واحة العربي

واحة العربي

السينما
فن الشاشة البيضاء الذي أثر في السلوك والعقول والتاريخ واقتحام البنوك ووسائل النصب

عندما أدار الأخوان لوميير آلة السينما توجراف (1895) ليعرضا صورا متحركة على ستار فضي، أو على شاشة بيضاء، مستفيدين بآلة أكثر قدما - هي الكيتوتوسكوب التي ابتكرها الشهير أديسون، لم يطف ببالهما أنهما قد فتحا العقل الإنساني لآخر المدى، وأنهما أطلقا أحلام يقظة البشرية فردا وجماعة وأمما، ليعود الإنسان إلى مشاعره وسلوكه وخططه ليعيد صياغتها، وليدخل هذا الابتكار تعديلا في تكوينات دم الإنسان ليصبح كرات حمراء، وكرات بيضاء، و هيموجلوبين، و بلازما، وسينما.

والذين يعيشون على الأرض الآن- أطال الله في عمر الجميع- استلمتهم السينما الناضجة أطفالا، أي بعد أن نمت وكبرت ووضعت على سحنتها المكياج المناسب، وخصوصا بعد أن أضافت للشاشة أبعادا ولوسائل العرض تضخيما، لتصبح السينما عنصرا أساسيا في طقوس حركة الناس وعاداتهم وأساليب حياتهم، فاستفاد الغرام المكتوم المحاصر ليغدو مشبوبا وملتهبا ومؤثرا، ولتمسي العلوم الصعبة المعقدة صورا حية معبرة واضحة يسهل فهمها، ولتتغذى حكايات البطولة والاستشهاد بمشاهد اقتحام الحصون والعوائق والقلاع والخطوط الدامية، ولتقدم لذوي النوايا السيئة خططا كاملة- ودقيقة- لمداهمة البنوك واختطاف الطائرات ووسائل النصب والإيقاع بالفاتنات، والهروب داخل الأنفاق الأرضية، شوشرة الجواسيس على إشارات مسئولي الأمن، كما قدمت التاريخ لمن يصعب عليهم إدراك ما يعنيه التاريخ، غزو نورماندي وموقعة دنكرك ومحاكمات نورمبرج وظهور الإسلام وحياة المسيح وسرقة كنوز الفراعنة ومطاردة المصريين لليهود في الوصايا العشر، كما نجحت القوى المؤثرة في إسباغ أيديولوجياتها على السينما، ومن بين أسباب انهيار الاتحاد السوفييتي: السينما الغربية - الأمريكية على وجه التحديد والذي يشاهد فيلم "دكتور زيفاجو" (عمر الشريف- جيرالدين شابلن) سيرى فيه ما يوازي طاقة سلاح كامل من الطيران والمدفعية وجهد ألف كتاب دعائي ومائة وخمسين سفارة موجهة، لكنه كان فيلما واحدا- فما بالك ومؤسسة السينما الغربية كلها ظلت مشغولة منذ البواكير بتحطيم الاتحاد السوفييتي؟؟.

لم تترك السينما علما دون أن تلتهمه وتفرزه صورا وموسيقى: الهندسة والرياضة وحركة الإلكترونيات والفنون الجميلة والاكتشافات والرحلات، ومازلت حتى اليوم لا أمل من انغماس في جولاتها داخل المناجم والكهوف وعلى السواحل وفي عمق الغابات وعلى مسطحات ثلوج الشمال تحت سطح الماء وبألفين من الأميال، وهي- مع ذلك- قادرة على إشعال النار في الأجساد الميتة، وإذكاء اللهب في القلوب الباردة، وإثارة الذكريات الحبيبة الكامنة في حفريات الماضي الأثير، وهي خلال أي من ذلك لا تعدو أن تكون ماردا عملاقا يلبى- سريعا - مطالبك وأمنياتك وأحلامك، على أن تجيد فتح القمقم- في الوقت المناسب، مع إدارة هذا المارد بالكلام المناسب أيضا.

ومن نافلة القول أن نعتبر التليفزيون (ومعه الفيديو) ضد السينما، إنه قد يؤثر في صناعتها، لكنه الابن البار للأم القوية الذي أدرك مراميها وأهدافها، فامتدت نشاطاته لتنقل الشاشات البيضاء من الساحات والقاعات: إلى الشقق والمقاهي والبيوت، ليحرمنا من تلك المتعة التي انحسرت وذبلت: أن تأخذ زوجتك وتسيران معا مثل المغرمين، وتدعوها لمشاهدة رامبو أو روكي في أي من أجزائهما المتعددة، ذلك لأن سيلفستر ستالوني ينام في أحد الأدراج منتظرا بالبيت.

 

محمد مستجاب

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات