يا مواطني ..اصمدوا عزيز نسين

ترجمة: عبد القادرعبد اللي

كان ، في قديم الزمان ، على هذه الأرض المطحية..، مكان : أطرافه جبال ، أواسطه بساتين ، مياهه جارية ، سماؤه صافية . في هذا المكان ، وكما هو الحال في كل مكان ، كانت ثمة كائنات أخرى ، غير الإنسان .. زواحف ، صراصير سامة ، عناكب. لم تكن تلك الكائنات كثيرة ، بالقياس إلى الأماكن الأخرى، وكذلك لم تكن قليلة، لذلك لم تلفت انتباه أحد.

كان على رأس تلك الدولة حاكم يدعى ( الباش باي )، وهذا ال ( باش باي ) ينتخب انتخابا . كل من يمتلك الرغبة يستطيع ترشيح نفسه ، والناخبون ينتخبون من يروق لهم، والحائز على أكثرية الأصوات يصبح ال ( باش باي ).

ومرت الأيام.. حصل في تلك الدولة تغير مدهش. الديدان، الأفاعي ، أمهات أربع وأربعين ، السحالي ، العقارب ، العناكب.. أخذت تتكاثر يوما بعد يوم ، وتنمو . استطالت الأفاعي حتى صارت واحدتها بطول بلوطة ، وثخنت فصارت كجذع البلوطة . تضخمت العناكب ، تضخمت ، حتى صارت الواحدة منها بحجم بيت .كبرت السحالي حتى إن الفراخ المولودة لها كأنما هي تماسيح.. أم أربع وأربعين الواحدة صارت بطول قطار الركاب.. أما الخفافيش فقد صارت أجنحتها وكأنها ( الشوادر ).

ركز الناس العاقلون، والعلماء المبجلون ، وذوو الفضائل والأخلاق الحميدة ، على أسباب تلك الظاهرة . فكروا، لكنهم لم يستطيعوا، ولا بشكل من الأشكال، معرفة سبب لنمو وتكاثر الكائنات الضارة يوما إثر يوم.

ولم يتوقف الأمر عند ذلك الحد، فقد أخذت تلك الكائنات الضارة تلسع وتعقص وتسمم الناس.. والأمر المدهش أن الملسوعين ما كانوا يموتون ، السموم تخدر العقل، ولا تميت الإنسان، بل تدخله في حالة من اللانوم / اللاصحو، وتعطيه شعورا بالنشوة.. والمختلط السم بدمه يدمنه فورا. صار هؤلاء الناس لا يطيقون صبرا، فراحوا يعضضون. أنفسهم للأفاعي والعقارب، ويقدمون أنفسهم للعناكب ولأمهات أربع وأربعين لتلسعهم، أو للخفافيش وللسحالي لتمتص دمهم. ولم يكن لتلك النشوة ذروة، ومن يجرب السم لا يستغني عنه البتة، ويطلب المزيد في كل مرة . حتى إن الذين كانوا يسممون أنفسهم مرة في الأسبوع أصبحوا يطلبون السم مرة كل يومين، ثم صاروا يتعاطونه في اليوم مرات.

بحث الرجال الذين يدركون أهمية العقل للتفكير؟ الأذكياء، رقيقو القلوب، عن طريقة لتخليص الناس من سموم الأفاعي والديدان. لكن الآخرين، الذين أصروا على تسميم أنفسهم، وقفوا في وجه أصحاب الفكر أولئك.. لذا انقسم سكان الدولة إلى فريقين: المدمنين سم الأفاعي والديدان، الذين رأوا ذلك السم مفيدا جدا، المدافعين عن حقهم في تعاطيه.. والآخرين الذين قالوا بالنقيض. ازدادت سرعة الديدان والأفاعي وأمهات أربع وأربعين والسحالي والعقارب والعناكب في العض واللسع، وازداد عدد مدمني السم يوما بعد يوم.. حتى صار الآخرون قلة قليلة.

