واحة العربي

واحة العربي

السينما - بالنون أو بدونها

لم تكن أضراسي قد اكتملت حينما سمعت كلمة سينما، جاءت ممتدة السين إلى الميم طاردة النون خارج الكلمة: سيما، تسللت هامسة ناعمة مرعبة من إقليم (ملوي) المجاور، وعندما كانت تتلوى بين الأفواه والآذان محملة بالقبلات والمبارزة والاختلاء وراء الأشجار أسرعت القرية كلها: ناظرها وعمدتها وإمامها وآباؤها فوضعوا لفظ (السيما) في المعجم المحرم بجوار الخمر وبيوت الغوازي والسرقة وشيطانة الهويس والخبص، وتحت وقعها قام جار مهيب بربط ابنه الكبير في جذع نخلة وانهال عليه بالهراوة حتى أنقذه على آخر نفس ذوو القلوب الرحيمة والشجاعة، وفقد آخر ماعزا فاتهم قريبا له سمع أنه ذهب إلى السيما، وبدأت سينما ملوي ترسل إعلاناتها إلى حوائطنا: أفيش ضخم فيه رأس رجل يمعن في رأس امرأة بالألوان، سينما هرموبوليس تدعوكم لرؤية هذا الفيلم الفاتن، تلازم ذلك مع قدرتي الفائقة على فك الخط والإمعان المبتهج في سطور الجرائد، والاستمتاع بحفلات الزار وضجيج إخراج العفاريت الساكنة أجساد الأقارب، وسرقة مياه الري ليلا من خلف ظهر الحكومة - كنت مع أبي.

وتضخمت دماغي وأصابها هوس السيما، وقررت أن أشاهدها، أن أسافر إليها كي أراها بالعين المجردة.

بدأت التحضير للسفر لمسافة تصل إلى خمسة قروش في وقت كان أجر الخفير سبعة قروش يوميا، وخلال ذلك تم البحث عن رفيق مأمون يكون بيتهم بعيدا عن بيوتنا (كي لا يشي بي عند أبي إن تخاصمنا)، استمر دأبي لجمع تكاليف السفر ذهابا وإيابا مع ثمن تذكرة الدخول، (قد يمصمص. أبناء البندر أفواههم - ومنهم مسئولون عن تحرير هذه المجلة - مندهشين بسبب سطوري الفقيرة المرهقة التي قد تتوقف تماما إن لم أستطع جمع خمسة عشر قرشا - مع إضافة قروش قليلة للطعام الضروري).

غير أن كل ذلك توقف، فقد اجتاحت قريتنا سيارة ذات ميكروفون تنبئ الجميع بأن الليلة سوف تشاهدون - يا أهل ديروط الشريف الكرام - السينما في السويقة، والسويقة هي سرة بلدنا، ساحة واسعة تفضي إليها عدة شوارع وحارات، وتكون مركزا لبيع نبات البرسيم والجراوة (أوراق الذرة الخضراء) عصر كل يوم، تقام فيها مراجيح الأعياد، وقد يشغل أطرافها باعة لحم الرأس والمصارين وجزارو اللحم الوقيع، ومع عدم قدرتي على تصور شكل السينما التي ستأتي في السويقة، إلا أنني أحسست براحة قصوى، فقد كنت قد فشلت في الحصول على أي نقود أسعى بها إليها، كما أن ملوي استمرت مدينة منافسة لبلدنا لا أكن لها حبا.

قبل وأثناء وبعد المغرب: اجتاحت الجماهير السويقة، كان ثمة سيارة نقل ذات موتور شغال قد خرجت منها أسلاك في آلة تبعث نورا مروعا، وهناك - في الطرف الآخر من السويقة شاشة ضخمة، والجماهير الغفيرة - العيال والرجال النساء - نعم النساء أيضا - الجميع جلس القرفصاء تحت أثر خيزرانة خفراء العمدة، تمددت الأطراف ليقف على حافتها المئات المبهورون وكان أول مشهد - لا أنساه - أن هذا النور يصبح شكلا على الشاشة لضابط يقود سيارة جيب وبجواره واحدة تغني بصوت أخاذ، هي تقول له إنها تخاصمه، وبدلال فائق، فيرد عليها بخشونة فيها دعابة فائقة: إنه يحبها أثناء الخصام أيضا (عرفت بعد ذلك بفترة أنها ليلى مراد وأنور وجدي في فيلم ليلى بنت الفقراء)..

كانت المناظر ترى مدهشة تفتح العقل وتصب فيه خيالات مجنونة، أن فكرة امرأة تنزوي في أحضان رجل - وأمام كل الناس، وان يتلمس بأصابعه ذقنها ليرفع وجهها إليه - اليه جدا، وهي تنحرف تحت ابطه، وتغني، راضية وغاضبة في نفس الوقت، إنما هو الجحيم، حتى لو كانت السينما بعد ذلك بنصف ساعة قامت بتشغيل مشاهد عن محاربة البلهاريسيا، وكان الصوت الفج يطلب من الناس عدم نزول الترع ومجاري الأنهار، كان واضحا أن السينما خاصة بالإرشاد الصحي، الذي يستقطب الجماهير اليه لتوعيتها، لكن المناظر دون ليلى مراد وأنور وجدي ظلت فجة غير مستساغة، وسرت في الناس رغبة في الانصراف، فجاء الخبر المهم: فيلم ثان، وبعد أن أضاءوا النور وأوقفوا آلة العرض، عادت خيزرانه الخفراء تضرب الأطراف الواقفة من الجماهير، هناك فيلم ثان.

كان الفيلم الثاني يحكي عن رجل يرتدي قميصا وبنطلونا ويحب واحدة في الصحراء ترتدي ملابس البدو، وكان الرجل يطارد حبيبته وسط مرابط خيام القبيلة، ويمكنه أن يختار في أي لحظة أي رداء يريد: بدلة أو الملابس البدوية بما فيها العقال، وكان يجيد الضرب بالسيف، شجاعا قويا فاهما، عندما جذب البدوية اليه في عنف قوي على جذع شجرة أو نخلة اندفعت زغرودة قوية جادة من وسط سويقة العرض، وانطلقت بعدها ضحكات ثم زغاريد، وانتابت الناس رغبة في المهاترة، وتشاجر واحد جالس مع واحد واقف درن سبب، وصفعت بنت صغيرة امرأة وأمسكت في ملابسها بطريقة صارخة شرسة، وعاد الخفراء ينبهون القوم بمراعاة النظام، لكن الرجل الأفندي البدوي داهم رابحة مرة أخرى وحط الصمت - إزاء المشهد - على الجميع، فإذا بالشاشة البيضاء العريضة تأخذ رابحة وبدر لاما أو أخاه أو أحد أقاربه وتهتز في الريح - هذه الشاشة - ثم تسقط على التراب.

وبدأت الخيزرانات تأمر الجميع بان ينفضوا ويعودوا إلى منازلهم. وظللنا سنوات نحكي عما شاهدناه ليلتها، بمتعة قوية وذاكرة قوية، ونحن نخوض مياه الترع أو على الشواطئ، حتى نجحت بلدنا في إنشاء سينما قرشي لترجع كفتها إزاء ملوي.

 



أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات