ملف محمود شاكر: قراءة في دفتر قديم

ملف محمود شاكر: قراءة في دفتر قديم

أتاحت لي الظروف المستجدة العودة إلى أحد دفاتري القديمة التي أحتفظ بها كما يحتفظ صاحب الكنز الثمين بكنزه, وهذا الدفتر قديم لأنه يعود إلى سنة 1957 حين بدأت الكتابة فيه, وهو ثمين لأنه يضم خلاصة الدروس التي حظيت بالحصول عليها من العلامة المرحوم محمود محمد شاكر. لقد فتح هذا الرجل العظيم بيته ومكتبته أمام عدد كبير من طلاب العلم من شتى البقاع, ومنحهم من علمه الغزير, ومن لطفه وكرمه الشيء الكثير. كنا مجموعة من محبي هذا الرجل, ومن محبي العلم والأدب, كان فينا أستاذ الجامعة, والطالب فيها, والدبلوماسي, والموظف الكبير بجامعة الدول العربية, واللاجئ السياسي بمصر, والكاتب الشهير, والموظف المرموق في الدوائر المصرية, وكان هذا الجمع يمثل دولا مختلفة منه من الكويت كاتب هذه السطور والمستشار عبدالله علي العيسى والأستاذ صالح العثمان والأستاذ جمعة ياسين, ومن الأردن الدكتور ناصر الدين الأسد, ومن فلسطين المرحوم المجاهد عبد الله التل, ومن سوريا المرحوم أحمد راتب النفاخ, والدكتور شاكر الفحام, ومن المملكة العربية السعودية الأستاذ أحمد مانع ومن تونس الأستاذ إبراهيم شبوح, ومن الجزائر المفكر المعروف مالك بن نبي وأحد الأخوة من الهند, وعدد من أبناء مصر, وقد اتفقنا على أن نتقدم إلى الأستاذ بطلب الاستفادة المنتظمة من علمه عن طريق تقديم درس أسبوعي ثابت, ولقد استجاب ـ رحمه الله ـ لهذا الطلب بأريحيته المعروفة وهيأ المكان لذلك بمقاعد الدراسة, وتحدد لها يوم الثلاثاء من كل أسبوع, وكان أول يوم بدأ فيه العمل على تدريسنا هو يوم الثلاثاء الموافق 19/10/1957. وكان الكتاب الذي ارتأى أستاذنا أن يقوم بتدريسه لنا هو كتاب الأصمعيات, ويتكون من مجموعة من القصائد الشعرية اختارها أبو سعيد عبد الملك بن قريب الأصمعي "122 ـ 216هـ" والكتاب مطبوع بدار المعارف المصرية بتحقيق الأستاذين أحمد محمد شاكر "شقيق الأستاذ" وعبدالسلام هارون "أحد أقاربه" سنة 1955م.

الشيخ محمود شاكر. إمام المحققين

ولا أظن أنني في حاجة إلى الحديث عن المرحوم محمود محمد شاكر وعن علمه وآثاره, فقد تناول ذلك عدد كبير من الكتاب وبخاصة بعد وفاته, بالإضافة إلى ما كتب عنه من دراسات جامعية بعضها منشور يستطيع أن يطلع عليه أي قارئ. كما أن منزلته العلمية معروفة شهد له بها إنتاجه, ونوه بها معاصروه, ويكفي أن نطلع على ما كتبه عنه الأستاذ "يحيى حقي" يوم أثار في مجلة "المجلة" المصرية موضوع ترجمة الشاعر الألماني "جوته" لقصيدة "تأبط شرا" اللامية الشهيرة, وهي التي تجد الحديث عنها في كتاب الأستاذ "محمود شاكر": "نمط صعب ونمط مخيف" الذي ضم فيه مقالاته التي كتبها حول تلك القصيدة. وما كتبه الدكتور "يحيى الرخاوي" في رثاء الفقيد تحت عنوان: "دروس معه عبر خمسين عاما" وكذلك ما كتبه الدكتور "زكي نجيب محمود" بعد اطلاعه على قصيدة "القوس العذراء", التي اعتبرت قمة من قمم الشعر الحديث المرتبط بالتراث العربي الأصيل...ولذلك, فإنه من الأفضل في هذه الحالة أن أعود إلى العنوان الذي كتبته وهو المتعلق بالدفتر القديم. وهذا الدفتر هو أحد أربعة دفاتر كتبت فيها ما كان يلقيه علينا الأستاذ في دروسه ولم أترك شاردة ولا واردة في تلك الجلسات المباركة إلا وقيدتها, وحين أعود إليه الآن, فإنني أعود إلى منهل صاف من مناهل العلم ازددت فيه علما, وعرفت فيه عددا من الرجال الذين أعتز بهم, وأصبحت صلتي بهم كصلة النسب, لقد كانوا مقبلين على هذه الدروس, وقد أثرى نقاشهم وأسئلتهم تلك الحلقة الدراسية مما كان يدفع الأستاذ إلى تقديم المزيد من ذلك البحر الزاخر بالمعرفة مما تضمه جوانحه فيسهم النقاش في تقديم المزيد من ذخائره.

واليوم وبعد أربعين عاما كاملة, وبعد وفاة الرجل الذي علمنا وفتح أمام أعيننا مجالات المعرفة بالثقافة العربية والتوجه إلى حماية الكيان العربي من جميع التعديات التي تنصب عليه من أعدائه باعتبار أن الحرص على التراث العربي ورصيد الأمة العربية الثقافي هو المساند ـ تماما ـ للدين الإسلامي العظيم الذي جاء كتابه الكريم بلسانها, أعود اليوم إلى ذلك الدفتر القديم الذي بدأنا فيه الدروس الأولى مع أستاذنا, ويجدر بي أن أوضح هنا المنهج الذي كان يتبعه الأستاذ خلال تلك الدروس. وكما وضحت فإن كتاب الأصمعيات الذي بدأنا في دراسته هو مجموعة من القصائد التي اختارها الأصمعي فكان أن اتخذ الأستاذ طريقه بأن يشرح القصائد منفردة أو يجمع بين بعضها إذا كان هناك ارتباط واضح بين قصيدة وأخرى وغاب عن الرواة أن يجعلوا القصيدتين قصيدة واحدة كما حدث في القصيدتين رقمي 25 لكعب بن سعد الغنوي و26 لغريقة بن مسافع العبسي, ثم يقوم بما يلي:

1 ـ تبيان مصادر القصائد في مظانها من كتب الأدب واللغة, وهو في هذا لا يغيب عنه أن يذكر حتى البيت المفرد إذا وجده في أحد المصادر.

2 ـ الحديث عن الشاعر مع بيان موقع القصيدة في بقية شعره إذا كان له ديوان أو مجموعة وافرة من القصائد.

3 ـ ترتيب أبيات القصائد اعتمادا على درايته بالشعر العربي وفهمه له بحيث تحافظ القصيدة على وحدتها وتسلسل أفكار قائلها حتى إذا قرأها القارئ بعد ذلك أيقن أن هذا الترتيب هو الأقرب إلى الصواب وإلى طبيعة الكلام.

4 ـ ثم يقوم بشرح الأبيات وتبيان معانيها بتفصيل كامل.

5 ـ خلال الدرس يعرض علينا الأستاذ بعض المعلومات التي يستدعيها عرض معاني الشعر أو يرد على استفساراتنا, ولانخرج من الجلسة إلا وقد زودنا بفيض من المختارات الشعرية العالية, أو قدر من المعلومات في التاريخ والحديث والتفسير إلى غير ذلك من مجالات المعرفة.