ومرت الأيام.. دخل مدمنو السم مرحلة جديدة. لقد أخذت وجوههم وأعينهم وأيديهم وأرجلهم، من فرط تعاطيه، تتغير. صار لون بشرة أولئك الذين يعضضون أنفسهم للأفاعي، يتحول إلى الأخضر، في حين بدأت أجسامهم تتطاول ورءوسهم تصغر.. وبعد حين أصبحوا لا يختلفون عن الأفاعي، يزحفون على الأرض، ويعملون على عض الآخرين وتسميمهم. آخرون استطالت أصابعهم وأظافرهم، ونحلت أيديهم وأرجلهم وامتدت، ونبتت لهم أيد وأرجل جديدة.. و فجأة تحولوا إلى عناكب ضخمة ، وصاروا يطبون أنفسهم على الآخرين. واستمرت الأمور على هذا المنوال، المتسممون، المختلط السم بدمائهم تحولوا إلى أفاع وديدان أو خفافيش أو حلزونات أو سحال.. والآخرون ، من أجل الإبقاء على إنسانيتهم، قاوموا ، كلما واتتهم الفرصة ، وبقدر ما استطاعوا ، وبقدر ما أمكنهم فعله ، وبألسنتهم أيضا.. صرخوا : - أيها المواطنون!.. إنسانيتكم احفظوا. لا تتعقربوا، لا تتعنكبوا. قالوا قولهم هذا، لكنهم لم يؤثروا على أحد. صار المتغيرون المتسممون المتكاثرون باستمرار يقولون ردا عليهم:

- خونة! سفلة!

ويهاجمونهم.

ومن هنا أخذ عدد المحافظين على إنسانيتهم يتناقص، أصبحوا قلة قليلة، يخافون من ألا يبقى على أرض تلك الدولة ديار من البشر. ..

واقتربت الانتخابات. ولأن الرأي العام كان مع المتحولين، فإن الذي سيصبح ال ( باش باي ) سيكون واحدا من أولئك الذين اتخذوا هيئة الأفعى، الدودة، الخفاش، العنكبوت...

كان في تلك الدولة ثمة مثقفون. فكروا ( ما هذا الذي حل بنا ؟ كيف يمكن أن نحمي مواطنينا وننقذهم منه؟ ).. ثم توصل كل مثقف، حسب طريقته في التفكير، إلى رأي. قال أحدهم:

- يجب ألا يعد في عداد البشر أولئك الذين أدمنوا السم، والذين تعنكبوا أو تزحفوا إذ لم يبق من إنسانيتهم شكل ولا مضمون..، وعليه، يجب ألا يشركوا في عملية الاقتراع على ال ( باش باي ).

لكن، ومهما تكن هيئتهم لا إنسانية فهم، حين ولدوا ونشأوا، كانوا بشرا، وأولادهم يولدون على هيئة البشر، ولولا اختلاط السم بدمهم لظلوا بشرا.

قال مثقف آخر:

- حتى يكون الإنسان إنسانا يجب عليه أن يأكل بالشوكة ! آخر قال: ( يجب أن يرتدي البنطلون مكويا ).. غيره قال: ( يجب أن يحلق ذقنه يوميا )

لكن هذا كله لا يكفي لحماية إنسانية الإنسان .

ثم راح مثقفو تلك الدولة يقولون ( لنر الدول الأخرى.. هل ثمة من تغير شكله، قالبه ، مضمونه، عندهم؟ فماذا كان ثمة من تغير هناك، كيف يتصرفون ؟ لنذهب ونر كيف يعالجون ذلك ).

وكما قالوا فعلوا. ذهبوا إلى دول أخرى، بحثوا في إنسانها. ولكي يكونوا نافعين لشعبهم عادوا إلى بيوتهم وذويهم ليطبقوا ما رأوه وتعلموه هناك. وكما حصل في السابق، تقدم كل منهم برأي حسب طريقته في التفكير. قال أحدهم:

- لنجعل نوافذ بيوتنا أكثر اتساعا مما هي عليه..

وقال آخر: - لنأخذ إنسان الدول الأخرى مثالا!..

- لنرسل إنساننا إلى الدول الأخرى حتى يرى إنسانها..

حتى إن أحدهم قال: ( يجب أن يقفز المواطن ثلاث قفزات في اليوم ) ( يجب أن ينام في الفراش على الجانب الأيسر )... وهكذا حتى ظهر بينهم رجل صاحب عقل مفكر.

