الدكتور كمال عبد اللطيف وعبد الرحيم العلام

الدكتور كمال عبد اللطيف وعبد الرحيم العلام

بحث أسباب الوهن العربي تدفعني لليأس

يعتبر المفكر المغربي كمال عبد اللطيف - أستاذ الفلسفة السياسية والفكر العربي المعاصر، بجامعة محمد الخامس بالرباط - من أبرز وجوه الثقافة والفكر والفلسفة في المغرب، وفي العالم العربي.

ساهم، منذ سبعينيات القرن الماضي، بأفكاره وكتاباته وأبحاثه ومحاضراته، في صوغ أسئلة الفكر والفلسفة في المغرب، وفي العالم العربي، درسا وتدريسا، وله في هذه المجالات مجموعة من المصنفات المضيئة والمؤثرة، المنشورة داخل المغرب وخارجه، وعدد من المساهمات والحوارات الفكرية، في ملتقيات وندوات دولية.

تتوزع اهتمامات الدكتور كمال عبد اللطيف وانشغالاته، منذ ثلاثين سنة، مجموعة من المحاور والأسئلة الفكرية الكبرى، من قبيل: الخطاب الإصلاحي ومتونه، والفكر السياسي العربي والإسلامي، والمرجعيات السياسية الليبرالية، والدفاع عن الحداثة والتحديث السياسي، والخطاب الفلسفي العربي، مشرقا ومغربا، عدا انشغاله وتفكيره في أسئلة النهضة العربية، ومشاريع التحديث السياسي في المغرب، ومحاولاته المتواصلة لإعادة قراءة متون الفكر العربي، ومساهماته الفكرية في مسألة المفاهيم، وفي تطوير الخطاب السياسي العربي المعاصر، إلى جانب تفكيره النقدي في أهم الأسئلة والمفاهيم الراهنة، من قبيل سؤال «الحداثة»، والموقف من التراث والظاهرة التراثية، وغيرها.

إلى جانب ذلك، يعتبر مفكرنا من أبرز الفاعلين والمساهمين بقوة في تحريك المشهد الثقافي وإثرائه، في المغرب والعالم العربي، بحضوره الوازن، وبآرائه، وأفكاره الرصينة والمخلخلة للخطابات الجاهزة والمكرورة، عدا ما يعرف به من نشاط أكاديمي لافت، فإليه أيضا يعود الفضل في تخريج عدد من الطلبة والفلاسفة الجدد. كما يشهد له بموسوعية اطلاعه، على مجموعة من المدارس والاتجاهات الفكرية والفلسفية، العربية والغربية، قديمها وحديثها، وهو ما نلمس جانبا منه في مصادر مؤلفاته ومراجعها.

لقد تمكن الدكتور كمال عبد اللطيف، في وقت وجيز، وبشهادة كبار مفكرينا وفلاسفتنا العرب المحدثين، من أن يحفر لنفسه ولاسمه مكانة خاصة ومرموقة في الوسط الفكري العربي، مما أكسبه ثقة كبريات المؤسسات الثقافية والفكرية والسياسية العربية والغربية، بحيث أضحى الدكتور كمال اليوم، من بين الشخصيات الفكرية التي يعهد لها بإنجاز تقارير ثقافية على أعلى مستوى، كما تتم استضافته كشخصية فكرية محكمة، في عدد من اللجان والجوائز العربية، ذات الصيت والشهرة الواسعين.

في هذا الحوار، طرح الكاتب المغربي عبدالرحيم العلام على الدكتور كمال عبد اللطيف مجموعة من الأسئلة، التي وجد أنها تشكل جانبا أساسيا في اهتمامات وأبحاث د.عبداللطيف وذلك بغية تقريب القارئ العربي من بعض القضايا والموضوعات والآراء الفكرية الراهنة.

  • يعرف المهتمون بالفكر العربي المعاصر أنكم تنخرطون منذ عقود في الاشتغال على متون الفكر الإصلاحي العربي، درسا وتدريسا، بغاية بناء تصور لمشروع النهضة العربية، بدءا باشتغالكم على الخطاب الإصلاحي لسلامة موسى، منذ أواسط السبعينيات، مرورا بمصنفاتكم الأخرى التي تلاحقت منذ بداية الثمانينيات إلى اليوم.
    نود منكم، في هذا الإطار، أن تقدموا لقارئ مجلة العربي، صورة مختزلة عن مسار اهتماماتكم وانشغالاتكم الفكرية?

حول الفكر الإصلاحي

- تعود بداية اهتمامي بأسئلة وقضايا الفكر العربي المعاصر إلى سنة 1974، عندما سجلت أطروحتي الجامعية الأولى حول الفكر السياسي لسلامة موسى، بهدف بناء تصوره لمشروع النهضة العربية، ومنذ ذلك الحين لم تنقطع عنايتي بأسئلة النهضة وإلى يومنا هذا.

وقد أنجزت عملي حول الفكر الإصلاحي لسلامة موسى في صيف 1979، ثم واصلت الاشتغال على متون الفكر الإصلاحي العربي في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، محاولا تركيب مقالات، تعنى بخطاب النهضة العربية في مختلف تجلياته.

أثمرت محاولاتي المتواصلة في العقد الثامن من القرن العشرين مصنفين، يتممان بطريقتهما الخاصة نوعية المقاربة التي قدمت وأنا أقرأ نصوص سلامة موسى، أقصد بذلك مصنف «التأويل والمفارقة» الصادر سنة 1987، ومصنف «مفاهيم ملتبسة في الفكر العربي المعاصر»، وقد صدر سنة 1992. في النص الأول وضعت عنوانا فرعيا، رسمت فيه أفقا محددا في النظر؛ يتعلق الأمر بمحاولة إنجاز تأصيل فلسفي للنظر السياسي العربي. واتجهت في النص الثاني نحو بناء جوانب من محتوى المفاهيم المتداولة في الفكر العربي المعاصر، بهدف محاصرة صور الخلط والغموض التي تقلص من إمكان إنتاج النظر وتأصيله في ثقافتنا المعاصرة. وفي العملين معا، اتجهت للكشف عن مفارقات الخطاب الإصلاحي في فكرنا، مستهدفا بلورة منطلقات نظرية واضحة، تمكننا من تجاوز بعض مظاهر القصور المهيمنة على كثير من تجليات فكرنا السياسي.

  • وهل تجاوزتم في المصنفين المذكورين النتائج التي بينتم في قراءتكم لخطاب سلامة موسى؟

- إن الأمر المؤكد هنا، هو أنني اخترت طرقا أخرى في المقاربة، ذلك أن مقاربتي لكتابة سلامة موسى ونصوصه كانت مشحونة بمنطق البحث في سبل إبراز دور الفكر في صناعة التاريخ وتوجيهه. ولهذا السبب، اعتنيت في العمل المذكور بما أطلقت عليه في خاتمة الكتاب الجبهة الثقافية النقدية، التي عمل سلامة موسى على تعزيزها بجهوده في التنوير، ودفاعه المستميت على ضرورة الاستفادة من الفكر المعاصر. أما في المصنفين الأخيرين، فقد حصرت مهمتي في تعيين المفارقات التي تشل فكرنا وتقلص من درجات إنتاجه، بحكم تغييب آليات التأصيل التي يفترض فيها إمكان المساهمة في تركيب مرجعيات في النظر، يكون بإمكانها إسناد مشروع الإصلاح في واقعنا وفي ثقافتنا..والعمل في الآن نفسه على التخلص من منطق الاستعارة لحساب منطق الإبداع، وبناء الأسئلة والتوجهات التي تتجه لاستيعاب مطالب الذات، في ضوء البناء المبدع لجدليات الخصوصي والكوني في التاريخ المشترك.

  • لكنكم اعتنيتم أيضا في أبحاثكم بالفكر السياسي الإسلامي في العصور الوسطى، وكتبتم دراسة مهمة حول الخطاب الاستبدادي في تاريخ الإسلام، منحتكم جائزة المغرب للكتاب عام 1999؟

- عدت في غمرة انشغالي بمتون ومدونات الفكر العربي درسا وتدريسا في الجامعة المغربية، منذ سنة 1977، إلى أصول المرجعية السياسية الليبرالية، كما تبلورت في الفلسفة السياسية الحديثة، وداخل سياق النهضة الحديثة في أوربا، دون إغفال صور تمثلها في فكرنا المعاصر. وقمت خلال ثمانينيات القرن الماضي بمعاينة جوانب من الفكر السياسي الإسلامي، فقرأت نصوص الآداب السلطانية، كما قرأت الآثار التي بناها فلاسفة الإسلام، بهدف ترتيب نوعية التأويل التي مورست على لغة السياسة في الفكر الإسلامي.

أسئلة الحداثة في الفكر العربي

وقد أنجزت في العقد الأول من القرن الجديد مصنفا جديدا، بعنوان أسئلة الحداثة في الفكر العربي (2007)، عدت فيه إلى مفاهيم الحرية والعقلانية والتنوير، متوخيا تركيب ما نعتبره تحولات مركزية في الوعي العربي. لقد عدت إلى قراءة متون الفكر العربي، استنادا إلى ثلاث محطات افتراضية، محطة إدراك الفارق ثم محطة تشكل الفكر النهضوي، إلى لحظة وعي الذات، حيث يبني الجهد الفكري العربي التصورات الأكثر مطابقة لذاتنا المتحولة في التاريخ، وتندرج أعمال سلامة موسى في لحظة وسطى، أطلقنا عليها اسم لحظة المقايسة والمماثلة، وهي اللحظة التي تهيء الطريق نحو وعي الذات بذاتها، الوعي الذي تزداد أواصر ارتباطه بالواقع، بقدر تمثله لذاته في تنوعها، وتنوع مرجعياتها داخل فضاء التاريخ الأرحب والأكبر، فضاء التاريخ الحديث المعاصر، حيث لم يعد بإمكان أحد أن يضع نفسه خارج مقتضيات التاريخ الكوني الجارف في جريانه وتموجه الصاخب.

وخلال مختلف المراحل التي اعتنيت فيها بأسئلة النهضة العربية المأمولة، كنت اكتشفت باستمرار أهمية مواصلة البحث في هذه الأسئلة، فأمام المتغيرات الجديدة والتحديات الجديدة، التي تواجه المجتمع العربي والفكر العربي، نفترض ضرورة مواصلة الجهد الفكري المستند إلى منظومات الفكر التاريخي النقدي، وإلى مكاسب الدرس المنهجي المعاصر، في تنوعه وتعدده، بهدف مزيد من توطين قيم التواصل وقيم المنزع النقدي في فكرنا المعاصر.

  • تعتبرون أيضا من المهتمين بسؤال التواصل الثقافي بين المشرق والمغرب، ولكم في هذا المجال كتابات، ومشاركات في ندوات حول الموضوع نفسه، منها تلك التي نظمتها مجلة «العربي» في وقت سابق، في إطار ندوتها السنوية.
    ألا ترون أن الحوار الفكري القائم بين المشرق والمغرب قد خفتت حدته إلى درجة كبيرة، وأصبح التواصل والحوار إلى حد ما غير مباشرين؟

- لم أقتنع في يوم من الأيام بمبدأ المفاضلة بين منتوجات الثقافة داخل الفضاءات الفكرية، ذات المرجعية النظرية المتشابهة والإطار التاريخي الجامع، مثلما هو عليه الحال في العالم العربي. وذلك بالرغم من علامات التميز والتمايز العارضة في التاريخ هنا وهناك، في المشرق وفي المغرب، وفيما بينهما.. مثلما أنني لا أقبل الحديث الإيجابي في المجال السياسي باستعمال المفردات الدارجة في بعض الخطابات القومية، من قبيل «الإقليم القاعدة» أو «الإقليم المركز»، مقابل «الأطراف» و«الهوامش» و«البواقي».. فهذه المفاهيم تتخلى عن آليات التفكير بالتوافقات التاريخية، والمواثيق العقلانية، والعهود الإرادية. ولهذا السبب، اتجهت في الندوة التي ذكرت، للتفكير في تقديم ورقة تُعنَى بأسئلة الفكر العربي اليوم، بدل الانخراط في تكريس المفاضلات المُغفلة للشروط المؤسِّسة للثقافة، والشروط اللاَّحمة لسقف النظر هنا وهناك، متجنبا استدعاء مفاهيم الجغرافية المُركَّبة بحسابات سياسية وسيكولوجية ظرفية وعارضة.

وعندما نسلم جدلا بوجود حساسيات في الثقافة المغربية، تميزها داخل فضاء المشهد العام للفكر العربي. ونسلم تاريخيا بوجود أسبقية تاريخية في مجال تاريخ الأفكار في أقطار المشرق العربي، فإننا لن نستطيع إقناع أحد بأن الحساسيات المذكورة، والأسبقيات المؤكدة، تمنح امتيازا لروح الفكر العربي وتمظهراته المختلفة. وإذا كان محمد عابد الجابري قد اتجه في منتصف سبعينيات القرن الماضي لبلورة أطروحة تتجه لترسيخ التقابل والاختلاف بين مشرق يهيمن فيه وعليه فكر الغزالي وابن سينا، ومغرب تمنحه العقلانية الرشدية والواقعية الخلدونية خصوصية، ترفع مكانته الرمزية في تاريخ الفكر الإسلامي في عصورنا الوسطى، فقد تم في نظرنا تفنيذ هذا الموقف، ورَسم معالم محدوديته النظرية، وطابعه التوصيفي المذكور من طرف الأساتذة علي أومليل، ومحمد أركون، وفهمي جدعان وغيرهم. وقد عمل هؤلاء في ردودهم على موقف الجابري إبراز مستويات التداخل والترابط ومحدودية التمايز بين المشرق والمغرب في مجال تاريخ الأفكار، بحكم هيمنة نظام مرجعي فكري واحد في الأداء الفكري العربي.. والتنويعات التي حصلت هنا وهناك، لم تقلب نظام النظر بحكم أن شروط القلب لم تتوافر بعد.

حاصرت الانتقادات التي أشرنا إلى بعضها مسوغات الجابري، البانية لمبدأ التقابل بين المشرق والمغرب، وعمل أصحابها على إعادة قراءة منتوج الفكر الإسلامي بمفاهيم وحدة المرجعية ووحدة النظام المعرفي، ومحدودية الاختراقات التي تحصل بصور مختلفة، في مراحل مختلفة من تاريخ الفكر، دون أن يتمكن أي منها، كما قلنا، من كسر سقف المرجعية المُنمطة لعمليات التفكير ومنتوجه في الثقافة الواحدة، (علي أومليل، ومحمد أركون).

  • يفهم من سياق عرضكم أنكم ترفضون مبدأ القطيعة ومبدأ المفاضلة بين المشرق والمغرب، وكأنكم تقولون كلنا في الهم شرق، كلنا في الهم غرب؟

- وضحت أنني لم أنشغل بموضوع المفاضلة، ولم أهتم برصد التمايز، وقد بدا لي أن استخدام المعايير الجغرافية في رسم معالم تيارات الفكر العربي وملامحه، قد لا تكون مجدية. فنحن نستطيع معاينة جوانب من القوة في الفكر، في مختلف الأقطار العربية وبدون استثناء. ولا نقول هذا من قبيل المجازفة والتعميم السريعين، بل إن متابعة عامة لما يجري في المشاهد الثقافية لمختلف الأقطار العربية، تؤكد ما نحن بصدده مع اختلاف في الكم، تُؤسسه شروط تاريخية ونظرية، تتجاوز مجال الأفكار، كما تتجاوز الأفراد والأقطار، ولا تنطبق على مختلف عقود الزمن المتلاحقة.

علاقة المشرق بالمغرب

  • ننتقل من موضوع علاقة المشرق بالمغرب، لنخوض معكم في مجال تخصصكم، أي الفكر الفلسفي، لنتساءل عن واقع الفكر الفلسفي في المغرب، وعن الدور الذي يمثله اليوم في فضاء الثقافة العربية المعاصرة، فقد كتبتم في هذا الباب كتابين تناولتم فيهما أسئلة الفكر الفلسفي في المغرب المعاصر، كما قمتم في مصنف آخر بدراسة جهود كل من عبد الله العروي ومحمد عابد الجابري، انطلاقا من المكانة التي يحتلها كل منهما في فضاء الفكر الفلسفي المغربي والعربي؟

- نواجه في هذا السؤال موضوعا واسعا، وكما تعرفون، فقد انشغلت طيلة العقود الثلاثة الماضية بتطور الفكر الفلسفي والكتابة الفلسفية في المغرب وفي العالم العربي، وشاركت بدوري في إنتاج مقالة فلسفية، وكنت أسعى دائما إلى إقامة حوار بين الزملاء داخل شعبة الفلسفة، وفي إطار الجمعية الفلسفية المغربية.

وإذا كان لابد من تقديم بعض الملاحظات العامة في هذا الموضوع، فإنه يمكن أن نقول إن ما يميز الكتابة الفلسفية المغربية المعاصرة هو انفتاحها على أفقين فكريين: أفق تاريخ الفلسفة بمعناها الكوني، وأفق التاريخ العام المحلي والقومي والكوني، وخاصة في أبعاده الأيديولوجية والسياسية.

وقد غذَّى هذا الانفتاح المزدوج مجال الفكر الفلسفي المغربي والمغاربي، وخاصة في المغرب وتونس، سواء في مستوى الأسئلة وآليات المقاربة، أو في مستوى الأطروحات والمفاهيم، وهو الأمر الذي سمح لكتابتنا الفلسفية بتجاوز الأسئلة التقليدية، والموضوعات والمفاهيم العتيقة. من أجل بناء توجهات في الفكر، تتوخى تركيب مساهمة فكرية جادة، ومطابقة لمتطلبات التغير التي تجري في الفكر وفي التاريخ المعاصرين.

لا نعثر في الفكر الفلسفي المغربي على أنساق ومذاهب فلسفية، وذلك بالرغم من تشبع بعض أوجه الثقافة المغربية ببعض مفاهيم الفلسفة السياسية، أو ببعض المفاهيم الفلسفية المتداولة في تيارات الفلسفة. وباستثناء جهود محمد عزيز الحبابي في إعادة إنتاج الفلسفة الشخصانية، لا نعثر على تيارات فكرية منتمية إلى مدارس تاريخ الفلسفة المعروفة. وهذا الأمر بالذات، هو الذي يكشف نوعية الإسهام المغربي في حقول الفلسفة المختلفة.

وإذا كان بإمكاننا أن نتحدث اليوم، عن تنوع في المقاربات الفلسفية، داخل فضاء الفكر المغربي، حيث يستوعب الممارسة الفلسفية الراهنة جملة من المفاهيم والاختيارات والمبادئ، شروط هذا الاستيعاب، وهذا الانفتاح تعود إلى الإنتاج الفكري الذي بلوره جيل من المفكرين الذين انخرطوا في عملية إنتاج الأسئلة والمفاهيم والأطروحات الفلسفية، في تجاوب مع متطلبات الظرفية التاريخية المؤطرة لوجودهم. وذلك بالرغم من كل الصعوبات والعوائق النظرية التاريخية والمؤسسية التي تحاصر درس الفلسفة في الفكر العربي. نحن نشير هنا على سبيل التمثيل إلى أعمال كل من: العروي والجابري وعلي أمليل. وإذا كانت جهود الذين ذكرنا أسماءهم قد عملت على إشاعة مواقف وتصورات تاريخية، عقلانية ونقدية في الموضوعات التي ذكرنا، فإنها قد ولَّدت، في الوقت نفسه، أسئلة جديدة، تدعو إلى المزيد من التفكير في سؤال وظيفة النظر المساعد على التغيير، حيث نكتشف أن نصوص الباحثين المنخرطين اليوم في تدريس الفلسفة في الجامعات المغربية، وقد تزايد عددهم في السنوات الأخيرة، قد أثمرت ما يسعف بترسيخ استمرار النظر الفلسفي في فكرنا.

الإسلام والغرب والعلاقة المشكلة

  • يعاد اليوم طرح مسألة علاقة الإسلام بالغرب، بعد أن ازدادت صعوبة وتعقدا في السنوات الأخيرة، وخصوصا بعد أحداث 11 سبتمبر، وتداعياتها المختلفة.
    وقد اهتم عدد من المفكرين في الأقطار المغاربية على وجه الخصوص، بإبراز بعض أوجه هذه العلاقة الملتبسة والمعقدة.
    فهل لكم أن تقربونا، في إطار جهودكم الفكرية، من طبيعة هذا الاهتمام الفكري بهذه العلاقة القائمة اليوم بين الإسلام والغرب، من منظوركم الشخصي، ومن منظور مفكرين مغاربيين، تتفاوت مرجعياتهم وافتراضاتهم حول قضايا مختلفة، وتلتقي عند أخرى؟

- لا جدال في صعوبة الإحاطة بالقضايا النظرية والتاريخية التي تطرحها إشكالية العلاقة بين الإسلام والغرب، خاصة عندما ينتقل فيها الخطاب من مستوى رصد الوقائع والمعطيات التاريخية إلى مستوى بناء النظر وإنجاز المقاربات التأويلية. ونشير على سبيل المثال إلى جهود المفكرين هشام جعيط وعبد الله العروي، المتعلقة بكيفيات ترتيبها لثنائية الإسلام والغرب.

وقد خصص هشام جعيط مصنفا مهما من مصنفاته للتفكير في العلاقة بين أوربا والإسلام (1978)، وصحيح أيضا أن العروي يرى في أول مصنفاته، الأيديولوجية العربية المعاصرة (1967) أنه يصعب التفكير في واقع العالم العربي دون التفكير في الآخر، المحدد في النموذج الحضاري الغربي، وذلك أثناء فحصه لمرجعيات ممثلي الثقافة العربية، فيما يسمى بعصر النهضة العربية، حيث نقف في تحليلاته على نماذج من المثقفين الذين يشتركون جميعا في مواجهة الآخر، المشخص في الغرب الأوربي، يتعلق الأمر بالشيخ محمد عبده والسياسي لطفي السيد وداعية التقنية سلامة موسى. إلا أن هذه الأعمال كانت تندرج ضمن أفق في البحث أشمل، يتمركز كما قلنا في بحث كيفية تجاوز التأخر التاريخي العربي، وبناء مشروع الحداثة العربية.

نستند في بناء دلالة هذا المحور، ونحن نفكر في إشكالية العلاقة بين الإسلام والغرب، في مصنفات الفكر المغاربي المعاصر إلى أعمال كل من هشام جعيط وعبد الله العروي بالدرجة الأولى، وقد اتسمت تأملات جعيط في الموضوع بالطابع السيكولوجي والميتافيزيقي، مقابل اتسام قراءة العروي للثنائية المذكورة بالطابع التاريخي والاجتماعي.

وقد انطلق تفكيرهما معا في الموضوع من مساعيهما الهادفة إلى تجاوز أحوال التأخر التاريخي العربي، فهما معا يقران بواقع التأخر التاريخي العربي الإسلامي، ويقران في الآن عينه بأهمية المنجزات والمكاسب التي تحققت في التاريخ الغربي الحديث والمعاصر. لكن العروي بحس المؤرخ الملتزم بمبادئ الفكر التاريخي ومقدمات النزعة التاريخانية، يرى أن إمكان الخلاص والتجاوز ممكن، بل إنه يرى في المثقف والسياسي الإطارين القادرين على تحقيق ما يهيء السبل لتدارك أفعال ونتائج التأخر. يقبل هشام جعيط كثيرا من مقدمات العروي، وكيفيات تصوره لتجاوز حالة التأخر التاريخي في المغرب وفي الوطن العربي، إلا أنه لا يستكين كلية لتصور الممكن التاريخي المفترض والمتصور في قالب نظري مجرد، فحال التأخر التاريخي الشامل في المجتمعات العربية الإسلامية كما فهمها، لا يمكن أن تستوعبها صيغ الحلول المفترضة والمتصورة في كتابات العروي، انطلاقا من اختيارات فكرية سياسية محددة. لهذا السبب تمتلئ نصوصه ببعض التصورات والصيغ القولية التي يمتزج فيها السيكولوجي بالميتافيزيقي، وهذا الأمر يعني أولا وقبل كل شيء، أننا أمام محاولة في تشخيص أعمق للوجدان التاريخي، لأمة عصف بها الزمان ضمن دائرة صيرورة تاريخية معقدة، لدرجة أنه لم يعد ممكنا في نظره ادعاء أنها تخضع لنظام محدد في التاريخ، بصورة مغلقة.

العولمة والعالم وفكر السوق

  • لكن كيف نواجه ظواهر العولمة التي تتجه لفرض منطق معين على العالم؟ كيف نواجه التنميط القسري الذي تفرضه العولمة الإعلامية؟

- إن عولمة الصورة وقد أصبحت واقعا فعليا، تساهم في عملية تحويل العالم إلى سوق في خدمة مؤسسات وشركات عابرة للقارات ومخترقة للمجتمعات، لحساب آلية في العمل الاقتصادي الهادف إلى تطويق العالم في إطار منظومة سياسية أخلاقية محددة، معادية للتعدد والاختلاف، ومتاجرة بالقيم، منظومة تناهض كل الدول، وكل أشكال الحكم في العالم بمنطق المصلحة والمنفعة، حيث تشهر سلاح حقوق الإنسان أمام أنظمة معينة، وتشهر سلاح الديمقراطية أمام أنظمة أخرى وتبرر الجرائم الكبرى والتدخلات المفضوحة، وتحاصر من تشاء تحت أغطية وشعارات معينة، بهدف بناء نظام من العلاقات الدولية لا يعطي أي اعتبار لمبدأ التعاقد القانوني الدولي، قدر ما يركز في مواقفه على مبدأ المصالح الأنانية المباشرة، المصالح التي تجعل أنظمة بعينها، وفئات بعينها، مؤسسات بعينها فوق الجميع، وهذا المنطق وإن كان في الشكل يأخذ بمبدأ المصالح الوضعي الحداثي والتاريخي، فإنه في العمق معاد للإنسان ومعاد للتاريخ.

في هذا الإطار، يمكن أن نفتح على هامش سيرورة العولمة إطارا للنقاش النقدي المسؤول، والمتجه نحو فضح تناقضات الخطابات السياسية والاقتصادية، التي يعمل الغرب على ترويجها والدفاع عنها، وتمريرها خدمة لاندفاعه المتوحش على حساب قاعدة إنسانية أعرض وأوسع، في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، بل وحتى في بعض المناطق في أوربا، وأحيانا داخل البلدان والمجتمعات التي ينتمي إليها.

إننا نعتقد أن هامش المناورة مفتوح، لكنه لا يكفي للمواجهة. ونحن نتصور أن طريق المواجهة يكون أولا بالعمل على إعادة بناء الذات، والخطوة الأولى في هذا البناء تتمثل، كما قلنا، في التجديد الثقافي وفي التحديث السياسي، ثم في بناء الذات في تنوعها واختلافها، من أجل تأسيس وبناء تكتل اقتصادي وسياسي فاعل في محيطه الإقليمي والدولي. ومن دون ذلك، فإننا قد نرفض العولمة قولا وفي مستوى الخطاب، نرفضها شعارا دون أن نتمكن من مواجهة مختلف الآثار والنتائج التي ما فتئت تترتب عليها في تلافيف مجتمعنا واقتصادياتنا، بل وفي عمق تلافيف قيمنا.

  • نريد في هذا السياق نفسه معرفة كيفيات تصوركم، مثلا، لمفهوم «الهوية»، باعتبار أنه من المفاهيم التي يدور حولها كثير من الجدل، وقد لفت انتباهنا أنكم تميلون أثناء تحليلكم للمفهوم إلى اعتبار أنه لا يعني التطابق والمطابقة، قدر ما يعني الانفلات، فما المقصود بالانفلات؟

- يحمل مفهوم الهوية، في أغلب استعمالاته الشائعة، دلالة السكون والوحدة. وإذا كان مبدأ الهوية في أصوله المنطقية يروم تعيين الشيء في جنسه ونوعه، فإن نقله من مستوى الإشارة المحددة للشيء في لحظة بعينها، إلى مستوى الإحاطة بدلالات الشيء على وجه الإطلاق، ساهم في تركيب تصورات لا علاقة لها بمعطيات الواقع الفعلية. وتتضح هذه المسألة بصورة قوية عندما نفكر بواسطة المفهوم في التاريخ والإنسان والمجتمع والثقافة، حيث تتحول الموضوعات المذكورة بفعل الدلالة المباشرة للمفهوم إلى وحدات وأقانيم مغلقة، لا تعبر فعلا عن معانيها، قدر ما تشير وتعين لحظة من لحظات صيرورة الشيء أو الموضوع، فلا نعود ندري عن أي بشر أو ثقافة أو حضارة نتحدث.

إن مفهوم الهوية في صورته المتداولة في خطب السجال السياسي في الفكر المعاصر، يعتبر مفهوما حربيا بامتياز، إنه مفهوم ينجز توصيفات مغلقة ومطلقة، ليمارس بواسطتها تفكيرا، يتجه لرسم حدود التخندقات والتموقعات الحربية، خدمة لأهداف سياسية تاريخية، لا تعبر عنها تماما التوصيفات والتسميات الموضوعة.

الهوية الإسلامية والمشروع الثقافي

فعندما نتحدث مثلا عن الهوية الإسلامية للمشروع الثقافي العربي في عصورنا الوسطى، فإننا نكون أمام مركب، تختزله الكلمات دون أن تشير إليه في كليته ديناميته، أو تحيط بمختلف أبعاده ومكوناته، ففي هذا المركب عناصر كثيرة متداخلة. وتقدم المنتوجات الفكرية المتبلورة في دائرة الفكر العربي الإسلامي الدليل القوي على عمليات في المثاقفة والتحول، تشدها جوامع فكرية منهجية مشتركة، وتستند إلى مقدمات عقائدية فكرية محددة، لكنها تظل، قبل وبعد ذلك، تشير إلى عملية تاريخية أكثر مما تقدم صورة نمطية مغلقة.

لا يمكننا إذاً أن نتحدث في التاريخ بلغة الهوية الحافظة لذوات مغلقة على ذواتها المعزولة، ومفهوم الهوية لا يعبر عن التطابق إلا بمقدار تعبيره عن الانفلات والتجاوز. وعندما نقبل أن تكون الهوية انفلاتا، فإنه يترتب على ذلك أن الآخر العدو المفترض في المجال الثقافي والحضاري لا يصبح كذلك وبصورة مطلقة، فنحن من جهة وبحكم التواصل القائم والمنجز بيننا وبينه، نكون قد ساهمنا بطرقنا ووسائلنا الخاصة في تحويله إلى جزء من ذاتنا، جزء من لحظات صيرورة ذاتنا في التاريخ.

لا يترتب عن هذا التحليل بالضرورة تجاوز الصراع السياسي والتاريخي القائم بيننا وبين الآخرين في العالم، لكن يجب عدم القفز من موضوع الصراع التاريخي المحدد بدوائر المصالح المتناقضة إلى طمس ظواهر ومعطيات التاريخ الثقافي والحضاري الفعلية والواقعية، أو عدم الانتباه إلى المخاضات والتوترات القائمة في الواقع وفي الفكر، ففي التاريخ العربي المعاصر لحظات شقاء في الوعي وتوتر في التاريخ، ساهمت في تكسير كثير من الأوثان، ولعلنا لانزال نعيش التوترات التاريخية الحبلى بمعطيات ستساهم عاجلا أم آجلا في إغناء وتطوير وإعادة تركيب ذاتنا التاريخية وهوياتنا المفتوحة.

  • نريد أن نختتم هذه المواجهة الفكرية بالتعبير عن الإحساس الذي ينتابنا ونحن نقرأ أبحاثكم وكتبكم، فقد كنا نشعر بأنكم تبدون كثيرا من التفاؤل عند مقاربتكم لمشروع النهضة العربية. ونحن نعتقد أن تفاؤلكم مشروط في أعمالكم بما تلحون عليه من ضرورة التمتع باليقظة العقلية والتاريخية، باعتبار أنها السبيل المساعد على تجاوز مظاهر تأخرنا التاريخي. نريد هنا توضيحا وافيا، يسعفنا بمعرفة سر هذه النزعة التفاؤلية التي تتضمنها أعمالكم؟

- لست متفائلا ولا متشائما دائما، بل إن مقتضيات الانخراط في بحث أسباب الوهن العربي، تدفعني إلى عبور حالات متناقضة، تبلغ أحيانا مقام اليأس. وقد كتبت مرة دفاعا عن الحق في اليأس، موضحا أن انسداد الآفاق أمامنا في العالم العربي، أمام الحكام والأنظمة وأمام المواطن العادي، يدفع المرء إلى حالات من العدمية، ذلك أن الأزمات تلاحقت في عالمنا، وبلغ الاحتقان مداه، ولا يبدو في الأفق مخرج قريب من المتاهة. إن الإقرار بهذا المعطى، والتصريح به دون مواربة ولاخجل، يجعلنا في موقع قوة. فعندما تعظم المصائب التاريخية، ينبغي أن نعمل على مواجهتها دون تردد ولا وجل، لأننا من جهة معنيون بمآلنا الراهن، ولأننا من جهة ثانية متواطئون، بصورة أو بأخرى، في تركيب وترتيب جوانب من كل هذا الذي حصل ويحصل أمامنا، وفوق رءوسنا. إنني أتحدث هنا عن الأوضاع العربية بالمفرد والجمع، أتحدث عنها هنا وهناك.. وذلك لأننا أينما ولينا وجوهنا، لن نجد ما يمنحنا الإحساس بالأمن والرضا عن الحال والمآل. بل إن الأحداث، في جريانها الراهن، تتخذ في الأغلب الأعم طابعا تحار في فهمه العقول.

وإذا كان من المؤكد تاريخيا أن ما يقع في العالم العربي اليوم قابل للفهم والتعقل، بمعايير الاستقراء التاريخي الوضعي، فإن ما لا يمكن قبوله هو أن ننهي العقد الأول من الألفية الثالثة من دون مشروع تاريخي محدد، يرسم الملامح الكبرى لخياراتنا في السياسة والثقافة والاقتصاد والاجتماع.. فقد اختلطت الأوراق وضاقت السبل، ولم نعد ندري إلى أين نحن متجهون.

وما يدفعني إلى التفاؤل هو إيماني بضرورة الإصلاح، لأن جسمنا العليل والمشتعل اليوم في مناطق عربية عديدة في المشرق والمغرب، ينبغي ألا ينهك أرواحنا، فقد مهد كثير من الطغاة في واقعنا لكثير من مظاهر المهانة، التي كسرت في دواخلنا عزة مفقودة. وحركات الطغاة الجدد المعربدة في الأرض العربية لا ينبغي النظر إليها كقدر تاريخي، بل ينبغي استيعابها ضمن سياق تاريخ موضوعي نحن طرف من أطرافه. ويلزمنا شحذ الفكر والفعل، للتمكن من رسم معالم جديدة في طريق المواجهة، أي في طريق تأسيس أصول التجاوز، وفي هذا السياق، ينبغي خوض معركة الإصلاح والانطلاق فيها، «وفي ذلك ليتنافس المتنافسون»، ها أنت ترى الآن سر تفاؤلي!.

 







المفكر كمال عبد اللطيف (يساراً) متحدثا إلى عبد الرحيم العلام





 





الدكتور كمال عبد اللطيف مشاركاً بإحدى الندوات الدولية التي عقدت في مصر حول مستقبل الثقافة العربية