«أوزونيا»

«أوزونيا»

«سنبقى على صلة»، من أين أتى بهذه الجملة التي فاجأني بها، ومازلت متفاجئا. كنّا معاً ومنذ زمن، ولم يكن الواحد منّا موصولاً بالآخر. الآن أنا مسمّر على رصيف المرفأ، والباخرة تحرّكت وأخذت تبعد، ويريد أن نبقى على صلة، بودّي أن أشعر بصلة، لكني لا أشعر بشيء.

يلوّح بيده. هل هذه هي الصلة التي يعنيها؟ والمسافة والهواء والبحر الذي سيبعده، وليس ما يربطه بي أو يربطني به ظاهراً وملموساً. أنا مازلت مسمراً في مكاني، رادّا على تلويحه لي بتلويح من محرمة كانت بيضاء، أخذتها من جيبي، ليست مثالية بنظافتها، لقلّة استعمالي لها، لكنها تتحرّك بسهولة وكأنها استنشقت لأول مرّة هواء غير هواء جيبتي.

وبعدت الباخرة، وأخذت تختفي بدخانها الأبيض المتصاعد من دواخينها الثلاثة. ليتني كنت على هذه الباخرة، قلت لنفسي، ثم ردّدت قولي مرة ثانية وبصوت مسموع، وابتسمت عندما سمعت صوتي على رصيف المرفأ، وردّدت الجملة عدة مرات وبصوت لا يخلو من البهجة، ولم ينتبه إليّ أحد، بل لم يكترث بي أحد. «ليتني كنت على هذه الباخرة». أي سحر أبعدها. منذ لحظات كانت هنا. كانت ترسل صفّارات, شعرت عندها برهبة. بشوق. بحزن ممزوج بفرح. شعرت كأنها تعلن عن مجيء عيد جديد, أو انفتاح أبواب على عالم جديد. لست أدري لماذا شعرت بكل هذا «سنكون على صلة» قال لي وهو يودّعني، لم أشعر بما يوصل ما بيني وبينه، الصفارات أنستني سبب مجيئي إلى المرفأ، صارت هي سبب مجيئي، نسيته، بقيت أنتظر عودة صفارات الباخرة «أوزونيا» هذا اسمها. فاخرة كما قال لي، فيها كل ما يريح.. فيها حوض ماء, هذا ما أعجبني، وجعلني في حيرة وعجب، الباخرة تبحر في البحر ككل البواخر، فيها حوض. قلت: باخرة تبحر في البحر وفيها بحيرة. عادت تصفر وتحرّكت وأخذت تبعد عن الرصيف, وراحت صورته تبعد وعاد يلوّح بمنديله. هل كان يلوّح لي! لا ريب في هذا كنا معاً منذ سنوات. إذا كان الآن يلوّح بمنديله فهو يلوّح لي مودعاً «سنبقى على صلة».

بقيت لوحدي واقفا على الرصيف، إلى أن اختفت الباخرة وابتلعها البحر.

لا... لم تغرق، أريد أن أقول إن الباخرة عندما تبعد كثيراً عن الأرض يلفّها أزرق السماء وأررق البحر, فتختفي ودخان دواخينها الثلاثة تصاعد ليلحق بالسحب وصار منها.

عادت الطيور التي رافقت «أوزونيا». راحت تنتقل من مركب إلى مركب، يحط بعضها على الرصيف وكأنها تخبر أن الباخرة تسير وتبحر بسلام وبانتظام، وألا صلة لها بعد الآن بالأرض. فهي وجدت لتبقى في مياه البحر. «ليتني كنت على تلك الباخرة».

 

 

بقلم وريشة: أمين الباشا