تدرك أنها تستقبل الموت؟ لقد فاضت روحها أمام عينيه، مغسولة الوجنتين بالدموع، غسلاً خُيل إليه أنه بلغ أعماق نفسها.

تلك الساعة، وجد نفسه يبكي، أمام جثمانها المسجّى، مثل طفل، ناسياً ما تقدم من ذنوبها وتأخر. فلما أفاق، واستحضر شيئاً مما تختزنه ذاكرته، انكفأ يرثي لحاله، رثاها مرّتين، لأنه فقد إلى الأبد رفيقة العمر، ورثى نفسه ثانية لما تحمّل من عذابات السنين.

يذكر ابنته «رحاب» يوم رافقت أمها، في تلك الزيارة المشهودة للسيدة «مليكة»، في منزلها الأكثر أناقة بين بيوت الحيّ، وقد عادت لتروي له - وهو «الروائي» - نبذاً من حياة مليكة، الشابة الجميلة، التي تروّض نفسها على الرضا بزوج بدا أنها لا تحمل له كثيراً من الودّ، نقلت ابنته له - ولماذا نقلت؟ - ما كان جديراً بأن يثير زوبعة في البيت الذي لا تنقصه الزوابع، الجارة الشابة تقول مبهورة:

- أنت زوجة لكاتب، يستلهم الأفكار، يجمع الكلمات، ينظمها في كتاب، فما أسعدك به، يا جارتي! وأما زوجي أنا، فإنه يجمع.

عندما أكملت ابنته العبارة، انتهرتْها أمُّها:

- سُدّي فمك!

احتجّت بنت العشرين ربيعاً:

- ولماذا أسدّ فمي؟

- امرأة تعيش في نعيم، وتحنّ إلى الحرمان!

- أبي لا يحرمك من شيء.

- أفكار، ينحت فيها ليل نهار، لنسد بها الرمق!

كان هذا الكلام الذي تسمعه ابنته من أمها يؤلمها أكثر مما يوقع في نفسه هو من الألم، ولكن الجديد الذي دخل حياة أسرته الصغيرة، هو الحديث عن تفاصيل حياة الأسرة التي حلّت في الحي حديثاً. بدا أن هم «الجار»، زوج مليكة، كان منصرفاً إلى جمع المال، وكان متاحاً له أن يضم إلى ممتلكاته زوجة تزيّن حياته، وإن لاح أن التزيّن أو التزيين لم يكن الإحساس به متبادلاً بين الطرفين. مما سمع - وهو يحسن الإصغاء بصفته كاتباً يؤلف الروايات - أن الرجل، يوم طلبه يد الفتاة، كانت تعد نفسها لدخول الجامعة طالبة تهوى الأدب، وتملأ دفاترها بما تختار من الأشعار، وتكتب خواطر لا نهاية لها. وعدها بأن يهيئ لها ما تريد من فرص الدراسة، ولكن بعد أن دخلت بيته أخلف الوعد.

- تريدين أدباً، علماً، معرفة؟ اقرئي في البيت كتباً آتيك بها!

ثم، في «الدارة» (الفيلا) التي ابتناها لها، كانت الهواية - تصارح مليكة ابنته - «قد استحكمت بي، حتى ملأت دفاتر بما أسمّيه روايات اجتماعية..»، وزوجها، المكتهل في أوانه، يمازحها:

- والله ما أرى آخرة هذه الدفاتر إلا عند «البقال أبو عبده»، يصر بأوراقها «القضامة» للأولاد!

وتهمس مليكة: «لم يعد هذا الكلام يزعجني كثيراً!».

لما نزلت مليكة الدارة التي آثرها بها زوجها، وعرفت أن وراء تلك النافذة، ذات الضوء الوردي، يجلس، في الليالي الساجية، كاتب يؤلف الروايات، هو من سبق لها أن قرأت له ومنحته إعجابها، سعت إلى التواصل مع أسرته، وفي صالة بيتها، التي تتوزع على جدرانها وأركانها اللوحات والتحف وخزائن الكتب أيضاً، جعلت تحدّث زوجته، وكأنها لا تصدّق:

- يعني.. الأستاذ يجلس في غرفته تلك، ترينه أنت منعطفاً على أوراقه، يكتب بقلمه ما يتنزّل عليه من أفكار.. إن هذا لشيء رائع حقاً!!

