أرقـام محمود المراغي

أرقـام

من حرب النبيذ.. إلى حرب السينما

في عام (1993) انفجرت حرب النبيذ بين فرنسا والولايات المتحدة، وكانت ملامحها دعما فرنسيا لإنتاجها بما يجعله رخيصا في الأسواق الأمريكية.. وردت أمريكا بفرض رسوم إضافية هدفها: الحد من انتشار النبيذ الفرنسي الذي ارتفعت أسعاره بشكل غير مسبوق وقتها، لم يجد الطرفان غير الحلول الودية.. المزيد من المفاوضات، والمزيد من بحث عن حلول للخلاف.

حدث ذلك بالنسبة للنبيذ، وتكرر في سلع أوربية كثيرة وكان السؤال المطروح: إلى أي حد تستطيع الدولة، أو يستطيع التكتل الاقتصادي - مثل الاتحاد الأوربي - فرض حماية على المنتج المحلي؟

وقد أثير السؤال بدرجة أكبر مع تطبيق اتفاقية الجات التي تطالب بفتح كل الأبواب، وهدم كل الأسوار .. سواء بالنسبة للسلع (كالمنتجات الزراعية أو الصناعية).. أو بالنسبة للخدمات مثل البنوك والتأمين وما يدخل في مجال الملكية الفكرية كالكتاب والسينما والفيديو وبرامج المعلومات (الكمبيوتر).

قبلها كانت الحرب مستمرة من جانب الولايات المتحدة التي تحتل فيها السينما كما تحتل صناعة المعلومات - مركزا متقدما يسبق معظم المجالات السلعية والإنتاج المادي..

وقبلها، كان للولايات المتحدة جولات مع العالم كله لحماية إنتاجها الفكري والفني. خاضت معركة مع الصين، وأخرى مع البلاد العربية والهدف هو الحصول على مقابل الحقوق الأدبية والفكرية التي تهدرها عمليات التقليد، أو سرقة الاختراع، أو اختلاس الماركات..

كانت المعركة عالمية، ولكن، عندما جاءت اتفاقية الجات بدت المعركة، في أحد ميادينها وهو ميدان السينما وكأنها معركة "أمريكية - أوربية".

في ذلك الوقت (أعوام 93، 94، 95) بدت السينما العالمية في مفترق طرق .. كانت السينما الهندية - وطبقا للمجلات والدوريات المتخصصة - تقدم حوالي تسعمائة فيلم في العام، وكانت أسواقها الرئيسية: جنوب شرق آسيا، واستراليا، ودول الخليج العربية.

كانت الهند هي الأكثر إنتاجا، لكنها لم تكن بأي حال هي الأكثر أهمية وسطوة وتأثيرا في سوق السينما.. كان المحور الرئيسي أوربيا - أمريكيا، وأمريكيا بالدرجة الأولى.

في أوربا، كانت السينما الإيطالية تلتقط أنفاسها بعد تراجع استمر عدة سنوات، بل إنها شهدت - كما يقول النقاد - صحوة جديدة ودماء شابة أعطت الأمل في أن تسترد بعض ما فقدته.. ولكن إنتاجها السنوي ظل بعيدا عن الإنتاج الأمريكي.. فالأخير يفوقه بخمس مرات على وجه التقريب، إذا كان القياس هو" عدد الأفلام المنتجة".

في نفس الوقت، كانت السينما الفرنسية تحارب معركة الوجود بعد أن حققت حوالي (10 - 12%) من حجم السوق العالمية.. وكانت السينما البريطانية في طريق مسدود، حتى أن الناقد البريطاني جيمس بارك - في كتاب له عن السينما البريطانية - يقول: إن الإنجليز قد فقدوا حسهم التاريخي، وأن جوائز الأوسكار التي حصلت عليها السينما البريطانية - كما يقول ناقد آخر - أعطت صورة غير حقيقية عن حالة السينما التي تحولت إمكاناتها للتلفزيون أو الفيديو، وأهداف أخرى.. بعضها أمريكي.

تراجع الفيلم في التسعينيات فأصبح عدد الأفلام المنتجة يتراوح بين عشرين وخمسة وعشرين فيلما في العام، وإن لم يمنع ذلك حجم المشاهدة من التزايد السريع حتى ان عدد المشاهدين قد زاد إلى ضعفه عام (1993) بالمقارنة بعام 1985.

اتجه المشاهد البريطاني للفيلم الأمريكي، ولم يكن وحده.. ولكن إمكانات السينما كلها اتجهت غربا.. هرب أفضل المخرجين إلى هوليوود، وعاد البعض منهم ليعمل بإمكانات السينما البريطانية وتكاليفها المنخفضة لينتجوا أفلاما تعتمد على نجوم أمريكيين يضمنون الشهرة والرواج. لقد غزت السينما الأمريكية بريطانيا بمختلف الوسائل وتكرر الأمر في بلدان كثيرة.

