جمال العربية فاروق شوشة

جمال العربية

"العقاد والسينما توجراف"

في المقدمة التي كتبها لديوانه "بعد الأعاصير" يقول الكاتب والشاعر عباس محمود العقاد وهو يوضح حقيقة الشاعر العصري ومعنى "العصرية" في الإبداع:

"الشاعر العصري يعاب على تغنيه بالناقة والطلل إذا كان غرامه بهما حكاية للأقدمين لا تتصل بشعوره وتجارب حياته، أما إن كان يغشى الصحراء ويركب الإبل ويقف على أطلال الهياكل فالتجديد العصري يدعوه إلى النظم في هذه الأغراض ولا يحرمها عليه.

والشاعر العصري يعاب على مديحه إن كان يثني على الممدوح بما ليس فيه وبما يعلم أنه ليس فيه، مستجديا رفده مغالطا نفسه وقومه، ولكنه إذا أحس الإعجاب برجل عظيم فصدق في الإعراب عن إحساسه بعظمته فهو أجد المجددين.

والخيل لم توصف قديما لأنها وسيلة سفر أو وسيلة قتال، بل وصفت لما بين حياتها وحياة الفرسان من التجاوب والتلازم في السفر والمقام والسلم والحرب. وهي عصرية في زماننا هذا كما كانت عصرية في زمان امرئ القيس، وقد يكون وصفها أولى بالشاعر المعاصر من وصف الطيارة على أحدث طراز".

ولقد كان العقاد الشاعر شديد العصرية وهو يصور اهتزاز وجدانه بفن جديد يقتحم حياة الناس في العصر الحديث هو فن السينما أو السينما توجراف كما سماه. ولأن العقاد المثقف والمفكر يعيش دوما بوعيه وشمول معرفته في عالم الصحو واليقظة والتنبه الكامل، فهو يستقبل هذا الوافد الجديد استقبال المتسائل عن حقيقته، وطبيعة العلاقة الروحية بين مبدعه المصور ومبدع الشعر، وكلاهما يستخدم الصورة وسيلة للكشف عن المعنى وتوصيل الرسالة. إنه فن تختلط فيه الحياة بالموت والأحياء بالموتى ويبعث الراحلون من قبورهم لأن حياة الفن قد دبت فيهم، وهو فن يكشف الحجاب المسدل على قدرة العيون المبصرة لترى بالخيال والإلهام ما لا يمكن إدراكه بعين الواقع، كالمعجزة التي حدثت للرسول الكريم في ظاهرة الإسراء عندما هيئ له أن يشاهد القدس وأن يعاين مشاهدها ورؤاها وهو في مكة لم يغادرها.

ويختتم العقاد وقفته الشعرية المتسائلة مع فن "السينما توجراف" بالإشارة إلى عصر المعجزات في مجال الصناعة، وهو عصر لن يتوقف عند مدى معين، ما دامت رسل العلم والمعرفة والدرس تتوالى ويتتابع عطاء عبقريتها في مجال الخلق والابتكار.

يقول العقاد:

