ثقافة العنف.. د. أحمد أبوزيد

ثقافة العنف.. د. أحمد أبوزيد

في عام 2008 صدر للكاتب البلجيكي مارتن فان كريفلد Martin Van Kreveld كتاب مثير, ترجم إلى الإنجليزية بعنوان ثقافة الحرب The Culture of War تساءل فيه عما إذا كانت الحروب وجدت لتستمر وتظل قائمة إلى الأبد? وأجاب عن ذلك التساؤل بالإيجاب مع اختلاف أسباب ودوافع الحروب باختلاف الزمان والمكان، وأن الحروب وكل مظاهر وممارسات العنف التي عرفها التاريخ البشري تنجم عن الطبيعة البشرية ذاتها, ولذا فهي عنصر ثابت ودائم في التاريخ البشري, وملازم للحضارة الإنسانية خلال كل مراحل تطورها.

فعلى الرغم من كل ماحققته الحضارة من تقدم ورقي، وعلى الرغم أيضا من كل شعارات السلام التي ترفعها المنظمات الدولية ويدعو إليها الكثيرون من مفكري العالم، فإن القرن العشرين يعتبر من أكثر فترات التاريخ عنفا وأكثرها دموية، ويكفي أن يعود المرء بفكره إلى ماحدث من مذابح ومجازر وتدمير وتشتيت للبشر خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، فضلا عن الحروب الإقليمية والمحلية بين مختلف الشعوب، وبخاصة في العالم الثالث. وقد تولّد عن كل هذه الأحداث والمظاهر شعور بعدم الارتياح والانزعاج والإحباط إزاء الواقع الملموس، من أن الكائن الحيواني العاقل الوحيد في هذا الكون - وهو الإنسان - هو في الوقت ذاته الكائن الحيواني الوحيد الذي لديه الرغبة والاستعداد والقدرة على قتل وإبادة أيّ عدد من أفراد نوعه دون أن يخالجه الألم والندم.

ولقد تعددت أسباب الالتجاء إلى العنف الذي يصل إلى حد القتل والتدمير وتفاوتت ابتداء من الصراع على القوت والطعام في أشد المجتمعات تأخرا وبداءة، إلى النزاع على تملك الأرض والموارد الطبيعية، إلى الرغبة الجامحة في التسلط وإثبات الذات على حساب وجود الآخرين، إلى مناهضة الأفكار والآراء والفلسفات والأيديولوجيات ورؤى الحياة المخالفة.. وهكذا بغير نهاية. فالجنس البشري، أو بالأحرى الإنسان العاقلhomo sapiens هو أكثر الرئيسات عنفا وعداوة وعدوانا واعتداء بالنسبة لأفراد فصيلته، وبخاصة من الإناث، مع أن أقرب الرئيسات الأخرى إليه وهي فصيلة الشمبانزي المعروفة باسم البونوبو Bonobo تتميز بقدر كبير من الرقة واللين والابتعاد عن العنف والصدام، سواء في التعامل فيما بينها أو مع الآخرين بحيث اشتهرت بين الأنثروبولوجيين بأنها «من أنصار السلام».

العنف للترفيه!

ولقد كانت ممارسات العنف والقسوة وتعذيب الحيوانات في بعض المجتمعات مصدر تسلية وترفيه للجماهير، كما هو الشأن الآن في مصارعة الثيران في إسبانيا، أو صراع الديكة في عدد من المجتمعات الأخرى. وفي القرن السادس عشر كانت بعض مسارح باريس تقدم (عروضا ترفيهية) تقوم على تعذيب القطط. فكانت القطة تربط في سلك مدلّى من سقف المسرح وتوقد تحتها نار بحيث يهبط السلك نحوها شيئا فشيئا ببطء شديد بينما تصرخ القطة وتتلوى وتنتفض بعنف مع تزايد الحرارة إلى أن تتفحم تماما، بينما تضحك الجماهير وتتصايح وتهتف وتصفق في مرح هيستيري شديد وهكذا. فالعنف لايقتصر إذن على سلوك الإنسان إزاء بعضهم بعضا ولكنه يتعدى ذلك إلى أشكال الحياة الأخرى، بحيث يذهب البعض إلى اعتباره عنصرا أساسيا في التكوين البيولوجي للإنسان، وهو الأمر الذي رفضه صراحة الاجتماع الدولي للعلماء الذي عقدته اللجنة الوطنية الإسبانية لليونسكو في إشبيلية عام 1986، ثم تبنته المنظمة في الاجتماع الخامس والعشرين لمؤتمرها العام في 16 نوفمبر 1989.

فلقد أعلن ذلك الاجتماع الدولي للعلماء عن رفضه «فكرة أن العنف الإنساني المنظم هو أمر مقرر بيولوجيا»، وشفع ذلك الإعلان بعدد من الأحكام المهمة القاطعة، التي تقرر أن من الخطأ علميا الاعتقاد بأننا ورثنا الميل لشن الحروب من أجدادنا الرئيسات الحيوانية؛ وأن من الخطأ علميا أن نقول إن الحرب مثلا - أو أي سلوك عنيف آخر - أمر مبرمج جينيا في طبيعتنا البشرية؛ كذلك من الخطا علميا القول إنه أثناء عملية التطور البشري كان هناك انتخاب طبيعي للسلوك العدواني بدلا من أي نوع آخر من السلوك؛ وأن من الخطأ علميا كذلك أن نقول إن عقول أو أدمغة البشر عقول عنيفة violent brains بطبيعتها؛ وأخيرا فإن من الخطأ علميا أن نقول إن الحرب تنشأ من «الغريزة» أو من أي باعث آخر واحد فقط. وينتهي قرارالاجتماع إلى أنه «إذا كانت الحرب تبدأ في عقول الناس، فإن السلام يبدأ هو أيضا في عقولنا، وأن الجنس البشري الذي اخترع الحرب قادر على اختراع السلام، وأن المسئولية ملقاة بالكامل على عاتق كل واحد منّا». وعلى ما يقول الفيلسوف الإسباني الشهير خوزيه أورتيجا إي جاست: «ليست الحرب غريزة، ولكنها اختراع».

مباديء الغرب المزيفة

ولكن يبدو أن هناك فارقا كبيرا بين المبادئ والتوصيات والقرارات والشعارات النظرية المثالية، وبين الحقيقة الملموسة والممارسات الواقعية في الحياة اليومية... فعلى الرغم من كل مايقال وما نص عليه اجتماع إشبيليه من أن مقاومة العنف وثقافته هو واجب كل فرد، وأن هناك إجماعا على ذلك من الناحية الأخلاقية، فإن الواقع يناقض ذلك الإجماع على كل المستويات أيضا. وخير دليل على ذلك هو أن الغرب الديمقراطي المناصر لحقوق الإنسان هو الذي يتولى تصنيع وتصدير السلاح وشن الحروب المدمرة وإيقاع الأذى بالمدنيين وممارسة العنف النفسي والاجتماعي - إن لم يكن الفيزيقي - ضد السكان الوافدين والمهاجرين إليه من الدول الأخرى، وهو الذي يحاول تطوير أسلحة الدمار الشامل، بالرغم من أنه يحمل شعار ثقافة السلام ونبذ العنف. ومن الطريف مايلاحظه بعض الكتاب من أن الاقتصاد القائم على صناعة السلاح يحتاج إلى أن يبحث عن أعداء له لاستخدام واستهلاك ذلك السلاح، وعلى ذلك فإن الدول المصدّرة للسلاح هي مصدر العنف والإرهاب والحروب، لدرجة أنه بعد انتهاء الحرب الباردة (اخترعت) أمريكا عدوا لها اسمه الإرهاب لتنشيط ذلك الاقتصاد.

بل الأكثر من ذلك أنه على الرغم من الشعور العام بأخطار العنف على حياة المجتمع ككل وضرورة التصدي له بمختلف الوسائل، بمافي ذلك الالتجاء للعنف المضاد- رغم مافي ذلك القول من مفارقة - فإن هناك من المفكرين من يرى أن للعنف جانبا إيجابيا لايمكن إغفاله أو التغاضي عنه، وهو دوره في صنع الحضارة الإنسانية التي يهدد العنف أيضا وجودها في الوقت نفسه. فالعنف عامل خلق وتدمير في وقت واحد. وقد أدت الحروب والاعتداءات في كثير من الأحيان إلى القضاء على كثير من ألوان التخلف مع إحلال مظاهر ونظم جديدة أكثر تطورا ورقيا. وإذا كان تاريخ الحضارة الإنسانية مليئا بالعنف والقتل والدم، وأنه تاريخ دموي إلى حد كبير، فإن ذلك العنف الدموي كان دائما وأبدا أداة ووسيلة، بل واستراتيجية لنشر الحضارة، ولكن يبدو أن هذا المنطق هو وسيلة لتسويغ وتبرير حركات الاستعمار.

العنف يجتاح العائلة

فمجال ومظاهر وأفعال العنف تتعدى مجال الحرب والإرهاب وإن كانا يمثلان العنف في أقصى درجاته من القسوة والدمار والخراب وإلحاق الأذى بالآخرين. فالعنف سلوك له تأثيراته السلبية على العلاقات بين البشرحتى في المجالات التي تبدو بمأمن منه، كما هو الشأن بالنسبة للعلاقات الأسرية المباشرة والحميمة. فالعنف العائلي يزداد انتشارا وفظاظة في جميع أنحاء العالم لأسباب مختلفة كثيرا ماتكون تافهة ولا تستدعي العدوان والاعتداء. وبالرغم من أنه يوصف بأنه (عائلي)، فكثيرا ماتترتب عليه مشكلات تتجاوز نطاق العائلة وتتطلب تدخل هيئات ومنظمات ومؤسسات متخصصة. والأمر نفسه يصدق على العنف الذي يتعرض له الأطفال سواء داخل العائلة أو في المدرسة أو في الشارع، وهذه مشكلة تناولها تقرير هيئة الأمم العالمي عن العنف ضد الأطفال، وكذلك البرنامج العالمي لحقوق الإنسان والعقد العالمي (2001 /2010) لثقافة السلام وعدم العنف ضد الأطفال في العالم، فضلا عن الندوات والمؤتمرات التي تعقدها اليونسكو مما يشير إلى مدى انتشار وخطورة ذلك السلوك على مستوى العالم . ولم تقتصر كل هذه المعالجات والندوات على رصد أفعال العنف الفيزيقي أو البدني, بل كانت تتطرق إلى آثاره على الصحة العقلية لضحاياه, وبخاصة الأطفال والنساء, كما تتناول العنف غير المباشر الذي يتخذ شكل التهديد والوعيد وتوجيه الإهانات والشتائم وما إليها، وكذلك العنف الذي تمارسه علنا بعض الجماعات والعصابات الإجرامية، والعنف الجنسي وصوره العديدة حتى في إطار العلاقات الزوجية المشروعة. وانتشار العنف على مستوى العالم يجعل منه نمطا سلوكيا يفرض نفسه بقوة على الحياة اليومية المعتادة، على الرغم من تعارضه مع النظم المعمول بها, ومع قواعد العرف وقيم الثقافة العامة السائدة والمتوارثة، بحيث يصبح ثقافة فرعية خاصة تؤمن بممارسة كل ألوان الاعتداء المنهجي المنظم على حقوق الإنسان الأساسية وإيذاء لكيانه فيزيقيا ونفسيا ومعنويا، وتحرمه من حق الشعور بالحياة الآمنة الكريمة القائمة على العدل والمساواة. والأغلب أن هذه الثقافة الفرعية ثقافة العنف تنشأ استجابة للأوضاع المتردية التي يعاني منها بعض فئات المجتمع الذين يشعرون إزاءها بقسوة الحياة وتعرضهم للظلم والتهميش نتيجة الفقر والبطالة والفساد والتفاوت الاجتماعي الصارخ، فهي وليدة الخلل والتفكك الاجتماعي ولكنها تمثل في الوقت ذاته نوعا من التمرد على تلك الأوضاع والتحدي لسلطة المجتمع الذي يتقبل هذه الأوضاع، بل ويستمد في كثير من الأحيان شرعية وجوده منها.

