الشيخ الذي لم يكن تقليديا

الشيخ الذي لم يكن تقليديا

حين سمعت اسم محمود شاكر أول مرة, سمعته مقرونا باسم كبار محققي التراث العربي في عصره, أمثال أحمد شاكر, وأبوالفضل إبراهيم, وعبدالسلام هارون, وسيد صقر, كما سمعت اسمه يسبق بلقب "الشيخ". وقد استمر هذا اللقب يسبق اسمه بين الحين والحين, ربما بقصد, وربما بغير قصد, فقد ورد على قلم لويس عوض في مقدمة كتابه: "على هامش الغفران", مع خطأ في اسمه إذ سماه: الشيخ محمد شاكر! ولو كانت كلمة "شيخ" أو "الشيخ" تستخدم عندنا كما تستخدم لدى غيرنا في الدلالة ـ دائما ـ على "مرجعية" زمنية, أو ثقافية, أو دينية, لكان ذلك مقبولا عندي, ولكنها كانت ولاتزال تستخدم في الإشارة إلى نوع من الثقافة التقليدية, هي ثقافة "أقصى اليمين", التي تدافع دائما دفاعا غير مشروط عن كل ما خلفه الأقدمون.

فلما عرفت محمود شاكر انقلبت الصورة التي كنت كونتها بالسماع عنه رأسا على عقب, ولما قرأت أعماله كلها قراءة محب مدقق تكونت لدي الصورة الحقيقية التي أراها له, والتي أضمنها شهادتي هذه عنه. ومن الممكن أن أجمل هذه الصورة في كلمتين اثنتين فأقول عنه إنه "كلاسيكي مجدد", وهما كلمتان تحتاجان إلى أن نستحضر في أذهاننا ـ دون أي قدر من الإحساس بالخجل, أو التردد, أو الشعور بالاستعلاء, أو الشعور بالنقص ـ صورة الشعراء الكلاسيكيين الجدد: بوب, ودرايدن, وجونسون, وت.س. اليوت, هؤلاء هم عمد الفكر الأدبي الإنجليزي الذين قاموا بحركة إحياء واسعة في ثقافتهم, فأزالوا كثيرا من الصدأ المتراكم حتى تألقت هذه الثقافة, وانتفضت حية كأنها بنت اليوم, ونفخوا في الرماد المكدس بفعل الحاضر حتى تأججت خلفه نار الأصالة الثقافية المقدسة. وهكذا أي محمود شاكر, تطاول قامته ـ في ثقافته ـ قامة هؤلاء.

لم أر في حياتي شخصا يصدق عليه القول المشهور: "الأسلوب هوالرجل" كما يصدق على محمود شاكر. يتطابق عنده الذاتي والموضوعي, ويتوازنان, ويمتزجان, ويتكاملان, ويترادفان. ومع أنني من أنصار القول بموضوعية الإنتاج الأدبي, واستقلاله عن ذات صاحبه, مما هو معروض في كل ما كتبت, فإنني وجدت بين شخصية محمود شاكر التي أعرفها بالمخالطة, ونتاج فكره الذي أعرفه بالمدارسة, نوعا من الاتساق الذي لا أستطيع أن أقدم مثالا واحدا على عدم اطراده.

لايحب محمود شاكر أن يوصف بأنه "محقق" لنصوص التراث العربي, وإنما يحب أن يوصف بأنه "قارئ" و "شارح" لها. وعبارته الأثيرة الموجودة على أغلفة كل أعماله التي تحمل هذه الصفة هي عبارة: "قرأه وشرحه". وهذه العبارة هي الحد الفاصل بين طبيعة عمله, وطبيعة عمل غيره من "شيوخ" المحققين. إنه يوجه النص, ويبين معناه, بنوع من التوجيه أو القراءة التي تجعله محررا, لأنها قراءة ترفدها خبرة نوعية عميقة بطريقة الكتابة العربية, ونوع منطقها, وطبيعة أساليبها. وهو إذا مال "بالقراءة" ناحية معينة أتى شرحه مقاربا, وضبطه مقنعا, وأفق فهمه واسعا, فخلع على النص بعض نفسه, وأصبح كأنه صاحبه ومبدعه.