بربك ماذا في ستائرك الطلس

أأشباح جن تلك تظهر للإنس

إذا لم تكن جنا فما لي عهدتها

تفر فرار الجن من طلعة الشمس

ستور ولكن يكشف النور عندها

فنونا من الأسرار تخفى على النفس

كأني أرى فيها قريحة شاعر

مصورة للناس في عالم الحس

وكالعين إلا أنها تمسك الرؤى

وترسلها رسما تراه على الطرس

ترد تجاليد القبور كواسيا

وتبعث أشخاص الرفات من الرمس

وتحمدها عين الغريب لأنها

تنوب بها الرؤيا لديه عن الحدس

تحيط عن الطرف الحجاب كما رأى

نبي الهدى في مكة صورة القدس

وكم معجزات للصناعة بيننا

يجيء بها رسل المعارف والدرس

نشر العقاد قصيدته هذه تحت عنوان "السينما توجراف" ضمن قصائد ديوانه "يقظة الصباح" الذي صدر في عام 1916 ثم أعيد نشره مع دواوين أخرى للعقاد بعنوان "ديوان العقاد" عام 1928، ومعنى هذا أن العقاد كان أسبق شعراء عصره تنبها لفن السينما الوليد، وأكثرهم التفاتا إلى هذا الاختراع الفني الجديد الذي سيزاحم خيال الشاعر وصورة المصور، ويستثير مكامن الحس وخفايا الوجدان في أعماق الناس. ولم يكن العقاد - في نبوءته الشعرية المبكرة - بعيدا عما آل إليه أمر هذا الوليد العجيب الذي سرعان ما استولى على اهتمام الناس، وأتاح لهم - خاصة المعدمين منهم واليائسين - حالا من التحقق الوهمي والمعادل الخيالي لواقع فارغ جدب، وحياة لا تمتلئ بشيء؟ ومعاناة تدفع إلى اليأس والقنوط.

ثم يعود العقاد مرة ثانية إلى الاهتمام بعالم السينما ونفاذ تأثيره من خلال عشق الناس للمشهد المجسد المصور، والخيال الناطق، الفوار بالأحاسيس والمشاعر أنه ينبه إلى ما يسميه "فتنة الصور المتحركة" التي ينشرها ويذكيها فن السينما عندما يجتمع المتحابون الفتيان والفتيات من حول هذه الصور الناطقة التي تشغلهم عن المخبر والجوهر بما تضفيه من طلاء ومظهر خادع وزيف باهر. لقد أصبح الناس صورا مماثلة لصور السينما فلا عجب إذن أن يقعوا في عشقها وأن يجدوا فيها ذواتهم.

يقول العقاد في مقطوعة جعل عنوانها "فتنة الصور المتحركة" ضمن قصائد ديوانه "عابر سبيل" الذي صدر أول مرة عام 1937 ثم أعيد نشره في "خمسة دواوين للعقاد" عام 1973 وهو ديوان تجديدي بالمعنى الحقيقي للتجديد في الشعر. فالعقاد - من خلاله - يرى أن إحساس الشاعر بشيء من الأشياء هو الذي يخلق فيه اللذة ويبث فيه الروح ويجعله معنى شعريا تهتز له النفس أو معنى زريا تصرف عنه الأنظار وتعرض عنه الأسماع، وكل شيء فيه شعر إذا كانت فينا حياة أو كان فينا نحوه شعور. وهو يؤمن بأن كل ما نخلع عليه عن إحساسنا ونفيض عليه من خيالنا ونتخلله بوعينا ونبث فيه من هواجسنا وأحلامنا ومخاوفنا هو شعر وموضوع للشعر، لأنه حياة وموضوع للحياة.

وعلى هذا الوجه يرى "عابر السبيل" شعراً في كل مكان إذا أراد: يراه في البيت الذي يسكنه وفي الطريق الذي يعبره كل يوم، وفي "الدكاكين المعروضة، وفيه السيارة التي تحسب من أدوات المعيشة اليومية ولا تحسب من دواعي الفن والتخيل، لأنها - كما يقول العقاد - تمتزج كلها بالحياة الإنسانية، وكل ما يمتزج بالحياة الإنسانية فهو ممتزج بالشعور، صالح للتعبير، واجد عند التعبير عنه صدى محببا في خواطر الناس.

يقول العقاد في مقطوعته "فتنة الصور المتحركة" وهي تمثل اقترابه للمرة الثانية من فن السينما وقدرته على استهواء النفوس واللعب بالقلوب:

إلى أين تهرع هذي الفتـاة؟

وهذا الفتى.. أين يبغـي المفر؟

سراعا إلى الصور الناطقـا

ت تحكي الغرام، وتحكي الخطر

لقد أصبحوا صـورا مثلهـا

فلا عجب يعشـقـون الصـور

همو الناس لم يبق إلا صدى

تفشـي وإلا طـلاء ظهـر

ولا يغيب عن العقاد - بوعيه اليقظ، وقدرته الفذة على التخيل والتجسيم ونزعته العميقة في الغوص عما وراء الأشياء من المعاني والدلالات وربطها بخيط فكري محكم - لا يغيب عنه جوهر رسالة الفن الحي أو معنى الحياة الفنية، خاصة إذا كان هذا التجسيم الذي يمارسه المبدع بكرا طازجا غير مألوف أو مستهلك، والعقاد هنا مع مغامرة الفن وقدرته على الاقتحام والإضاءة والإضافة، وفي مجالي الفن السينمائي وتجلياته - عبر أشكال شتى من صور التخييل والتجسيد - وصيغ مختلفة من التناول والتحليل، في هذا الفن دوما قدرة على النفاذ إلى الوجدان - في حال صدقه وشفافيته، وقدرة على الاستثارة والإقناع وقدرة على التطهير بأحداث الأثر المنشود.

يقول العقاد وهو يتحدث عن "الفن الحي" أو "الحياة الفنية" في ديوانه (هدية الكروان) الذي أصدره عام 1933:

خذ من الجسم كل معنى، وجسم

من معاني النفوس ما كان بكـرا

حبذا العيش يبدع الفكر جسمـا

نجتليه، ويبـدع الجسـم فكـرا

ويـرى الفـن كالحيـاة حيـاة

ويرى للحياة فـنـا وشـعـرا

ضل من يفصـل الحياتين جهلا

واهتدى من حوى الحياتين طرا

والعقاد - بحسه العصري وفطرته الصحيحة ونزوعه الدائب في التجديد وحرصه على التمايز والاختلاف عما ساد عصره من ذوق شعري ارتبط بمدرسة شوقي ومن لف لفه من الشعراء - يدرك وهو يسبح في بحار غير مطروقة ويتناول مجالات جديدة للإبداع الشعري - كما حدث بالنسبة لفن السينما وتأثيره في الوجدان - أن ركود النفس وضيق الوعي هو الذي أدى ببعض النقاد إلى أن يحصروا كل باب من أبواب الشعر في نمط لا يعدوه ولا هم يتخيلون غيره، ويحسبون أن النفوس لا تحس إلا على وتيرة واحدة ولا تعبر إلا على أسلوب واحد.

وهو يرى أن من أراد أن يحصر الشعر في تعريف محدود فهو كمن يولد أن يحصر الحياة في تعريف محدود، فالشاعر لا ينبغي أن يتقيد إلا بمطلب واحد يطوي فيه جميع المطالب وهو "التعبير الجميل عن الشعور الصادق"، وكل ما دخل في هذا الباب - باب التعبير الجميل عن الشعور الصادق - فهو شعر وإن كان مديحا أو هجاء أو وصفا للإبل والأطفال، وكل ما خرج عن هذا الباب فليس بشعر وإن كان قصة أو وصف طبيعة أو مخترعا حديثا.

ولنتأمل إشارة العقاد في هذا "المخترع الحديث" ولنقرأ من جديد أبياته في السينما توجراف باعتبارها نموذجا لموقف الشاعر من مثل هذا المخترع الحديث.

ولغة العقاد في الشعر تطاول لغته في كتاباته النثرية وتجاوزها قدرا وفنية. إنها لغة شديدة الاقتصاد والإحكام، نافذة إلى صميم الفكرة والمعنى مسلحة بوعي يقظ وتأمل طويل وحراب حادة مسنونة، تغرس نصالها في لحمة الصورة الشعرية وسداها. إنها نموذج للغة الجميلة حين تتزين بروح العصر وثمار مكتسباته، متكئة إلى وعي عميق بالتراث وقوالبه وصيغه وأشكاله، محلقة دوما في فضاء إبداعي يطمح إلى التجاوز ويعني نفسه بالصيد في برية غير مطروقة، وآفاق لم تطأها قدم من قبل.

وهو نسيج شعر العقاد في كل ما تركه من شعر يتمثل في أحد عشر ديوانا، تمثل إنجازا شعريا ضخما وتحتل مكانة متميزة في ديوان الشعر العربي الحديث.

 

فاروق شوشة

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




عباس محمود العقاد