قال: - اسمعوا! أنا عرفت سبب تكاثر تلك الزواحف والصراصير. لقد اطلعت على تجارب الشعوب الأخرى وفهمت: ثمة رياح تعصف، هذه الرياح ملائمة جدا للزواحف والصراصير في تكاثرها ونموها. وهذه الرياح تعصف من الشرق. لقد لاحظت في أثناء تجوالي أن الدول الكائنة في طرف يصد فيه الجبل تلك الرياح، لا يحدث فيها ما حدث عندنا. فتعالوا نضع عقولنا في رءوسنا، قبل أن يفوت الأوان، ويحدث ما يمكن أن يحدث،.. تعالوا نسد الجهة التي تعصف منها تلك الريح.. ألا وهي الشرق..

وإلا فسيأتي يوم نتغير فيه جميعا، ونخرج عن إنسانيتنا، لنصبح أفاعي وديدانا. ثمة من صدق هذا الكلام، ومن ضحك غير مصدق. غير أن الذين صدقوا أخذوا العمل على عاتقهم وباشروا الحرب على كل من دخل في هيئة الزواحف السامة والعناكب والسحالي والخفافيش. لقد كانت حرب بقاء أو فناء، دموية للغاية. حتى إن الباش باي وقف في صف الأغلبية.

كانت لتلك الدولة أسوار عالية وسميكة، كأنها قلعة تحميها من الأعداء. وكان لكل جهة من جهات الأسوار تلك باب. وفي الوقت الذي حاول فيه الذين ظلوا بشرا إغلاق الباب الشرقي من الداخل، استند الآخرون عليه من الخارج كي لا يغلق. وقد أريقت الدماء كالسيول.. وفي نهاية الأمر انتصر الذين كانوا في الداخل، وبقي الآخرون خارج السور.

كسب صاحب تلك الفكرة تأييدا كبيرا وصار إلى ( باش باي ).. وقال لمواطنيه:

- احذروا من شق هذا الباب. إذا فتحتموه قليلا فلن تستطيعوا الحفاظ عليه. إنه باب إذا شق بعرض إصبع واحدة فسيجيء يوم ينفتح فيه على مصراعيه.

بعد زمن مات ذلك الرجل الذكي. جاء بعده كثير من الباشبايات المنتخبين. وكما كان الحال في قديم الزمان، وفي كل زمان ومكان، كان في تلك الدولة زواحف وصراصير. لكن، مادام الباب الشرقي ظل مغلقا، ولم تعصف به الرياح الشرقية، فلم تتكاثر، ولم تنم أكثر مما هي عليه.

ودارت الأيام.. بدأت المنازعات بين المرشحين لمنصب ال ( باش باي ). هذا يقول أنا وذاك يقول أنا. في الحقيقة لم يكن بين المرشحين أحد يريد للإنسان أن يتعقرب أو يتعنكب مرة أخرى. لم يريدوا ذلك، لكن ماذا بيدهم، عليهم أن يكسبوا أصواتا أكثر.

فكر باش باي ذلك الزمان، فوجد أنه إذا نال ثلاثة أصوات إضافية فإنه سينجح في الانتخابات. قال لنفسه:

- سأفتح الباب بمقدار ثلاثة أصوات.

وكما قال فعل. لم يترك منصب ال ( باش باي ) لغيره.

الذين رأوه من المرشحين الآخرين فتحوا الباب أكثر ليدخلوا منه الناخبين الذين سيعطونهم أصواتهم. هم أيضا لم يريدوا فتح الباب على آخره حتى لا يدخل الجميع، واكتفوا بفتحه بمقدار الأصوات العشرة التي لزمتهم، ومن جهة أخرى وضعوا رجالهم ليدفعوا الباب حتى لا يدخل منه أكثر من العدد اللازم.

بدأ فتح الباب لعشرة أصوات، ثم لمائة صوت، ثم لألف صوت، وفي كل مرة كان يفتح أكثر... حتى جاء يوم فتح فيه الباب على مصراعيه.

ولأن ال ( باشبايات ) لم يرغبوا في فتح الباب على مصراعيه، فقد أعطوا أوامرهم لرجالهم قائلين :

- ادفعوه من الداخل.. واصمدوا.

دفع من الداخل، ودفع من الخارج، والباب : زيك زيك، يدور على محوره.

ومنذ ذلك التاريخ والباب الشرقي لتلك الدولة: زيك زيك، يدور على محوره.. ولا يزال ال ( باشبايات ) يصيحون:

- اصمدوا.. يا مواطني..اصمدوا.