ملف المخزنجي: القنَّاص والطريدة: بحثًا عن واقعية جديدة في نصوص محمد المخزنجي

ملف المخزنجي: القنَّاص والطريدة: بحثًا عن واقعية جديدة في نصوص محمد المخزنجي
        

          للوهلة الأولى، تبدو نصوص محمد المخزنجي (1949-) نصوصا جمالية يستعين فيها الكاتب باستراتيجيات وحيل بلاغية ومراوغات فنية عدّة، تشبه مطاردة شائقة بين قناّص بدائي وطريدة مغوية، في مغامرة عجيبة لا يملك القنّاص فيها سوى شرَكٍ وحيد يتمثل في أحبولة الكلمات وألاعيب المخيّلة، وذلك عبر محاولات درامية لخلق نص سردي تتشابك خيوطه في نسيج كلّي تضفره أصابع فنان مرهف. وأقول (نصوص)؛ لأن كتابات المخزنجي تتراوح ما بين «القصص القصيرة»، و«أدب الرحلة»، و«سرد اليوميات»، و«النص المفتوح»، وغير ذلك من مقالات ونصوص. للمخزنجي عدد من الكتب التي يقع أغلبها تحت عنوان القصة القصيرة أولا (مثل: «الآتي» - 1983، «رشق السكين» -1984، «الموت يضحك» -1986، «سفر» - 1989، «البستان» -1992، «أوتار الماء» - 2002)، والنص القصصي المفتوح الذي يطلق عليه المؤلف اسم كتاب قصصي ثانيا (مثل: «لحظات غرق جزيرة الحوت» -1996، «حيوانات أيامنا» -2007)، ونصوص الثقافة العلمية والرحلات ثالثا (مثل: «حكايات بيئتنا الأرض»، «الطب البديل»، «جنوبا وشرقا»).

          لقد اعتاد محمد المخزنجي أن يشيّد نصوصه القصصية خاصة، والأدبية عامة، على أرضية مغايرة تمتاح من فضاء الكتابة الواقعية الرحب؛ أقصد إلى الفضاء الذي يستعين فيه المؤلف بخبراته الطبية والنفسية وثقافته الجغرافية والتاريخية من أجل كتابة نص أدبي، مكثّف حدّ التقطير، مدهش حدّ الغرابة. والواقعية Realism - كمذهب فني ونقدي - تدين بالكثير لأفكار الفلسفة الوضعية Positivism التي أرهص بها كل من أوجست كونت وهيبوليت تين ومدام دي ستال. فالواقعيون - كما كان يصفهم محمد مندور (1907-1965)، مثلا، في كتابه (في الأدب والنقد) شديدو الفطنة والحساسية تجاه ما يحيط بهم من ظواهر فنية وثقافية واجتماعية. وهم أميل إلى الحذر والتشاؤم وسوء الظن؛ لأنهم في الغالب يصدرون عن فكرة سيئة عن البشر، بل وعن النظام الكوني. لكن واقعية المخزنجي تختلف بالتأكيد عن واقعية بلزاك وفلوبير وموباسان وهنري بيك من ناحية، كما تختلف عن واقعية إدريس ومحفوظ والشرقاوي من ناحية أخرى. ولذا، سوف نقف في هذا المقال على وجوه الكتابة الواقعية التي انطلقت منها بعض قصص المخزنجي ونصوصه السردية المتنوعة.