ففي الأصمعية السادسة وهي للحكم الخضري ومطلعها:

إلى ابن بلال جوبي البيد والدجى بزيافة إن تسمع الزجر تغضب

ذكر مواقع ترجمة الحكم في المصادر المختلفة, وذكر علاقته بغيره من معاصريه من الشعراء, وبين لنا ما ذكره صاحب الأغاني عن هذا الشاعر فأوضح أنه كان سجاعا له سجع كثير, ولكنه كان خبيث اللسان, وذكر لنا أن ابن بلال الذي مدحه الحكم هو أسود بن بلال وبين أن ترجمته في تاريخ ابن عساكر 3/47 وتاريخ الطبري 8/2 و 9/26, وقد ذكر لنا نبذة تاريخية بمناسبة الحديث عن الأسود فقال: في سنة 62هـ غزا الوليد بن يزيد أخاه العمرو بن يزيد وأمره أن يسير إلى قبرص فيخيرهم بين السير إلى الشام إن شاءوا, وإن شاءوا إلى الروم, فاختارت طائفة منهم جوار المسلمين, فنقلهم الأسود إلى الشام.

أما عن المختارات الشعرية فهي كثيرة, ومنها قول مقاعس الكلابي:

بمنزل السيد الحبيب محمود بالمدينة المنورة - يناير 1972

وضغن بشرت له بشرة فألقى الأمان ولم يحذر
وجئت له من وجوه الرضا وجه طليق الرضا مسفر
فنام وألقى العصا آمنا وأمهلت بالمنزل الأقفر

وقول حاتم الطائي:

أماوي ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
إذا أنا دلاني الذين أحبهم بملحودة زلخ جوانبها غبر
وراحوا سراعا ينفضون أكفهم يقولون قد دمى أناملنا الحفر

أما الأصمعيات فقد كنت أتمنى أن أسوق هنا أمثلة من شرحه لها, وترتيبه لأبياتها, ولكن المجال لايتسع لذلك, ولكنني أكتفي بما قدمت عن طريقته في العمل, وأضيف هنا أننا عندما كنا نجلس إليه في تلك الأمسيات البعيدة, ننتقل معه إلى عالم آخر هو العالم الذي قيل فيه ذلك الشعر ونسمعه وهو يترنم وكأنه الشاعر نفسه الذي كنا ندرس قصيدته, وكان يضيف من إملائه ومن شرحه الكثير من الفوائد التي نستطيع أن نلم بها, وذلك لكثرة إحاطته بالمادة التي أفنى دهره وهو يعيش بين مصادرها. وكانت القصيدة بين يديه تنبض بالحياة ويعود إليها رونقها وجمالها ووحدتها نتيجة للجهد الذي بذله في دراستها وتذوقها.

إن تلك الأيام التي قضيناها في معيته نستمع إليه ونغترف من بحره كانت من أسعد الأيام وأكثرها أثرا في حياتنا, أفادتنا علما وأفادتنا صلات أخوية لا يفرقها الدهر, كان حريصا على استمرارها بيننا مهما تباعدت بيننا الأوطان.

ويجدر بي أن أذكر أن مجالس الأستاذ في غير فترات الدرس كانت عامرة بالحاضرين الذي يستمعون إليه ويستمع إليهم ويتناقشون معه في شتى الأمور, وقد لحق بنا بعد تلك الفترة عدد من أبناء الكويت وغيرها بعد أن توقف درس الثلاثاء, وقد أفادوا من مجالسه العامة وسعدوا بلقائه المتجدد.

ولقد ضمت هذه اللقاءات عددا من الرجال الذين هم في مرتبة القادة فكرا وسياسة, نفخر أننا التقيناهم عنده واستمعنا إلى أحاديثهم في داره التي ضمت في تلك الأيام العلامة حمد الجاسر والدكتور عبد الله الطيب, والعلامة المجاهد البشير الإبراهيمي, والمرحوم علال الفاسي, والمرحوم صالح بن يوسف, والمرحوم رشاد مهنا, والشيخ عبد الله كنون والشاعر محمود حسن إسماعيل والشيخ أحمد حسن الباقوري وغيرهم كثير, ومن تنوع جنسيات هؤلاء الأفذاذ يستطيع المرء أن يعرف كم ضمت هذه الدار من رجال جاءوها من شتى البلاد تقديرا لهذا الرجل وعرفانا بفضله وعلمه.

رحمه الله رحمة واسعة وجزاه عن العروبة والإسلام وعنا خير الجزاء.

 

يعقوب يوسف الغنيم

 
  




الشيخ محمود شاكر





كتب مهداة إلى محمود شاكر





كتب مهداة إلى محمود شاكر