جادلته مرة في أمر صديق له من الآراء العلمية في دراسة اللغة العربية ما لايرضى عنه محمود شاكر, قلت له: لماذا لاتترك "المغني" وتعنى كلية "بالأغنية"? فأجابني بأنه يراهما ـ على عكس ما أرى ـ شيئا واحدا.. ثم زاد فقال: أعلم أنه ليس بيني وبين صديقك أي خصومة شخصية, ولكنني عشت طول عمري أدافع عن نهج أراه حقا في أمر اللغة العربية, لذا فإنه من الطبيعي أن أرى ضارا بحياتي كل ما أراه ضارا بهذه اللغة. وكان في حرارة كلامه, واستشعاري الكامل لصدقه في التعبير عن نفسه ـ وما جربت عليه كذبا قط ـ بعض راحتي

يقف محمود شاكر على "يسار" الفكر, فهو يجرح, ويرد, ويتساءل, وينقض أعتى المسلمات, ومع ذلك فهو في أذهان الناس كاتب "يميني"! وكتابه "المتنبي" ظاهرة فريدة في تاريخ الدرس الأدبي, وعلامة فارقة دفعت بهذا الدرس من الثرثرة المسترخية إلى البحث الجاد. وبحسبنا أن نعلم أن كتابي عبد الوهاب عزام وطه حسين ظهرا في إثر ظهور كتاب محمود شاكر, ثم توالت الدراسات المستفيضة, وما ذلك إلا نتيجة للتحدي العظيم الذي وضعه كتاب هذا الباحث الشاب محمود شاكر أمام الباحثين سنة 1936 "كان عمره ستا وعشرين سنة!".

في صدر كتاب "المتنبي" وصف جميل لصراع الكاتب مع الكتابة, لا أعلم له مثيلا فيما قرأت من دراسات في العصر الحديث. "حفظ" محمود شاكر ديوان المتنبي, ثم خلطه بنفسه عن طريق قراءته قراءة تدبر خمس مرات. ويصف حاله بأن نفسه بعد القراءة الرابعة كانت تموج مثل موج البحر. أما بعد القراءة الخامسة فقد تدفقت الكتابة على قلمه كما يتدفق السيل. لقد خلط شعر المتنبي وأخباره بنفسه, فأصبحت وإياه شيئا واحدا, فإذا كان كلام محمود شاكر من جهة يصدق على شعر المتنبي, فإن شعر المتنبي يصدق على ما نعرفه من شخصية محمود شاكر من جهة أخرى.وحين أراجع شعر المتنبي ـ وأنا كثيرالعودة إليه تأسيا بمحمود شاكر ـ لا أستطيع أن أمنع نفسي من استصفاء أبيات ومقاطع كاملة أراها تصف حال محمود شاكر أدق وصف. فمن منا يقرأ سجال محمود شاكر العنيف في "أباطيل وأسمار" ولا يذكر قول المتنبي:

عليم بأسرار الديانات واللغى له نظرات تفضح الناس والكتبا

ومن منا يذكر عزلته التي فرضها على نفسه ـ في صرامة ـ طول حياته, ويذكر تركه الجامعة مغاضبا أول حياته, ثم لايذكر قول المتنبي:

فلا مبال, ولا مداج, ولا وانٍ, ولا عاجز, ولا تكله

ومن منا جالسه, واستمع إلى أحاديثه في حالتي الرضا والغضب, ولا يذكر قول المتنبي:

أعادي على ما يوجب الحب للفتى وأهدأ والأفكار في تجول

ظل محمود شاكر يتجول ـ عاشقا مبهورا ـ في دوحة الثقافة العربية الظليلة حتى نجح في تكوين دوحته الظليلة الخاصة, فحقق في الكتابة النثرية طريقته ـ التي لاتحاكى ـ في توليد المعاني, والبرهنة, والمحاجة, كما حقق في الإبداع الشعري ما بلغ ذروته في قصيدته الطويلة الدرامية: "القوس العذراء" ـ تلك القصيدة غير المسبوقة, والمهملة من الدارسين. لقد استوحى محمود شاكر في "القوس العذراء" قصيدة الشماخ المعروفة, ما في ذلك شك, ولكن ذلك لم يلبث أن وضعه على مداره الإبداعي الخاص, فحلق إلى آفاق, من المعاني والقيم الأسلوبية والروحية, لم ترتدها قصيدة الشماخ, وبقيت "القوس العذراء" عملا شعريا جديد الإهاب, من حيث صياغته, ومن حيث أصواته الشعرية الداخلية المتراكبة المتضاعفة, مما جعله أكبر من أن يكون هامشا ـ ضاق أو اتسع ـ على قصيدة الشماخ. وأشبه قصيدة "القوس العذراء" بسفينة الفضاء, وأشبه قصيدة الشماخ بالصاروخ الدافع لها, فسفينة الفضاء تستوي في مدارها بعد أن يبلغ بها الصاروخ هذا المدى, ولكنها بعد ذلك تعمل بقوتها الذاتية, ولم يبق للصاروخ إلا أن يعود إلى الأرض حطاما.

هذه هي شهادتي المختصرة عن محمود شاكر بعد رحيله, وأما حالي الشعورية مع ذكراه فيعبر عنها قول المتنبي:

نصيبك من حياتك من حبيب نصيبك في منامك من خيال

 

 

محمود الربيعي