          إذا ما وضعنا نصوص المخزنجي في «ميزان النقد» - بلغة مندور - نجدها تنحو منحى واقعيا في الأغلب الأعمّ؛ إذ تنعطف بسلاسة ورقّة، تشبه رقّة الرومانسيين ووداعتهم، نحو تصوير حياة البشر والأمكنة والمجتمعات، فتصوّر المهن والحرف، والأوضاع الاجتماعية والطبائع المتباينة، بطريقة تذكّرنا بما كان يفعله أونورديه دي بلزاك H. Balzac (1799-1850) في (الكوميديا البشرية) التي كان يحتفي فيها بتصوير البخل والخسة والوصولية والنفاق والوقاحة.. إلخ. إن قصص المخزنجي تقترب اقترابا شديدا من تيار الواقعية في مجاليه وتنويعاته المختلفة، سواء كانت واقعية نقدية تميل إلى تعرية بقع الفساد ومواطن القهر الاجتماعي والضرب عليها بكل قوة (ووداعة أحيانا)، أو واقعية اشتراكية تحلم دائما بتجسيد قيمة العدل الاجتماعي بين الناس بحثا عن ملاذ حقيقي للمعذّبين في الأرض، أو حتى واقعية تسجيلية تُعنى برصد حيادي لتفصيلات الحياة اليومية التي تبلغ درجة الغرائبية أحيانا، بحيث تصبح الحقائق كل الحقائق، القديمة والحديثة قابلةً لإثارة الدهشة، إذا ما استعرنا عنوان مجموعة يحيى الطاهر عبدالله الشهيرة الذي تأثّر به المخزنجي بطريقة لا تقل عن تأثّره بيوسف إدريس. غير أن بعض النقّاد ذهب إلى اعتبار المخزنجي امتدادا أصيلا لتيار قصصي مصري عربي متميز ارتاده يوسف إدريس ورفاقه من كتّاب الستينيات من أمثال يحيى الطاهر عبدالله ومحمد البساطي وبهاء طاهر وإبراهيم أصلان، وغيرهم.

          في مجموعته (سفر)، يرسم المخزنجي صورا عدة لعلاقة الإنسان بالمكان والزمان؛ أقصد تحديدا إلى تأكيده على دلالات الغربة والاكتشاف. فعبر السفر والترحال، تطفو مشاعر الغربة والوحشة وتنمو حواس المغترب لتلتقط كل ما هو جديد وغير مألوف. وهنا يتقاطع الشعر والنثر، أو القصة والقصيدة، ليقدّم لنا المؤلف نصوصا قصصية بالغة التكثيف والشعرية، تتداخل فيها مدركات الحواس ومعطيات الوجدان والذكريات وأساليب التفكير، ليصبح الوجود نصا، وتغدو الكتابة ذاتها وجودا متجدّدا باستمرار. يقول راوي «شمس في الجليد»:

          «تسطع الحجرة فجأة ويأتلق زجاج النافذة، فأقفز من فراشي قفزة فرح غامر، وأقف وراء النافذة ملوّحا أهتف: «إيه يا شمس. ازي مصر. كيف حال الحبايب». وأمعن في حضورها الباهر في العالي، هي الشمس.. تطل من كثافة الغيم الرمادي، فتشتد نصاعة الجليد فوق الأسطح، وعلى فروع الشجر العاري، وعلى الأرصفة، والطريق. ويتحول الجليد إلى ثلج متجانس فوق إفريز النافذة بقرب عيني. هي الشمس التي لم أرها منذ أيام بعيدة، وكأنها الآن تأتي من هناك، من وطني الذي لا تكاد تغيب عنه الشمس. أسألها عن أمي، وأبي، وإخوتي، وأصحابي، وأهلي، ونورا.. نورا، وكتبي، والشوارع، والناس، والبيوت، ولا أعرف لماذا تؤثر ألا تجيب؟؟». (ص 17).

          في مجموعته (البستان)، يتشكل العالم القصصي من ثلاثة فضاءات كبرى هي «الفيزيقيات» (أي عالم المحسوسات)، و«السيكولوجيات» (أي المشاعر النفسية الباطنة)، و«الباراسيكولوجيات» (أي ما وراء النفس وما وراء المألوف). ومهما شطحت قصص المخزنجي في هذه المجموعة، تحديدا، نحو الرمزية أو الإغراب فإنها لا تهدف إلى الترميز الملغز، شحيح الدلالة وباهت الرؤية، بل إلى دمج حالات الوجود الإنساني المختلفة في وحدة واحدة، سواء كانت حالات فيزيقية متعيّنة أو حالات نفسية مستبطنة أو وقائع ما ورائية تفتقر إلى التأويل وإعادة إنتاج المعنى. فصائد البط البرّي، في قصة «الدليل»، جزّار لا يرحم، مخادع لكل البط البرّي السابح في مياه البحيرة، مغتصب لأرواحها، مسيل لدمائها. حتى إن ذكر البط/الدليل الذي كان يقود السرب في عرض البحيرة وكان يمضي بهم نحو حتفهم المقدور، لم يكن يمتلك أدنى قدرة على رؤية الموقف الذي كان مضحكا مبكيا في آن، مؤكّدا على لاإنسانية الإنسان في التعامل مع الحيوان والطير بمنطق سيد الغابة الأوحد. يقول راوي «الدليل»:

          «كيف كان ينتبه الدليل، وقد راقبته عبر منظاري طويلا؟!.. لم يكن ينظر حواليه ولا خلفه. بدا لي أنه لا ينظر إلا إلى نفسه فقط مادام يحس بأن هناك طائرا من بني جنسه يتبعه. ولم يكن الطائر الذي بقي يتبعه أخيرا غير طاقية الهكسوسي المختبئ تحت الماء. البطة الركيكة التي انتفضت بصيحة ظفر كامل. ولم يشدّ الصياد فريسته ليذبحها تحت الماء هذه المرة. لقد أمسك بها مبقيا عليها حية. وأيَّ حياة للدليل في قبضة صياد خرج من الماء الدامي منتشيًا، وحول وسطه تتأرجح مدلاة من أقدامها المربوطة أجساد بقية الطيور.. السرب الذبيح الذي كان!». (ص 11).

          أما القصة التي تحمل عنوان «يوسف إدريس» فهي نموذج لحبكة قصصية تعتمد على مبدأ المفارقة؛ أقصد إلى مفارقة الموقف أو الحدث العارض، حيث يدخل الراوي المتكلّم شقة يوسف إدريس التي دخلها منذ ثلاث سنوات قبل سفره، فيقابل شخصا آخر تماما ليكتشف في النهاية أنه قد دخل عمارة مواجهة لعمارة يوسف إدريس، كما كانت تشبهها في التفصيلات الداخلية وتوزيع الغرف والديكور والأثاث إلى الدرجة التي خُدِعَ فيها الراوي. وبدلا من مقابلة إدريس حسب الموعد المحدد سوف يدرك الرواي خطورة الوحشة التي تستبد بالإنسان وتتركه فريسة الجدران والأشياء والذكريات خصوصًا كلما تقدّم به العمر:

          «أدركَ استغرابي عندما أدرتُ إليه وجهي، وعاجلني شارحا: «عشر دقايق.. كلها عشر دقايق.. ويوسف إدريس موش هيزعل لما آخد منه بعض أصحابه شوية.. نتكلم.. عشر دقايق موش كتير في الزمن ده.. وهو موش هيزعل.. هو ما يعرفنيش صحيح، لكن أنا عارفه.. هو أديب كبير وبني آدم قوي .. هايفهم ويقدّر.. سلّم لي عليه والنبي وبوسهولي». (ص 57).

          المفارقة ذاتها هي ما يواجهنا في قصة «البستان» التي يكتشف فيها الراوي أن صاحبته التي عاش معها يوما مثيرا مفعما بالحيوية بالأمس، متجولا في حنايا سوق المدينة القديم والبستان القابع خلفه، لم يعد لها وجود فيزيقي ملموس. بل ليس ثمة بستان في الواقع خلف السوق. لم يكن ثمة شيء سوى خرابة. وما البستان ذاته سوى صنيعة الذاكرة والمخيّلة المضطربتين:

          «كان السور هناك حقا في الأسفل البعيد، وكانت الخرابة وراءه. لكنني كنت هنا بالأمس وكانت معي وكان البستان. «أنا لم أجن» - وجدتني أردّدها فأنفجر في بكاء يرجّني رجّا حتى خفتُ من السقوط فتراجعت. لحظة ولم أستطع النوى فعدتُ إلى الحافة زاحفا على بطني هذه المرة. أطل على المكان عبر ستار الدموع فيموج الوجود. بلى كنت هناك وكانت معي وكان البستان. ولم يكن ينفذ إلينا من صخب الدنيا إلا شدو سيدة يحلّق صوتها القادر الصافي بترانيم الشاعر» (ص 113).

          أفاد المخزنجي كثيرًا من كتاب (ألف ليلة وليلة) الذي استلهم منه تقنيات عدّة كالحكاية/ الإطار وتوالد السرد وسيولة الزمن القصصي. ففي كتابه (لحظات غرق جزيرة الحوت)، نجده يستلهم إحدى حكايات السندباد البحري الشهيرة، وهي حكاية الجزيرة العائمة على ظهر حوت ضخم. والكتاب في جملته كما يشير المؤلف في المقدمة «تحقيق أدبي قصصي مشيّد على وقائع لحظات حقيقية معيشة تمّ انتقاؤها بروح الفن لا بحرفية التقرير»، يسرد فيه المؤلف تفاصيل نصين (حدثين) كبيرين. أولهما «فصول تشيرنوبيل الأربعة: لحظات كاتب مصري عايش الكارثة» (فيما يشبه دورة الكون الرباعية: خريف، شتاء، ربيع، صيف). وثانيهما «طوابير موسكو 90». وهو إذ يحكي في كل من النصين وقائع حقيقية عايشها مباشرة خلال فترة إقامته في المدن الروسية والأوكرانية (منذ عام 1981م) وتجواله بين ربوعها وضواحيها، تراه يمزج الواقعي بالمتخيل، والآني بالماضوي، فيستدعي أمل دنقل وإيليا أبو ماضي ودوستويفسكي وتورجينيف وتشيكوف وتولستوي وجوركي وليرمنتوف، كما يجمع بين فيزيقا نيوتن ونسبية أينشتين ويوطوبيا أفلاطون والمثاليين، في مشاهد سردية قصيرة ومكثّفة تنم عن وعي دفين يقبع في عقل المؤلف بالحلم الاشتراكي الذي يصبو إلى تشييد مدينة فاضلة لا جور فيها، ولو على سبيل الرومانسية الثورية؛ لأن السبب الحقيقي وراء انهيار الإمبراطورية السوفييتية كان الكذب. والكذب فحسب. وهو إذ يرصد لحظات غرق روسيا التي كانت تشبه جزيرة هائلة لم تستقر إلا على ظهر حوت عظيم كحكاية السندباد العجائبية، يُرهص بسقوط الكثير من الأنظمة العربية الهشّة التي شُيِّدتْ على بعض الشعارات وبعض اللافتات والكثير من الكذب:

          «لقد انهار الاتحاد السوفييتي لسبب واحد يجمع كل الأسباب، وهو: الكذب! (...). ولا أجد شعورا يقارب شعوري في ذلك إلا ما أتصوره عن مشاعر السندباد البحري في إحدى حكايات «ألف ليلة»، عندما تحطمت سفينته في عرض البحر وسبح إلى جزيرة رائعة تراءت له. وبعد أن عاش هنيئا بين ربوعها بدأت في التحرك وراحت تغرق، إذ كانت مجرد تكوين عارض على ظهر حوت. الاتحاد السوفييتي كان احتمالا لجزيرة إنسانية رائعة، لكنها عارضة، على ظهر حوت من أكاذيب الادعاء..» (ص 16).

          وفي المسار نفسه من الواقعية التسجيلية، أو الطبيعية التي تشبه بعض الشبه ما كان ينتهجه كاتب مثل إميل زولا E. Zola (1840-1902)، يأتي كتاب المخزنجي الأثير (حيوانات أيامنا)، الذي يصدّره بمقولة الجاحظ: «لا تذهب إلى ما تريك العين، واذهب إلى ما يريك العقل». لقد استطاع المؤلف أن يمزج بين البشر والحيوان والطبيعة في معادلة لافتة للنظر تؤكّد على وحدة الكون الذي يوصف الإنسان فيه بأنه «العالَم الأكبر» كما كان يقول المتصوفة. يكتسب كتاب (حيوانات أيامنا) فرادته من كونه استطاع أن يحشد مملكة الحيوان بأكملها، وبما يوازي بين سلوكاتها كما في علم الإيثولوجيا Ethology وسلوكات بني البشر في علم النفس البشري. في الكتاب غزلان قادرة على الطيران، وأسماك تنزع أصواتها إلى الشعر. فيه أفيال تحتفي بالماء، وخيول يقتلها الملل. فيه دببة تفقد أسنانها، وجواميس تتفجر في وهج النور. فيه فراشات بحر مغوية للناظرين، وأتن يشعل حليبها محارق التاريخ. فيه جنادب نحاسية لا تغادر البشر أينما حلّوا أو ارتحلوا. فيه ما فيه، لكنها ليست مجرد حيوانات وحسب، بل حيوانات تتجاور وتتقاطع وتندمج كي ترسم صورة كبرى لإنسان العصر الحديث. وهنا تكتسب نصوص الكتاب رمزيتها لتتحول إلى نصوص أليجورية، يصبح معها صرير الجنادب النحاسية صريرا للوعي البشري في أزمنة العبث والتشيّؤ والرأسمالية، ويغدو معه اختفاء «كاتشا» الدليل الذي كان يرشدهم لرؤية فيل إفريقي في الغابات الناميبية غير القابل للترويض أبدا اختفاء مسيّسا يعكس مدى التوتّر الحاصل بين القبائل هناك؛ لأن الفيلة الإفريقية ابنة الطبيعة في عنفوانها وجنونها وبرّيّتها:

          «تُعلي الأم الكبيرة خرطومها في الهواء وتطلق الصيحة لترتفع كل الرؤوس، تُرفع مائدة الماء، وتعود القبيلة كلها في تجاور لصيق حول البركة على مسافة من حافتها، لحظات سكون غامضة تطول على مرأى من الماء، كأنهم يعبّرون عن الامتنان لتلك المنحة الرقراقة، ثم يتراجعون بظهورهم، كما يتراجع البشر عند انصرافهم في بلاط السلاطين والملوك، لا يولّون ظهورهم للماء، حتى يبتعدوا عنه مسافة، عنذئذ تستدير الأم الكبيرة حول نفسها، فيستدير بموازاتها الجميع، يتوقفون جميعا في سكون لبضع دقائق، ثم تتحرك الأم الكبيرة، فتتبعها الأمهات الشابات، فالصغار، فالذكور الذين يحمون ظهر القافلة» (ص 123).

          لقد راهن المخزنجي، منذ مجموعته القصصية الأولى (الآتي - 1983)، على كتابة نص قصصي مكثّف لا يعرف التعقيد أو التركيب، نصٍ شفّافٍ يكشف عن عمق دلالي ورؤيوي يكمن خلف اللغة والكلمات والصور، ولا يتجاوز الصفحة أو الصفحتين إلا في حالات قليلة. ففي قصة «السباق»، مثلا، تتجسد مغامرة الإنسان وجنونه ولعبه مع الحياة ومقامرته عليها مهما كلّفه ذلك. ولن نكتشف إلا في السطر الأخير أن ولع ذلك الرجل الذي كان يجلس إلى جوار سائق الميكروباس ليحثّه على زيادة السرعة ومنافسة السيارات الأخرى في عرض الطريق ما هو إلا إنسان مسكين يمشي على ساق واحدة ويتوكّأ على عكّاز. والأمر نفسه، فيما يتصل بحدّة اللغة وكثافة الجملة السردية المدبّبة، يمكن أن نجده ممثّلا في قصة «ذبابة زرقاء» أو «الرجل الذي نسخر منه» أو «عنبر البنات»، أو غيرها من القصص التي لم تتجاوز فقرتين قصيرتين، إلى الحد الذي يطرح علينا بإلحاح سؤال ماهية ذلك النوع الأدبي البينيّ الذي تتقاطع في جوهره سردية القصة القصيرة وشعرية القصيدة، دون انصهار تام أو تماهٍ. وفي السياق ذاته، تأتي رسوم الفنان حامد ندا ولوحاته التي تتخلل أغلب صفحات الكتاب بشكل منتظم، لا لتشرح القصة أو تحاكي الحدث، بل لتعيد إنتاج الدلالة الاستيطيقية، بريشة مدبّبة، وخطوط مرهفة، منكسرة، حادة الزوايا، وأنفاس وشاعرية لافحة. باختصار، استطاع المخزنجي أن يجدّد علاقتنا بفن القصة القصيرة، وراح يشتغل في تؤدة على مزج المتخيل بالواقعي، فجعل من أغلب الوقائع التي تمر أمام أعيننا أو مدركاتنا دون محض التفاتة حقائقَ قابلةً للدهشة وإثارة الفضول المعرفي، لنكتشف ذواتنا وهوياتنا عبر اكتشافنا حقيقة كبرى تتمثل في كون علاقة الإنسان بالواقع أو الطبيعة أشبه بعلاقة عبثية، أزلية، بين قناص وطريدة!.
-------------------------------------
* ناقد وأكاديمي من مصر.

 

محمد الشحات*