محطات مضيئة في تاريخ السينما المصرية

محطات مضيئة في تاريخ السينما المصرية

في إطار حرصها على إضاءة المشهد السينمائي العربي المعاصر، تواصل مجلة العربي استضافة أقلام النقّاد في الوطن العربي، وبعد تقديم سينما المهمّشين في عدد سابق، يتحدث كاتب هذا العدد عن الأفلام التي تستحق استقطاب النقد في السينما المصرية المعاصرة.

بالرغم من الضوضاء التي أحدثتها السينما التجارية في مصر خلال السنوات الأخيرة، فهناك بين آن وآخر بعض الأفلام التي تشذ عن القاعدة، والتي تعطي بريق أمل لمستقبل أفضل لصناعة السينما في مصر. على سبيل المثال هناك مجموعة من الأفلام التي لا يمكن إغفال بعض الإيجابيات التقنية والموضوعية التي ساهمت في طرحها، وعلى سبيل المثال; مَنْ يمكن أن ينكر أهمية الأفلام الخمسة «اللمبي، وسهر الليالي، وهي فوضى، وحين ميسرة، وواحد صفر» في ربع القرن الأخير عموما، وفي فترة السنوات العشر الأخيرة على وجه الخصوص؟ ألم تدلل مثل هذه الأفلام على أن ذائقة الجمهور موجودة وتبحث عما يرضيها إن وجد؟ هل أدرك منتجو السينما في مصر أن الجمهور المصري له ذائقة خاصة، حتى وإن بدا مُغَيَّبا و«قليل الذوق»؟ وهل أدرك الجمهور المصري، حقا، أنه جدير بسينما تحترم عقله وأحاسيسه وجسده وحياته بالكامل؟ عندما تشكل إجابات هذه الأسئلة جملة مفيدة، سندرك بدرجات متفاوتة أن مسيرة السينما المصرية الجديدة بدأت بفيلم اللمبي، واكتسبت ملامح مميزة بفيلم واحد صفر، مرورا بسهر الليالي وهي فوضى وحين ميسرة.

فيلم «اللمبي» جاء، في حينه، من حيث التوقيت، ومن حيث الرسالة التي يثبتها كنقد لما بدا وكأنه يروج له. كدعوة لـ«خلع برقع الحياء». ويبدو أن الذين هاجموه، أو حاولوا منعه، أدركوا أنه موجه إليهم قبل أى أحد آخر. فهو غاية في «الوقاحة»، ولكنها «وقاحة» فنية بكل المعايير. تلك الوقاحة التى تنظر فى عيون الوُقُح والمدعين سواء كانوا مثقفين أورعية». وهو دولة «مصغرة»، و«مجتمع» موجود بكل المواصفات التى عرضها الفيلم. الكثيرون تحدثوا عن أخطاء فى سيناريو أحمد عبدالله، وفى إخراج وائل إحسان. ولكن لماذا لم يتحدثوا عن بناء السيناريو الجديد، أو الجديد فى بناء هذا السيناريو؟ ولماذا لم يتحدثوا عن إيقاع «الهزل» الجديد، أو «المسخرة» الجديدة؟ «اللمبي» دش ماء بارد، وصفعة، ووقاحة تنظر فى عيون من هم أوقح منها.. فهل أيقظ ذلك أي شيء فى روح أى أحد؟ إن مضمون الفيلم، وأهميته، يكمنان فى إطاره العام-الخادع والمخادع، وبالذات فى إطاره وليس فى التفاصيل غير الجديدة بالمرة.. ألسنا نراها يوميا، ونعيشها أيضا!

وجاء فيلم «سهر الليالي» ليعيد الأمل والبهجة إلى صناعة السينما المصرية، وليعيدنا إلى لغة السينما الحقيقية، الطازجة، بين الخرائب الممتدة على طول وعرض دور السينما فى مصر. فهو فيلم «داس»، إذا جاز التعبير، على أكثر من 25 عاما كادت تندثر خلالها لغة السينما وتتحول إلى مجرد «بانجو» يشعل خيال «التجار» بشخصيات وهمية، ليتمكنوا، وقد تمكنوا فعلا، فى لحظة هاربة من الزمن أن يشتروا أبطالا لذلك النوع من السينما. أو بلغة أخف وطأة، يصنعوا أبطالا من ورق، وأراجوزات وبهلوانات، ليتحولوا بعد ذلك إلى «نجوم» لا تلبث أن تخبو أو تتحول فى أفضل الأحوال إلى «أنماط» بشرية

لا تصلح إلا للنكت التى ولدتهم فى الأصل. «سهر الليالى» - كان فيلما حياتيا - نفسيا يخرج لسانه حتى للجمهور. وعلى الرغم من أن الكاتب والمخرج اختارا شريحة محددة متحققة ماديا ومهنيا، إلا أنهما من جانب آخر وضعا «المشرط» على مجموعة مشكلات موجودة فى العديد من الشرائح الاجتماعية الأخرى بدرجات متفاوتة، وتمكنا بلغة السينما من التعبير عن كل ما يعتور المرأة والرجل فى الظروف المحددة التى تعرض لها الفيلم.

«هي فوضى» و«حين ميسرة» - فيلمان يحافظان على تقاليد راسخة في السينما المصرية. وخالد يوسف إن كان قد حافظ في «حين ميسرة» على الخطوط العريضة لمدرسة شاهين، فهو قد حافظ على نفسه بالدرجة الأولى، لأنه كان مشاركا أساسيا في فيلم «هي فوضى». كان شاهين قاسيا ومرعبا في فيلمه، وجاء خالد يوسف أقل قسوة، وأشد حدة. فقد تخيلت للحظة خالد يوسف وهو يطرح ما جاء في الفيلم كما هو بالفعل في الحواري المصرية! لقد حاول قدر الإمكان التخفيف من ثقل هذه الحياة وتحويلها بشكل أو بآخر إلى حالة من الشجن والحزن والحركة. هذه النوعية من الأفلام تتميز بلغتها السينمائية الصادمة على مستوى الصورة والكلمة. وجاء الفيلمان في مرحلة تتميز بالعطن والعطب الفنيين والسياسيين والاقتصاديين. وبالنظر إليهما قد نكتشف أنهما حلقتان في مسلسل واحد، أو في محطة كهرباء واحدة عالية الضغط تستخدم في غرف العناية المركزة كمحاولة أخيرة لإنقاذ حياة المريض. هنا تعلو قيمة الجماليات الفنية بمعناها الأكاديمي على الجماليات المبتذلة والبذخ بمعناهما التقليدي. ويكتسب العمل الفني قيمته الحقيقية لا كعمل عابر، بل كخطوة في مسيرة طويلة.

وعلى طريق التنوع، جاء فيلم «واحد صفر» ليبصق من جديد، وفي هذه المرة بالذات، في وجه كل الموبقات. لسنا بمعرض إعادة حكاية الفيلم، ولا الحديث عن إلهام شاهين التي تجاوزت كل تاريخها السينمائي في دور ستتذكره السينما طويلا. هكذا ظهر كل الممثلين من لطفي لبيب إلى نيللي كريم وأحمد الفيشاوي. أما خالد أبو النجا فقد أثبت أنه يتعامل مع أدواره باحترام شديد وقدرة على الفهم والإضافة. فقد كان خالدا جديدا ومختلفا وحقيقيا لدرجة الصدمة. ويبقى فقط صباح وزينة، إذ يمكن الحديث عن الفيلم من خلالهما فقط كشخصيتين دراميتين في العمل الفني، وكممثلتين لديهما إمكانات ضخمة وصدق عال للغاية.

وتفاديا للتكرار بشأن الحديث عن العناصر الاجتماعية والسياسية في الفيلم، والملابسات المحيطة بهذه النوعية من الأعمال الفنية، فالفيلم في حد ذاته علامة مميزة في مجال صناعة السينما كفن وصناعة، ونقلة نوعية، إذا جاز التعبير، على طريق التطوير الذاتي لهذا الفن. فالمخرجة كاملة أبو ذكري المشغولة بالهم الإنساني العام للمجتمع المصري، مهمومة أيضا بالفن السينمائي وتحولات هذه الصنعة المراوغة، وهو ما يجعلها متيقظة تماما في أعمالها لتفاصيل ضرورية في مجملها لكل العاملين في مجال السينما نساء ورجالا. غير أن الخاص هنا «أقصد الاستثنائي» هو أن كونها امرأة جعلها تركز على جملة من التفاصيل الحياتية لتطرحها بصيغ مغايرة أقرب إلى الواقع، وأكثر تناغما مع روح المجتمع المصري. النقطة الأهم، هي أن كل العناصر النسائية في الفيلم فعالة وفاعلة ومتحركة، وقادرة على اتخاذ قرارات حتى في لحظات الغضب.

فيلم «واحد صفر»، سينما حقيقية تحققت بجهود فريق أغلبه من السيدات الفاعلات خارج الفيلم وفي داخله. وتأكيد ليس جديداً على أن المرأة العربية بخير ولديها كل الطاقات الممكنة للإبداع سواء في الفن أو الحياة.