وزوجته تقول:

- لا يغرّنك هذا! ما هو إلا رجل مثل سائر الرجال! (وتضيف) إنه يعتني بـ«بنات أفكاره» أكثر مما يعتني بي!

وساعة تعود من زيارتها، ينصبّ حديثُها على فخامة الدارة، ومحتوياتها، وأن صاحبها «زوج كهذا، وإلا فلا».

كانت لا توفّر فرصة للنيل منه في ممازحة أو معابثة. وهي تسمّي ما يعتريه من «شرود» أحياناً بـ«ذهول العباقرة»، وتحدّث صويحباتها عن وقفته، مرة، أمام المرآة يحلق ذقنه، ضغط على ماسورة المعجون، ثم ما درى - وهو يرغي بالفرشاة - ما إذا كانت يده تناولت ماسورة معجون الحلاقة أو الأسنان! لاحظت زوجته حيرته، ومع أنه تبين أنه لم يخطئ في التناول، إلا أنها استثمرت هذه الواقعة، بأن أخذت تحدّث صويحباتها بأن زوجها، الذاهل دائماً، يحلق بمعجون الأسنان، فأخذن يضحكن عالياً، ورحاب تعترض:

- أمي! أبي داخله الظن، ولكن الأمر لم يكن كذلك! (ثم، في الطريق إلى البيت) لماذا تجعلين أبي أضحوكة لصاحباتك، يا أمي؟!

والأمر المفارق أنه طفق يلاحظ أن زوجته بقدر ما تضائل من شأنه، فإنها تعتد بما تملك من خصال ذاتية، وخاصة ما وهبتها إيّاه العناية من جمال ربّاني، وهي لاتزال تردّد أنها «أجمل نساء البلد!»، وأنها أكثرهن أناقة. وإنه ليحلو لها أن تعتمر، في خروجها من البيت في بعض المرّات، «البرنيطة» ذات الحواف، تنسدل فيها على الوجه «الدانتيلا» المحلاة بشوائب تلتمع!، وكانت كثيراً ما ترد على لسانها كلمة «التأنق»، مرافقة بكلمة أخرى «التألق». وإزاء إسرافها في التغالي والتعالي، تضطر رحاب إلى تذكيرها بما في أبيها من جميل الصفات، هيئة بهيّة إن صمت، فإن تحدّث كان له حضور لافت، فضلاً عمّا تبدعه أنامله من أدب يستهوي القرّاء في كل الأنحاء. وإن لم يكن «المردود» المادي من الأدب يكفي لابتناء دارة كتلك التي تسكنها مليكة، فإن الأسرة الصغيرة - المؤلفة من الوالدين وابنتهما - بحسبها أنها تحيا في بحبوحة، لا تنقصها ملكية البيت المزوّد بالتكييف والتدفئة.. «وماذا بعد، يا أمي؟!».

على أن الأم تعترف أحياناً بأن الجمال زائل، وأن صيت الأديب يظل في ارتفاع! فتنهض الابنة إليها، تروم تقبيلها على ما نطق لسانها من «قولة حق»، وكأن الأم تفطن إلى ما فاهت به في «لحظة ضعف»، فتردّ ابنتها قائلة:

- ابعدي عنّي!

وهو لم يكن يشتكي من واقع سقط فيه، كان قد استسلم لقدره، منذ تبيّن تلك «العاطفة» تعتمل في صدر امرأة، بدا أنها عجزت عن أن تحقق ذاتها بغير ما تتمتع به من ميزة لا يد لها فيها. وكان يحجم عن أن يسمّي تلك العاطفة بما تستحق، الغيرة! وهل يمكن أن يكون لمثل هذه العاطفة البغيضة مكان في حياة زوجين؟

ولقد قاده التفكير، منذ أخذ طيف مليكة يطوف في فضاء الأسرة، إلى ما قد يكون عند باني الدارة الفخمة، من عاطفة مشابهة، ولكنه علم أن الرجل - بما يحمل من عبء سنين تعد ضعف ما عند زوجته المولعة بالقراءة والكتابة - دائم العناية بمظهره، وإذا كان يعمد إلى أن يسوّد شعره، فإنه لم يوفّق في استنبات ما ذهب منه. ولكنه اعتاد ممارسة أنواع من الرياضة الهيّنة، أبسطها الجري مع المتريّضين أمثاله، في مضمار ملعب، ساعة من كل صباح، للمحافظة على لياقته البدنية. ولكن بدا أنه تجاوز الهيّن من الرياضات، بأن نهد يوماً إلى جبل يقصد التزلّج على الثلج، فزلّت قدمه - أمام عين مدرّبه - فانكسر منه عنق الفخذ، وهو شر ما يحيق بمن هم في سنّه، وحمل مكسوراً، وكان أن خضع لجراحات طالت فيها علّته، ثم مات.

فكانت المفارقة التي تثير الخاطر، موت في ليل تحت المطر، وموت فوق الثلج في وضح النهار، هل يلعب القدر لعبة! ألا يكون هذا موضوعاً لرواية؟!

لطالما وقف، قبل رحيل الاثنين، وراء النافذة، يستروح النور، والشمس، والهواء العليل، ووابل المطر، ونديف الثلج. وأما الأرض العراء - التي تفصل بين النافذتين ولما يئن لها أن تعمّر - فقد عرف تضاريسها جيداً، ما ارتفع فيها وانخفض، وعرف ألوان التربة، وما ينبت فيها من أعشاب، ومن أزهار البابونج والـ«محلى زمانه»! وفي الليل يرعى النجوم، ويستضيء بنور القمر. وفي أثناء ذلك كله، يلمحها من وراء نافذتها، حتى إذا تبيّنت شخصه، تسمّرت وراء الزجاج، أو فتحت المصراعين معاً على إطارهما، و.. تتعانق النظرات، عبر المسافة الممتدة بين النافذتين، الأدبيّتين!

مطر وثلج.

رحيلٌ، ورحيلٌ آخر.

أهي مصادفةٌ، أم أنها من عبث الأقدار!

بعد السقوط فوق الثلج، أرخَت مليكة ستائرها. فلمّا آن لها أن تزيحها، رآها امرأةً أخرى!

ثمّ.. ليس يدري كيف حلّت مليكة في بيته مليكةً لقلبه!

أجل، أجل.. إن مثل هذا لا يحدث إلا في الأحلام، في الأفلام.

مليكة، التي كانت تحدّث مبهورة، «يعني.. يجلس.. ترينه يكتب.. ما أسعدك به..»، قد كافأها الزمن، وكافأه.

إنها تمنحه، اليوم، حباً دافئاً، وحناناً دافقًا، وإبداعاً فذّا.

تفتح عليه الباب بهدوء، تقترب، مثل ملكٍ نزل من السماء، تريح رأسها على كتفه.

- هل كتبتَ الآن جميلاً، يا حبيبي؟ دعني أقرأ آخر السطور!

ودفاترها تلك لم تذهب إلى بقال الحيّ. أنت بها، بكل ما اغتنت به من خواطر وحوادث وأحاسيس. وفي الغرفة هنا، وراء نافذته، يتحوّل الأدب الواعد إلى أدب جدير بأن يقرأه الناس. يقترب منها. يريح رأسه على كتفها. تتوقف عن الكتابة.

- هل أقرأ آخر الكلمات، يا حبيبتي؟

وفي الليالي الباردة، ساعة يأوي إلى سريره، تأتي إليه بكيس الماء الساخن، تدسّه تحت اللحاف. تلذعه السخونة، تقيه منها بجورب قطني طويل الساق، أبيض مما يتخذه الرياضيون، وتجهد في إلباسه إياه.

إنها الأيام الجميلة، التي ما كان لأحلامه أن ترقى إليها!

لحظة كتب آخر كلمة في الفصل بين يديه، ترامت إلى سمعه، عبر النافذة، أصوات نادبة، بكاء وصراخ وعويل. ألقى بالقلم. نهض يستطلع، فتح النافذة، أرسل بصره.

الجار، الذي طالت علّته بعد السقوط فوق الثلج، أسلم روحه اليوم. يشيّع الآن إلى مثواه، ومليكة أصبحت أرملة حقيقة.

خرج من الحلم.

يعزّ عليه أن يمشي وراء نعش من ظل يتخيّل نفسه زوجاً لزوجته، يذهب للتعزية مساء.

اختلطت الأوراق، وتداخلت الوقائع على الأرض بما تنسجه الأحلام.

سيعيد الترتيب.

منذ الغد يشرع، تساعده رحاب.

 

 

فاضل السباعي