العنف ابن الاعلام

ويساعد على ترسيخ تلك الثقافة الفرعية واستمرارها وانتشارها على نطاق واسع الدور السلبي الذي تقوم به وسائل الإعلام المختلفة بما تنشره من أحداث العنف بصورة تداعب الخيال, وبما تبثه من برامج يغلب عليها طابع العنف والإثارة، مما يشجع الشباب على محاكاتها والاقتداء بها في حياتهم اليومية وفي تعاملهم مع الآخرين. فالعنف الذي يظهر على شاشة التلفزيون تسهل ترجمته إلى أفعال مماثلة في واقع الحياة. وتدل بعض الإحصائيات على أن حوالي 50% من جرائم القتل التي تبلغ خمسا وعشرين ألف حالة سنويا في الولايات المتحدة مردّها إلى تأثير التلفزيون, وعرضه المثير والمشوّق لأشكال الجرائم المختلفة وتنوع أساليبها وإضفاء البطولة على مرتكبيها. وليست المسألة على أية حال مسألة أرقام وأعداد بقدر ماهي مسألة التأثير الذهني للسلوك الإجرامي على الناس وتشجيع الالتجاء إلى العنف والقتل لحل المشكلات أو حتى لمجرد التباهي وإثبات الذات. فالناس في ثقافة العنف يبدون دائما في عجلة من أمرهم للتهور والاندفاع والصدام, ويعتبرون ذلك حقا لهم لأن العنف يمثل بالنسبة لهم إحدى القيم التي تعلي من شأن صاحبها، وأن التخلي عنها يستوجب اللوم ويجلب العار.

كل هذا يثير التساؤل عما عسى أن يكون عليه الحال في المستقبل، وهل سيظل العالم أسيرا لهذه الأشكال المختلفة من أفعال العنف, التي كثيرا ماتؤدي إلى القتل والتدمير؟

معظم الآراء تكشف عن درجة عالية من التشاؤم وترى أن العنف جاء ليبقى بل وسوف يزداد ضراوة وشيوعا نتيجة للتغيرات السريعة التي يشهدها العالم والتي تساعد على تفكك الروابط الاجتماعية على كل المستويات، فالفيلسوف البريطاني الكبير كارل بوبر على سبيل المثال - يقول إن الكثيرين في كل أنحاء العالم يكرهون العنف ويتمنون لو أمكنهم القضاء عليه تماما بكل أشكاله وصوره, وليس فقط القضاء على الحروب باعتبارها ذروة العنف ضد الإنسانية جمعاء. ويذهب إلى أن هناك آمالا عريضة لتحقيق ذلك عن طريق الجهود الصادقة التي تبذلها المنظمات والهيئات المعنية بمستقبل المجتمع الإنساني القائم على العدل والسلام. ولكنه يعترف في الوقت نفسه بأن هذه الجهود تنتهي دائما بالفشل والتراجع، وأن «عصر العنف» الذي شهد حربين عالميتين، وازدياد العنف الفردي والجماعي على كل المستويات لم ينته بعد، بل ويبدو أنه في تزايد مستمر ويتخذ أشكالا لم تكن معروفة من قبل.

ولكن هناك من يرى أن الوضع ليس على كل هذه الدرجة من السوء، لأن هناك قوى أخرى مناوئة للعنف وقادرة على أن تحد من استفحاله إذا أحسن توجيهها والإفادة منها... من هذه القوى الاهتمام الحالي في كل أنحاء العالم بالتعليم المتطور الواعي بمشاكل المجتمع الإنساني وبقيمة الإنسان في ذاته ولذاته ومعنى الإنسانية والحقوق والواجبات المفروضة على الفرد مع تنمية الشعور بالمواطنة والقضاء على النعرات العرقية والدينية، إلى جانب التنمية والتعريف بمفهوم المجتمع الكوكبي والمواطنة الكوكبية.

أسلافنا أكثر قسوة؟

بل إن ثمة اتجاها لدى الكثيرين يرى أن التحديث ونظمه الثقافية تؤدي إلى ارتقاء المشاعر الإنسانية. فأسلافنا كانوا على مر العصور أشد قسوة وعدوانية وعنفا من الأجيال الحالية، وأن الوقت الحالي هو أكثر فترات التاريخ البشري أمنا وسلاما بالرغم من كل ما شاهده ويشهده من حروب واعتداءات وانتهاكات فردية وجماعية ودولية، وخروج على كل القيم والأعراف. وفي دراسة أجراها أستاذ الجريمة مانويل آيزنر Manuel Eisner في عدد كبير جدا من القرى في عدة دول، اكتشف أن معدلات جرائم القتل في أوربا تقلصت من مائة حالة لكل مائة ألف نسمة من السكان في السنة في العصور الوسطي إلى أقل من حالة واحدة لكل مائة ألف نسمة في الوقت الحالي، وأن هناك تراجعا ملحوظا في أعداد القتلي في الحروب العرقية والثورات والانقلابات العسكرية. ولكن هل يستطيع البشر بالرغم من هذه العوامل الإيجابية تغيير سلوكياتهم وأفعالهم وأفكارهم بسهولة ويسر وبالسرعة المطلوبة؟!

الأمر يحتاج على أية حال إلى بذل كثير من الجهود لتغيير الأوضاع المتردية في معظم دول العالم والتي تدعو إلى اليأس والإحباط، وتدفع إلى التمرد والالتجاء إلى العنف، وهذه في الأغلب أوضاع من صنع المجتمع نفسه كالتفاوت الاجتماعي والاقتصادي وغياب القدوة الرشيدة الرائدة وإساءة استخدام السلطة والتحكم الشديد في أقدار الآخرين وإهدار آدميتهم وانتقاص شعورهم بالكرامة الفردية وغير ذلك من مظاهر الخلل في العلاقات الإنسانية، إنما لابد من بذل جهود أخرى مضاعفة لتغيير أو تعديل وتهذيب ثقافة العنف ولا نقول القضاء عليها، لاستحالة ذلك بحكم طبيعة المجتمع الإنساني والعلاقات بين البشر، فتغيير ثقافة قائمة مهما كانت فرعية ومرفوضة من المجتمع الوطني أو القومي لكي يحل محلها مفاهيم وقيم جديدة، يحتاج إلى عقود طويلة، لأن جانبا كبيرا من أي ثقافة يتعلق بالقيم والمبادئ التي تحكم العلاقات والسلوكيات والتي يؤمن بها المنتمون لتلك الثقافة، وإذا كان هناك من يقول إن الثقافة صناعة بشرية، فهناك على الجانب الآخر من يرى أن الثقافة هي التي تصنع الإنسان وتشكل سلوكياته وعلاقاته ونظرته إلى الذات وإلى العالم. فالعلاقة بين الاثنين علاقة تفاعل وتـأثير متبادل وأن قبول الثقافة والخضوع لمبادئها ومعاييرها وقيمها هي عملية تربوية طويلة ومعقدة تبدأ من علاقة الأم بوليدها ثم تتولى أوضاع المجتمع وظروفه وأحداثه وتاريخه بعد ذلك رعايتها وتوطيدها وترسيخها، بحيث تصبح سلوكا مقبولا من أعضاء الجماعة الثقافية.

وقد يمكن اللجوء الى التشريعات وسن القوانين لمكافحة العنف وحصرانتشاره والتخفيف من آثاره وليس القضاء عليه تماما ولكن الوسيلة الناجعة في محاربة العنف هي نوع التربية والتعليم والتنشئة الاجتماعية التي يخضع لها الفرد طيلة حياته والمؤثرات الثقافية التي يتعرض لها، وبخاصة من وسائل الإعلام. فالاعتماد على القانون والتشريع لن يؤدي إلى اختفاء العنف تماما بل إنه قد يؤدي إلى العكس وذلك رغبة في التحدي، ودليلا على الوجود في الساحة وإثبات الذات، خاصة أن كثيرا من أحداث العنف تأخذ الآن الشكل الجماعي الذي يهدف إلى السيطرة على الشارع في المدن الكبرى. فالقضاء على العنف لن يتحقق إذا تحقق - إلا من خلال التوعية الطويلة المستنيرة والهادفة، التي تلجأ إلى الحوار الذي يهدف إلى التوصل إلى نوع من المواءمة والفهم والتقارب ومراعاة الحقوق والواجبات. ويبدو أن ثمة إدراكا عاما لهذه الحقيقة التي قد تؤدي إلى ظهور مجتمع أكثر أمنا وسلاما بالرغم من شكوك مارتن فان كريفلد.

 

 

أحمد أبوزيد