قبس من روح هذه الأمة

قبس من روح هذه الأمة

منذ خمس عشرة سنة على وجه التقريب كان الأستاذ يزورني في المكتب الثقافي, وكنت أحتفل بمثل هذه الزيارات من الأستاذ أيما احتفال على ندرتها, وأعلم أن لقائي به في أي مكان لابد أن يحمل لي فائدة علمية ما تكشف لي شيئا كان يتردد في عقلي وتفكيري محملاً بأسئلة لا أجد لها جواباً يقنعني. والقاهرة في ذلك الوقت ـ وأظنها إلى اليوم ـ كعبة ثقافية, وموئل للعديد من المثقفين العرب من كل مكان, والإصدارات الثقافية والأدبية تتوالى, ومن بين أبرز تلك الإصدارات كانت مجلة "فصول" التي أسسها ورأس تحريرها الأستاذ الدكتور عز الدين إسماعيل, وقد توالت عدة أعداد منها ملأى بالحديث عن أنماط غير مألوفة من النظريات الأدبية, ومن بينها كانت "البنيوية", وكنت أقرأ بعض ما كتب حول تلك النظرية وكأنني أحفر بأظفاري في الصم الصلاب فلا يذل لي معنى ولاينبلج أي صبح من هذا الليل البهيم الذي يحيط بهذه النظرية. وحاولت عبثاً وبكل ما أوتيت من قدرة على التفكير أن أفهم تلك المعادلات الرياضية التي تطبقها تلك النظرية على النصوص الأدبية, ولكن هيهات فالغور بعيد والرشا قصير, فاتهمت عقلي وقدراتي, وانتهى بي الحال إلى أن أصبحت قضية البنيوية عندي طلاسم لاتعينني على فهم أي أثر أدبي فهماً أرتاح إليه, إلى أن حدث ذلك اللقاء منذ أكثر من خمس عشرة سنة عندما دخل علينا الأستاذ الدكتور عز الدين إسماعيل, وبعد أن عانق الأستاذ محمود وتبادل معه التحية وتجاذبنا بعض أطراف الحديث قال الأستاذ محمود للدكتور عز الدين إسماعيل:

"إيه يا عز اللي بتكتبوه في مجلتكم ده, أنا حاولت أن أفهم مايكتب ماعرفتش, خسارة الورق اللي تكتبوا فيه هذه الطلاسم".

وقد رد الدكتور عز الدين برقته المعهودة ودماثته:

"يا أستاذنا: يمكن اللي بيكتبوا هم أصلا مش فاهمين أيه الحكاية"

عندها أدركت أن نظرية البنيوية لايمكن بحال فهمها في نطاق أدبنا العربي, وأن كل من يدعي أنه يستطيع أن يطبقها على تجاربنا الشعرية والأدبية بشكل عام هو واهم, وأنني لست وحدي الذي لم يفهم هذا العبث, فقد شاركني في ذلك الأستاذ الكبير, فالباحث المتخصص في النقد الأدبي يجد فيما يكتب عن البنيوية في الأدب العربي عبارات انتزعت قلوبها وأفكار ليس فيها أي نسق فكري أو عاطفي, وكانت هذه واحدة من فوائد اللقاء مع الأستاذ محمود شاكر يرحمه الله.

وبسبب تلك الفوائد كنا نتلهف على موعد الاجتماع به والذي يكون عادة يوم الجمعة من كل أسبوع, وكان يرحمه الله يستقبل في منزله ضيوفاً من كل الطبقات والجنسيات والاتجاهات, وعلى الرغم من معارضته لبعضها فإنه يسعد بلقاء أكثر المتعصبين لها, تجد في مجلسه الواحد المتدين الملتزم, والمتحرر نوعاً ما, واليميني, واليساري, بل الشيوعي والعلماني, وكلهم يعرفون قدره ومنزلته وعلمه, وكان يرحمه الله يحرص على استقبالهم بنفسه وتوديعهم بنفسه, ويصر حتى في آخر أيام حياته على توصيل ضيوفه إلى باب المصعد ويستدعيه لهم بنفسه. لقد تعلمنا منه الكثير: التواضع للعلم والعلماء وإجلالهم ومحبتهم, فقد كان يجل علماء هذه الأمة ويعرف لهم قدرهم, وكأن هذه الكتب العظيمة المرصوصة في مكتبته إنما هي عقول مؤلفيها بل شخوصهم, فلسان العرب في وسط البيت كأنه ابن منظور جالساً والأستاذ يحاوره كل حين عندما يفزع إليه عادة يتصفحه ويطل باقي العلماء على الجالسين في صحن الدار من كل مكان, فكتبهم تملأ حوائط الشقة كلها دون مبالغة, الممرات والغرف والصالات تزخر بالكتب النادرة.

ومشهور عن الأستاذ كذلك حبه للكويت وأهلها, وكثيراً ما يذكر أمام جلسائه من الأدباء والعلماء من جميع الأقطار أنه يحب الكويت وأهلها, ويقول إنه عندما زج به في السجن في مطلع الستينيات لم يجرؤ أحد على زيارة أهله والاطمئنان عليهم إلا طلابه من أهل الكويت.