مرارة «دكان شحاتة» ورؤى «بوبوس»

انتظر الجمهور والمهتمون بالفن السينمائي فيلم خالد يوسف الجديد «دكان شحاتة». قبل عرض الفيلم سبقته جملة من المشكلات التي زادت من حدة عملية الانتظار والترقب. قد يكفي هنا ما ناله الفيلم من انتقادات. أما مقالات الاستحسان «أو الأخبار» فكان أغلبها من جانب الصحف في احتفاء متواضع لا يخلو من المجاملة. فالأساس هنا هو المخرج خالد يوسف نفسه، وليس الفيلم الذي جاء سيئا للغاية بكل المعايير الفنية والفكرية. إذ إن مدرسة الإسقاطات والسذاجة السياسية قد ولت منذ زمن.

إن إخفاق فيلم «دكان شحاتة» وسذاجته لا يمكن أن يحيلنا إطلاقا إلى إخفاق المخرج أو السيناريست عموما. فهو مجرد تجربة «فاشلة» قد تدفع الاثنين إلى إعادة التفكير في المسار الفني على المستوى الذاتي، وعلى مستوى الإبداع الفني السينمائي عموما، وعلى مستوى ما يتوقعه منهما الجمهور والمهتمون. وإذا كنا قد بدأنا باللمبي لوائل إحسان، فمن الممكن أن ننتهي هنا بـ «بوبوس» للمخرج نفسه.

فهذا الفيلم جاء ليخفف من مرارة تجربة خالد يوسف في «دكان شحاتة». «بوبوس» تتويج لمرحلة مهمة ضمت مجموعة من الأفلام المهمة. فضلاً عن الصورة السينمائية الرائعة التي وإن عادلت بين الأكاديمي والتقليدي المعتاد، فهي في الوقت نفسه أعطت جرعة من الطاقة على فهم ما يحدث لتشترك مع السيناريو في إبلاغ الرسالة والتحذير. أما السيناريو فقد كان الأذكى فنيا بين العديد من السيناريوهات التي كتبت في السنوات الأخيرة، فقد قدم لنا مساحة فنية فكرية تحتمل تأويلات واضحة ومحددة وحيوية لدرجة كشف المستور بلباقة وحدة.

فيلم «بوبوس» تضمن عدة خطوط درامية، يصلح كل منها لأن يصبح فيلما مستقلا بذاته. فخط الحبيبين الفقيرين نراه يوميا في أفلام كاملة، وخط سيارات الميكروباص وما يجري فيها نراه في أفلام، ونسمعه في حكايات ونكات، ونقرأه في كتب بأكملها. وخط الأفراح الشعبية «البلدي» وما يجري فيها من معارك وتناقضات نراه في كل الأفلام الكوميدية تقريبا. وخط الفساد الاقتصادي والسياسي ملأ السينما المصرية بسذاجته المعهودة. ولأن السينما أصبحت فنا مركبا لا يحتمل الأحادية والآراء الحادة والمطلقة، فالسيناريو الذكي فاعَلَ بين كل هذه الخطوط ليؤصل الرؤى المتناثرة في الواقع الراهن وحدود المستقبل المظلم. كل ذلك في إطار كوميدي عالي الدقة والرقة والوقاحة. إذا كان فيلم اللمبي، وغيره من أفلام الكوميديا المصرية، استورد النكات و«الإفيهات» من الشوارع والحواري، والحانات، ففيلم «بوبوس» فعل العكس تماما، إذ قام بتصدير «الإفيهات» الذكية والدالة. أي أن الفيلم قام بتدوير ما يجري في الواقع ليصيغ جزءاً منه في «إفيهات» جديدة تماما يمكن تناولها والتفاعل معها في الحياة. وأعلى هذه «الإفيهات» هو اسم الفيلم نفسه.

إن خط الحبيبين الدرامي يصل إلى ذروته عندما يتم تبادل الأمكنة بين عادل إمام وأشرف عبد الباقي في مشهد فني نادر يكشف عن المأزق الأخلاقي بين الحاكم والمحكوم، بين رأس المال الطفيلي وبين قيمة العمل المهدرة. أما خط الفرح الشعبي فيصل إلى ذروته عندما ينهار باب الشقة تحت وقع «ثورة» حقيقية لشخص، أو أشخاص انهارت آخر معاقلهم الأولاد ولقمة العيش. أما مشهد سيارة الميكروباص فيصل إلى أعلى ذروته عندما يخرج عادل إمام هويته الشخصية أمام رجل الشرطة - أقراص «الفياجرا». قد يكون هذا المشهد نمطيا وتقليديا ومبتذلا في السينما والمسرح والأدب عموما.. بمعنى أن هذه الفئة العاجزة جنسيا لا يمكنها أن تقدم أي شيء أصلا رغم امتلاكها كل شيء. ولكنه ضمن المعادلة الفنية العامة للفيلم يرمي على أزمة حقيقية يديرها رأس المال الطفيلي وتتجلى في قيام عادل إمام رجل الأعمال الطفيلي - بتوزيع أقراص الفياجرا على أسرة بأكملها ليعيش أفرادها، ويسترجعوا، أفضل لحظات حياتهم وما وصل إليه وعيهم من قيم الحب والجمال والجنس.

بين الفن والسياسة

أما خط الفساد الاقتصادي والسياسي فقد لخصه الكاتب والسيناريست يوسف معاطي في مصطلح «بوبوس» الذي يجيد المصريون البسطاء استخدامه ككلمة مكونة من خمسة حروف. وتاريخ إجادة مثل هذه الأفعال أو المصطلحات شائع «الرباعية والخماسية الحروف مثل ريختر وبعجر وبنجر وشرشر وكارتر وزنفل وقرقر وكَبَّر وشَلَّح..». فقد أصبح نطق كلمة واحدة من هذا النوع أسلوبا للحوار بين البسطاء في الحواري والأزقة، وأصبحت تتضمن كل المعاني والكلمات التي يريد قولها الشخص. أي يمكن تضمينها كل ما يمكن عدم الإفصاح به، والمدهش أن الطرف المتلقي يدرك على الفور مضمون الرسالة بكل أبعاده ودلالاته.

«بوبوس» أجمل تاريخ الفساد الاقتصادي والسياسي، فالرأسمالية الطفيلية التي لا تمتلك جذورا أو قيما تعمل سمسارا ووسيطا، ولا يمكنها أن تمارس دورها التاريخي مثل أية رأسمالية لها تقاليدها وجذورها وإسهاماتها الاجتماعية، فضلا عن دورها الاقتصادي والسياسي الذي هو من صلب تكوينها التاريخي.

فالرأسمالية «العشوائية» لا تفرز فقط عشوائيات سكنية، بل كائنات عشوائية، وعشوائية فكرية. ومن ثم نمط حياة عشوائي وإن كان فخما ومرفها.

«بوبوس» وائل إحسان والثنائي عادل إمام ويسرا، وبقية أوتار القيثارة، رسالة تحذير شديدة اللهجة، وطلب استقالة يتضمن عشرات ومئات وآلاف الأسباب. ويسير عكس كل التصريحات السياسية التي يدلي بها أي من صنَّاع الفيلم والمشاركين فيه. فـ «بوبوس» الجديد القادم لن يختلف عن «بوبوس» القديم. كل ما في الأمر أن القديم استنفد دوره تماما، والمقبل الجديد هو من صلب الـ «بوبوس» القديم ويحمل كل صفاته ليس فقط الوراثية، بل والقيمية أيضا. هكذا يقول لنا مصور الفيلم، وكاتب السيناريو، والمخرج، والبطل في آخر مشهد، وفي كل مشهد، من ملحمة «بوبوس».

التصريحات السياسية تختلف تماما عن الفن. والتصريح السياسي الذي يدلي به الفنان لا يمكن أن يعكس بالضبط عن قدراته وإمكاناته الفنية، ورؤاه السياسية الحقيقية. أحيانا يدلي الفنان بتصريحات سياسية كدرع، أو قناع، يحميه من بطش «بوبوس»، ولكنه في الفن لا يستطيع أن يفعل ذلك. هكذا أثبت عادل إمام، وبرهن من جديد على أنه فنان من العيار الثقيل، قد يتحول إلى كائن عادي وبسيط ومقموع في الحياة، غير الطبيعية، تحت عجلة «بوبوس» مثل كل البسطاء، ولكنه في الحياة الطبيعية، في الفن، ينقلب إلى مارد جبار.

 

 

أشرف الصباغ





فيلم «اللمبي»





أفيش فيلم «بوبوس» من بطولة عادل إمام ويسرا





من أفيشات فيلم «دكان شحاته»





من أفيشات فيلم «سهر الليالي»





أفيش فيلم «كباريه»





أفيش فيلم «هىَّ فوضى ..؟»





أفيش فيلم «واحد - صفر»