أسرار الإلهام في حياة الشعراء

أسرار الإلهام في حياة الشعراء

جذب انتباهي الباب الابتكاري «وجهاً لوجه» الذي نشرت من خلاله مجلتنا الحضارية «العربي» في العدد 605 (أبريل 2009م) الحوار الرائع للكاتب الكبير جهاد فاضل مع وزير الإعلام والثقافة السعودي، الشاعر الدكتور عبدالعزيز خوجة.

تساءل الكاتب عن عملية تخلق القصيدة عند الشاعر خوجة هل يضع لها مخططا مسبقا؟ وهل يؤمن بالإلهام الشعري؟ فأوضح د.خوجة رؤيته الموضوعية التي فجرت قضية حضارية غاية في الأهمية هي: أهمية الإلهام ودوره في إبداعات الشعراء، وكيفية اقتناص واستثمار لحظاته أو دقائقه التي سرعان ما تختفي ومضاتها من الذاكرة لتوظيفها إبداعيا.

وكاتب هذه السطور يتفق مع كثير مما ورد لأنه من البديهي أن الشاعر الملهم لا يفكر بنفس الطريقة النفعية الروتينية المقيدة للإنسان العادي والتي تراعي ألا تجلب عليه المشكلات والأخطار، أما الملهم فمتحرر من كل شيء إلا إبداعه يضحي في سبيله بالغالي والنفيس ويتبعه تاركا كل شيء مهما كانت النتائج فيهبه كل ذرة من ذاته.

ورد في الحوار أن د.خوجة يؤمن «بالإلهام الشعري» ويعتقد «أن في الكون سحابات كبيرة من الأيونات الفكرية تسير او تدور، إذا أردنا أن نتكلم عن الشعر قلنا إن لدى الشاعر نصف هذه الأيونات الإيجابية داخله وهو يلتقطها ويشعر بها وحينما يتفاعل أيون مع آخر في اللاشعور يشعل هذا التفاعل الكيميائي بين اللامنظور الخارجي والمنظور الداخلي. اللامنظور هو ما نسميه بالإلهام» «يلتقطه المبدع حسب طريقته ومخزونه الثقافي وقابلياته وإمكاناته» وإنه «يجب على الفنان أن يكون مستعدا لإبداع ما»، فالإلهام يسبح في الكون المهم توافر من يلتقطه ويتفاعل معه.

ونود أن نوضح أن هذا السيناريو يتكرر مع الناس لكن العبقري الملهم قد يجد أثناءه ما لا يجده غيره من حلول لما استعصى عليه في الأوقات الاعتيادية، وقد يتلقى إلهامات مستقبلية لحياته أو لإبداعاته يستشف منها النجاح أو الفشل.

وترى د. حسنية موسى في مؤلفها القيم القدرات التنبؤية ان العلم الحديث قد كشف عن بعض القدرات التنبؤية باكتشاف ظاهرة إطلاق المخ للامواج الإشعاعية التي رصدها العلماء باستخدام أدق الأجهزة الإلكترونية وأن لها صفة الترابط Coherent بمعنى أن لها صفة أشعة الليزر وأنها تعمل في مجال الأمواج فوق البنفسجية وتنتشر لمسافات هائلة وأن حدوث الأمواج التداخلية في المخ أمر طبيعي، وكثيرا ما تتلاقى الأمواج في طول موجي واحد فإن تلاقت في ومضه خاطفة يحدث فيها طي الزمان والمكان فإن الإنسان يشعر بقدرة تنبؤية وبما أنه لا يخضع لأي مقياس زمني ولا بعدي فتتكون صور عشوائية تأخذ أشكالا معبرة أو غير معبرة.

فلاحظ علماء الفيزياء الحيوية في عدة مختبرات عالمية ومنهم فريتز ألبرت بألمانيا، وج. دوتوي بفرنسا، ولي بانج ببكين، وكلهام من فلوريدا، لاحظوا أن بعض الخلايا المزروعة ينطلق منها إشعاعات فوق بنفسجية ذات فوتونات متماسكة أي أشعة ليزر، كما أكدوا أن الجينات الوراثية هي بمنزلة محطة تبث إرسالها من الإشعاع الليزري وتستقبل الإرسال أيضا كأنها تتجاوز وتتخاطب مع الوسط الخارجي والكون المحيط بها، هذه الطريقة في الحوار والتخاطب والاحساس المباشر بتغيرات الوسط المحيط هي المسئولة عن التغيرات البيولوجية والفسيولوجية في الخلية الحية ولو كانت الأمواج خالية من الترابط لما خضعت الخلية لأي قانون يحفظ بقاءها ولأصبحت مجرد مادة عضوية معزولة عن العالم المحيط بها أي لا تتصف بصفات الكائن الحي المنتمي للكون والذي يستمد قدرته على الحياة والاستمرار من الله الخالق.

كذلك يوجد في أعماق المخ أعلى الجذع الدماغي «الجسم الصنوبري» وهو بمنزلة عين ثالثة يتأثر بالطاقة الضوئية، هو أيضا مركز للبث الإشعاعي الموجي وأيضا لاستقبال الموجات كما انه مركز للبصيرة وللأفكار وهو حساس للأشعة تحت الحمراء الحرارية حتى في ظلمات الليل، ومن المعتقد أنه يشارك في استقبال وإرسال الأشعة غير المرئية مثل الأشعة فوق البنفسجية والامواج الكهرومغناطيسية ذات التوترات العالية جدا وهو بذلك يقدم للمخ معلومات بطريقة ما تمكنه من الإدراك دون الحاجة إلى الحواس الأخرى فيما يعرف بالإلهام.

ويحاول العلماء حاليا فك رموز الشيفرات التي يرسلها المخ لمعرفة معناها لكن ليس في استطاعتهم ذلك، وتستخدم الآن آليات حديثة لتصميم أجهزة تكشف عن ملايين الأمواج الغامضة، أما الفوتونات فيكمن بها لغز الإلهام ومظاهره المختلفة والسر في كونها أمواجا فوق بنفسجية ليزرية تنطلق من الغدة الصنوبرية خاصة ومن كل خلايا المخ عامة، وعلى هذا فهي أمواج متحدة وقوية تنتشر بمسافات هائلة في استطاعتها أن تجوب الأرض سبع مرات في الثانية الواحدة حاملة معها أدق التفاصيل وترتد مرة أخرى بسرعة 300 ألف كم/ث ويحدث بينها تداخل وتركيب فتنشأ أهداب تداخلية موجية مركزة يطلق عليها أهداب مضيئة تحتوي على كل الأسرار والشيفرات والمعلومات التي تصدرها الخلية الحية.

وفي كل لحظة ينطلق من خلايا المخ بلايين البلايين منها فتتكون الأهداب المضيئة لتصبح مركزا لتجمع وتراكم كل الأسرار والمعلومات فيحدث الإلهام. إن ظاهرة الأمواج الليزرية الصادرة من المخ قد تكون الرسائل الليزرية في المخ أو تتحد مع الكون فيستلهم أفكار أو يلهم بأشكال غير مسبوقة ، كل ذلك لا يتم إلا إذا توافرت شروط الإلهام من هدوء وصفاء وتركيز فكري عميق إرادي أو لا إرادي ومن إرادة حقيقية متواصلة للمعرفة وللإبداع مع ثبات الجهد الإرادي وكثافته ومدى أهمية ما يود المبدع إنجازه ومدى تماشيه مع عقيدته ومدى إحساسه بالمسئولية وثبات صفاته ودافعيته للإنجاز، وعلى الرغم من مشاركة كثير من العمليات العقلية العليا في الإعداد للإبداع إلا أن الإلهام صاحب الأهمية الحاسمة بينها لأنه يسبق الجهد التنفيذي ويصاحب العمل الإبداعي وصولا إلى مرحلة الإتمام. وحتى لا يضيع الإنسان كنزا إبداعيا حتى وإن كان أقرب إليه من حبل الوريد تتجلى أهمية التكامل النفسي والعقلي والوجداني، وأن يحافظ الإنسان على جهازه العصبي الذي يحتل المخ مكان الرئاسة به، فإذا ما ألهم بكلمات أو أفكار أو صور عليه أن يتسلح بمخزون من فنون وبحور التعبير الشعري حتى يحيلها إلى قصيدة واقعية، كذلك في الوقت الذي يصرفه من لحظة تلقيه ومضات الإلهام وإلى التعبير عنها ربما يطول فلا يقبض عليها كما أتت فلا يتذكرها بنفس القوة والتوهج بل يتذكر بقايا ذلك البريق لذا فإن الملهم الإيجابي هو من يضع تخطيطا مناسبا لكي يضطلع بتنفيذه ولا يتسم بالعفوية بل بالدراسة المكثفة وإعمال الفكر جيدا، وهنا تلتحم كل الأمور من تركيب كيميائي للملهم ومخزون معرفي مع الإلهامات لخدمة إنتاجه الإبداعي. فالفن الحقيقي تعبير عما يخالج النفس من ذوبان في الطبيعة وإحساس وجداني بالإنتاج الجمالي المتقن الذي يستلهم الطبيعة ولكن الحضارة للأسف تزيف طبيعة الإنسان وتتآمر على الإبداع بما توفره من قوالب جاهزة فانصرف الإنسان عن الابتكار الفني إلى الابتكار الاقتصادي وأصبحت الأعمال الناجحة هي التي تدر ربحا ماديا فقط حتى وإن كانت مجرد تقليد للسابقين وللمعاصرين ولكم رزح الإنسان تحت قيم أخلاقية بالية وزائفة ونسي أن يستهدي بما جبل عليه فعلا من تعاطف وانسجام مع ذاته ومع غيره ومع الكون وليس بصيغ جاهزة تفرض عليه فتكون بمنزلة هلاهيل ممزقة يحيكها في انسجام مفتعل سواء كانت ذات مغزى جمالي أم لم تكن.

بهذا يكون أستلهامنا الإرادي وبهذا أيضا نتصالح مع ذواتنا ولا نكون شخصيات زائفة تسير في عالم زائف.

محمد محمود عبدالحميد فايد
أخصائي نفسي وباحث وكاتب