في شرق أوربا كانت السينما في نقطة تحول.. من "سينما الدولة" إلى "سينما السوق".. ولكن، لأن ذلك يحتاج إمكانات مالية وفنية كبيرة فقد كانت الفرصة مواتية للسينما الأمريكية.

قفزت أمريكا إلى الشرق الأوربي قبل أن تقفز السينما الفرنسية أو الإيطالية أو الألمانية.. وراح رجال الأعمال في هوليوود يمهدون الأرض.. ليس بمجرد إنتاج أفلام مشتركة، وإنما بإقامة وامتلاك دور عرض بأسعار منخفضة جاذبة. وبالطبع، لم تكن هذه هي أهم المعارك الأوربية - الأمريكية.

الفيلم الأمريكي وحرب "الجات"

في ذلك الوقت، وعند مناقشة "الجات" كانت السينما الأمريكية من حيث عدد الأفلام المنتجة سنويا هي الدولة الثانية بعد الهند، ولكن المقياس على هذا النحو كان خاطئا.. فالمقاييس في مجال السينما تمتد من حجم رءوس الأموال المستثمرة، إلى حجم السوق الذي تستولي عليه هذه السينما أو تلك، وامتدادا لنفقات التسويق التي تسجل - في هوليوود، أمريكا - ارقاما قياسية.

في الولايات المتحدة يعتبرون صناعة السينما والترفيه هي الصناعة التصديرية الثانية أو الثالثة.

وفي الأعوام الأخيرة - وطبقا لهوليوود ريبورت - فقد فاق حجم الاستثمار السنوي في هوليوود وحدها نحو عشرة مليارات من الدولارات.. وكانت إيرادات دور العرض الأمريكية (عام 1994): 5.25 مليار دولار.. واحتل الفيلم الأمريكي مكانته العالمية بالإبهار الإيقاع السريع، والدعاية المكثفة حتى أن نفقات في الدعاية والتسويق التي يتحملها الفيلم الأمريكي تعادل نصف تكاليف إنتاجه.

إنها صناعة الأرقام الكبيرة، وعندما تعبر الحدود من خلال الفيديو الذي أصبح هو الوسيلة الأخطر.. أو من خلال القنوات الفضائية والكابلات.. ومباشرة من خلال العرض المباشر في دور السينما، عندما يحدث ذلك تكون له الغلبة.

في الأسواق الأوربية، يحتل الفيلم الأمريكي المركز الأول والعكس غير صحيح عندما يعبر الفيلم الفرنسي - على سبيل المثال - الأطلنطي متجها إلى أمريكا.

في الولايات المتحدة ترفض كثير من دور العرض تقديم أفلام غير أمريكية، وبينما يتوقع النقاد والمهتمون بهذه الصناعة الا يزيد عدد دور العرض الأمريكية التي تقبل تقديم فيلم فرنسي على ستمائة دار.. فان دور العرض الفرنسية التي تفعل العكس وتعرض أفلاما أمريكية يتراوح عددها بين (1500 - 2000) دار.

المنافسة اذن غير عادلة، والسينمائيون في أوربا يقولون ان فتح الأبواب طبقا لاتفاقية الجات يعني القضاء على السينما الأوربية.. بل ان احدهم يقول ان الامر لا يحتاج إلى أكثر من خمس سنوات حتى تموت السينما الفرنسية.. اذا جرى فتح الأبواب كاملة.

المفاوضات كانت تجري والإجراءات الحمائية - التي تشكو منها أمريكا - مستمرة.. فالتليفزيون الأوربي يلتزم بنسبة عالية من البرامج الأوربية.. والتليفزيون الفرنسي على سبيل المثال يضع قيدا حديديا هو الا تقل البرامج الفرنسية عن (40%) من البرامج.. والبرامج الأوربية عن (20%).. و.. بما يغلق الباب أمام الولايات المتحدة ببرامجها الكثيرة.

أيضا وحين يذهب المشاهد إلى السينما في فرنسا، فإن 11% من ثمن التذكرة يذهب لدعم صناعة السينما الفرنسية، وبما يجعل الأمريكيين يقولون: لا يكتفي الفرنسيون بأنهم يدعمون أفلامهم لتحارب أفلامنا.. لكنهم يجبروننا من خلال تذكرة السينما على أن ندعم الفيلم الفرنسي بجزء من إيراداتنا.

الحرب مستمرة، وأنصار الحرية يؤيدون الحماية، والجدل دام شهورا طويلة في الأوساط الفنية والصحفية.. بل وفي داخل البرلمان الأوربي الذي قفز له أشهر المخرجين والمنتجين ورجال الصناعة ليقولوا: "احمونا من السينما الأمريكية".

 

محمود المراغي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات