ذلك الأستاذ المتوحد

ذلك الأستاذ المتوحد

كان ذلك في مطلع صيف عام 1962, فرغت لتوي من امتحان الليسانس في كلية دار العلوم وعليّ انتظار النتيجة حتى أعرف مصيري, همس لي صديق يكبرني بعدة سنوات يعمل معيدا في الكلية ذاتها ويعرف دروب القاهرة أكثر مني:

ـ تعال أصحبك إلى بيت الأستاذ شاكر وأعرفه بك. كان صديقي حينئذ شابا عظيم الطموح والحيوية, عصاميا من الدرجة الأولى, حاد الذكاء واللسان, علّم نفسه الفرنسية وهو في الأزهر حتى ترجم عنها عدة كتب شهيرة, يعاني من آثار ارتباطه بتنظيم الإخوان المسلمين, يريد أن ينقذ مستقبله ويحقق حلمه الخاص والعام. ذهبت معه برغبة مكتومة في استطلاع المجهول, كانت دهشتي كبيرة عندما دلفت إلى الشقة الكبيرة الوضيئة التي تشغل دورا بأكمله في إحدى عمارات مصر الجديدة الواسعة, كانت مثل "دار العلم" التي قرأت عنها في بغداد القديمة, تغطي الكتب جدرانها تماما منذ المدخل حتى باب الحمام, أيقنت أني قد جئت إلى المكان المناسب, فقد كان رهاني مع أصدقاء الشباب خلال الصيف من يقرأ كتابين في اليوم الواحد.

كنت قد زرت كثيرا من أساتذتي الكبار فلم أجد أحدا منهم قد حوّل بيته إلى "دار الكتب" مثل هذا الأستاذ المتوحد المحوط بالهيبة وبعض الأسرار, فهو محقق شهير لكنه معتزل للحياة العامة, سمعت أنه لم يكمل تعليمه, هجر كليته عقابا لأستاذه, كان يعاقب طه حسين نفسه.

أخذت أدور دائما بين الرفوف لا تستقر عيني على عنوان واحد, هالني هذا التنوّع المذهل في الكتب, وفاجأتني حداثة كثير منها, كنت أعرف أنه سلفي محافظ, لكن أحدث دواوين الشعر الحر, ـ كما كنا نسميه حينئذ, وهو منظور إليه بارتياب في كليتنا ـ كانت هناك, وروايات جديدة, ومطبوعات بيروتية وعراقية, هل يعرف بوجود كل هذا الإنتاج ويقتنيه ويظل مع ذلك ما هو?

ألقيت نظرة على المنضدة فوجدت جميع الصحف والمجلات الثقيلة والخفيفة, ليس عيبا إذن أن يقرأ الشيوخ "الكواكب" ويطالعوا "أخبار الفن"?

لكن الحقيقة أنه لم يكن شيخا أبدا, كان يلبس القميص والبنطلون مثلنا ويتحرك برشاقة ابن العشرين وقد تجاوز الخمسين من عمره.

لكن أبرز ما لفت نظري فيه حينئذ كانت طريقته في الكلام, شديد الثقة والاطمئنان واليقين بما يقول, نموذج العالم المحيط بكل شيء, خطر لي أن أسأله بسذاجة: هل قرأت كل هذه الكتب? لكنه كان يتحدث فيوقع في قلبك أنه قد قرأ أضعافها مما لا يعرفه أحد.

وأخذت اكتشف بالتدريج "دار العلم" هذه طيلة الصيف بأكمله, تبينت أنها دار عربية أكثر منها مصرية, تمثل "ورشة" مكثفة النشاط للباحثين العرب من الشباب والشيوخ. عرفت أن كثيرا من الأعمال الأكاديمية الباهرة قد تمت في مطبخها وعلى نارها وأن بعض الكشوف المهمة قد انبلجت أولا في أركانها وأن بعض الأسماء الكبيرة قد تشكلت فيها, أكثر من ذلك, سرعان ما أدركت أنه ليس هناك كبير عند الأستاذ سوى العلم والحقيقة, رأيته يحتد على بعض محدثيه مباشرة أو في الهاتف صائحا: يا جاهل, ألم تقرأ كذا? من الذي جعلكم أساتذة? والأغرب أن محدثه لا يغضب منه, بل يضحك ويبتلع العبارة. كنت أريد أن أعرف سر هذه "السلطة" العلمية التي يمتلكها الأستاذ وتبيح له تسفيه الآخرين.

ولكن غواية السلطة العلمية كانت تجعله في تلك الفترة يناطح السلطة السياسية, يعارض عبدالناصر علانية في مجلسه ويسخر من رجال الثورة, ولم يكن يملك من الشعبية ما يحميه من البطش مثلما كان يملك العقاد, لكن الطريف أن بعضهم كان يذهب إلى بيته, خاصة ممن أصبحوا في الظل, مازلت أذكر أنني ناقشت زائرا له بعدوى حدته فأخبرني بعد انصرافه بأنه "رشاد مهنا" الذي كان وصيا على عرش مصر, وعندما حدثت نكبة الباقوري كان مجلس شاكر من أبرز أسبابها, وقد لقيت لديه كبار رجال الدعوة والفكر والأدب وهم يلقون منه نفس المعاملة الصارمة المحبة في الآن ذاته, يحيى حقي, محمود حسن اسماعيل, مصطفى السباعي, وآخرين لم تستوعبهم الذاكرة.

أخذت أتدرب على ممارسة التعامل في المصادر الموسوعية الكبيرة والمتخصصة الصغيرة على يديه, أعمل "صبي" محقق ينبطح على الأرض أو يقفز على السلم إلى السقف لإحضار كتاب وتقليب صفحاته للتأكد من اسم أو فقرة أو تاريخ, ضاق صدري بسرعة من هذا الدور فتجاسرت على سؤال "المعلم":

ـ هل تفني عمرك في خدمة المؤلفين القدماء, وأنت قادر على أن تكون مثلهم, تكتب أعمالك التي توقعها باسمك?

ـ اسكت يا جاهل, هذا ذنب من علموك في الجامعة.

تذكرت بعض النوادر الشائقة التي كان يحكيها أحد أساتذتي الظرفاء عن سوء ظن الأستاذ شاكر بالجامعة وأساتذتها, فهم بالنسبة له من عملاء المستشرقين, وبما أن هؤلاء المستشرقين نماذج فادحة للجهل المطبق بالثقافة العربية في تقديره فما بالك بتلاميذهم!

وكنت أدرك أن هذا الثأر الصعيدي المتطرف المخلص الذي ينطلق منه الأستاذ شاكر يظلم كثيرا من المستشرقين الذين حققوا أهم النصوص العربية قبل أن نعرفها وكشفوا عن جوانب لامعة من حضارتنا الإسلامية لم نكن على وعي بها, وأن التعميم مزلقة للخطأ الشديد, فهناك منا ـ وما أكثرهم ـ من هو شديد الجهل والغباء والادعاء, وأن المنهج العلمي على الأقل, بكل منجزاته الحضارية, لابد أن يصبح الفاصل بين الصحيح والخطأ, وأن تاريخ العلم هو تصويب مستمر للأخطاء.

لم أستطع يومها أن أقول للأستاذ شاكر كل هذا الكلام, ولا أن أقنع به صديقي الذي كان شابا طموحا وانتهى به الأمر الآن أن أصبح من قادة الأصولية الفكرية والأكاديمية, لكن يظل في رقبتي دين لهما, فقد تعلمت من الاختلاف معهما أن أصبح أقل يقينا وأخف حدة وأشد ثقة بحركة المعرفة الإنسانية في نموها المبدع الخلاق.

 

 

صلاح فضل

 




العلامة محمود شاكر متوسطا بعضا من مريديه خلال إحدى زياراته للكويت