وقد لمست هذا بنفسي ففي إحدى الزيارات سألته عن كتاب كنت أبحث عنه في المكتبات فلم أجد له نسخة إذ إن طبعته قديمة ونفدت من الأسواق منذ أمد بعيد, فقال: نعم, يا فهر هات "فصول التماثيل" ـ وكان هذا اسم الكتاب وفهر هو ابنه ـ وهو الآن أستاذ في قسم اللغة العربية في كلية الآداب بجامعة القاهرة, وكان يرحمه الله يحفظ مكان كل كتاب في مكتبته على ضخامتها" وتصفحت الكتاب وكان صغيراً, ولاحظت أن به تعليقات الأستاذ على الهوامش "وكان يرحمه الله يعلق على كل ما يقرأ تصحيحاً وتوضيحاً واعتراضاً وتأييداً, ومعلوم أنه قرأ كل ما وقع تحت يده من تراث هذه الأمة بكل أنواعه", وكان من عادته أنه لا يعير كتبه لأحد أبدا, ورغبت في تصوير الكتاب وقد سألته ذلك وأنا كلي خشية من رده الذي جاءني فوراً "متأسف أنا لا أخرج كتبي من البيت", ثم سكت هنيهة, وران عليّ صمت وإحساس عميق بالحرج, وكأنه قد شعر بما يعتمل في نفسي, فقال ـ وكأنه ينتشلني من بئر عميقة ـ أنا ضعيف أمام الكويتيين خذ الكتاب لليلة واحدة فقط, فسارعت بالقول فرحا بأنني سوف أعيده مع السائق فور الانتهاء من تصويره غداً, ولكنه أيضا لم يمهلني فبادرني قائلاً: الكتاب أنت الذي استلمته فيجب أن تعيده بنفسك. وحبه للكويت وأهلها تجلى واضحاً في أيام الغزو الذي وقع عليه وقع الصاعقة, فعاش بكل وجدانه يتألم لآلام أهلها, وكان يرحمه الله يقنت كل يوم يدعو على صدام وحزبه وللكويت وأهلها ويتابع أخبارها, وكثيراً ما كنت أدخل عليه فأجده ثائراً ثورة شديدة على خبر سمعه عن حوادث حدثت في الكويت أثناء الاحتلال, أو على موقف متخاذل لبعض الدول العربية من الغزو.

ومن أبرز ما تعلمناه منه أن علم اللغة العربية وأدبها مبثوث في كتب التراث كلها, بل إن علم هذه الأمة العظيمة بكل أنواعه تنتظمه روح واحدة, لايكاد يعرفها إلا من يتحسس هذا العلم بعقله وببصره وبسمعه وبيديه. فيجد همساً خفياً ذا إيقاع محبب واحد يخترق كل ذلك ليستولي على قلبه ومشاعره كلها, فالباحث في كل فن من فنون علم هذه الأمة لابد أن يأخذ بسبب من بقية الفنون, ومعلوم أن الأستاذ قد اطلع على كل ماوقع تحت يده من تراث هذه الأمة, ومازلت أتذكر موقفاً مع الأستاذ يعكس هذه القضية بكل وضوح, ففي مرحلة دراسة الدكتوراه كان علي أن أحقق مخطوطة أدبية قديمة تدور حول النقد الأدبي التطبيقي وكنت حريصاً ـ كما هو شأن المحققين في العادة ـ على أن أخرج النصوص النثرية والأدبيات الشعرية الواردة في هذه المخطوطة, معظمها وجدته في مصادر متعددة, وبقيت أبيات لم أجدها في أي كتاب من كتب الأدب واللغة التي تصفحتها وكان من بين تلك الأبيات بيت لكُثَيِّر يقول فيه:

إلى حسب عالٍ بنى المرءُ قبله أبوه له فيه معاريج سلمِ

وبحثت عنه في ديوانه, ثم كتب المختارات, ثم كتب الأدب الكبرى كالأغاني والخزانة والعقد الفريد وديوان المعاني وغيرها ثم في كتب اللغة, وأعياني فلم أجده في أي مصدر, وفي لقاء لي مع الأستاذ ورد إلى ذهني أن أساله عن البيت, وفوجئت به يقول: إنه لكثير فعلاً, وأحضر ديوانه ولكنه لم يجده فيه, وأطرق قليلا ثم قال: يافهر هات تفسير الطبري الجزء الرابع عشر. وبعد أن تصفحه "والأستاذ حقق معظم أجزائه", انفرجت أساريره وقال: ها هو البيت مروي لكثير, وقد سعدت بهذا أيما سعادة, وأدركت بكل وضوح ما يحاول دائما أن يثبته لنا بأن علم هذه الأمة لايستغني بعضه عن بعض, فقد تجد في كتب الأقضية ما يتصل بسبب قوي إلى الجغرافيا, وفي كتب التاريخ حقائق علمية تتعلق باللغة وآدابها, ولولا هذا الإدراك ما التفت أحد إلى أن بيتاً لكثير لاتذكره كتب الأدب يمكن أن تجده في كتب التفسير. إنها مواقف لاتنسى وذكريات حفرها حب العلم والتعلم والتقدير للعلماء, يرحمك الله أيها العالم الفذ الذي نشك أن يجود الزمان بمثله في قادم الأيام.

 

عبدالله حمد محارب

 
  




أباطيل وأسماء





المتنبي





تفسير الطبري