هيرتا - مولر: نوبل 2009 .. طوبى للمنفيين!.. أشرف أبو اليزيد

هيرتا - مولر: نوبل 2009 .. طوبى للمنفيين!.. أشرف أبو اليزيد

هيرتا مولر نضالٌ ضد الديكتاتورية

بعد أن أعلنت الأكاديمية السويدية يوم الخميس الثامن من أكتوبر فوز الشاعرة والقاصة والروائية والكاتبة الألمانية، الرومانية المولد، هيرتا مولر بجائزة نوبل عام 2009م ثارت أكثر من قضية، يتصل كل منها بالآخر، كما تتصل شرايين الجسد معًا؛ لأن تلك هي قضايا إنساننا المعاصر والمحاصر، التي عبرت عنها الأديبة الكبيرة. في هذا الملف تقترب «العربي» من عالم مولر، في مقال استهلالي لأشرف أبو اليزيد، وترجمة لبعض من إنتاجها السردي والنقدي والحواري لسمير جريس وحسين عيد، وقراءة في أحدث رواياتها من أحمد فاروق.

-------------------------------------

يطرح فوز الشاعرة والروائية الألمانية هيرتا مولر بالكعكة النوبلية للآداب للعام 2009 أكثر من قضية، يتصل كل منها بالآخر كما تتصل شرايين الجسد معًا؛ لأن تلك هي قضايا إنساننا المعاصر والمحاصر.

في القرن الثامن عشر، شجَّع حكامُ هابسبورج في فيينا المستوطنين الألمان لاستكشاف الأراضي المجرية؛ التي أعيدت إلى الإمبراطورية النمساوية من الإمبراطورية العثمانية. فتحت هذه الأراضي ذراعيها للأسلاف الألمان الذين بدورهم بعد الحرب العالمية الأولى عبروا الحدود إلى رومانيا، وبفضل حلف رومانيا مع هتلر استمتعت الأقلية الألمانية بحماية خاصة، أمنت لها الحفاظ على هويتها الوطنية، حتى أثناء الحكم الشمولي. لكن تشاوشيسكو الباحث عن إثارة الوطنية الرومانية لدعم سلطته الديكتاتورية بدأ بتضييق الخناق على تلك الأقلية، التي أصبحت تعيش منفى قائمًا لا وطنا ثانيا. قضية هيرتا مولر الأولى تخص ثيمة المنفى تلك التي خبرتها تمامًا، فقد ولدت في 17 أغسطس 1953 في المناطق الناطقة بالألمانية في بلدة نيتسكيدورف Nitzkydorf الرومانية، لأب وأم ينتميان للأقلية الناطقة بالألمانية في رومانيا، حيث عمل أبوها في خدمة كتائب الحماية المسلحة خلال الحرب العالمية الثانية. وفي عام 1945 تم ترحيل كثير من الرومانيين الألمان إلى الاتحاد السوفييتي السابق بمن فيهم والدة مولر التي أمضت خمس سنوات في معسكر للعمل «في منطقة تقع في أوكرانيا اليوم». تعود مولر بعد سنوات طويلة لتصور في روايتها Atemschaukel «أرجوحة الجهاز التنفسي» هؤلاء المنفيين الرومان الألمان في محنتهم السوفييتية.

على الرغم من أن مولر غادرت رومانيا منذ أكثر من عشرين عاما، ستعود دائما إلى موضوعات الاضطهاد والنفي والديكتاتورية في رواياتها وقصائدها. ولن نجد من الغريب أن تتحدث عن «امرأة شابة تجايل نظام تشاوشيسكو وتعمل في مصنع للملابس»، حتى أن بيتر انجلند؛ السكرتير الدائم للأكاديمية السويدية يقول: «لديها القدرة على إعطائك الشعور الحق بالعيش في دولة ديكتاتورية، أيضا ما يشبه أن يكون جزءا من أقلية في بلد آخر وما يشبه أن يكون المنفى». يوصينا بيتر أن نقرأ لهيرتا مولر روايتها Herztier «بالألمانية: حيوان القلب» ما يعدها أفضل رواياتها على الإطلاق؛ والتى ترجمت للإنجليزية باسم: أرض الخوخ الأخضر، فيما ترجمت روايتها الأحدث إلى الإنجليزية «سأحمل معي كل شىء أملكه»، عن Atemschaukel الأصل الألماني وتعني أرجوحة الجهاز التنفسي.

خوخ أخضر

في أرض الخوخ الأخضر، تأتي لولا، وهي فتاة ريفية فقيرة، لتدرس اللغة الروسية في جامعة نسوية إبان حقبة نيكولاي تشاوشيسكو الرومانية، وتشاركها زميلاتها بالسكن الجامعي، الفقيرات في عالم شيوعي تعوزه البضائع الاستهلاكية، الحلم بجوارب النايلون، وأدوات التجميل. تقول في مقطع رائع التصوير: «تحت الوسائد، على الأسِرَّةِ الستة، كانت هناك ست حافظات لمسكرة الرموش. كانت البنات الست يبصقن في تلك الأواني الحافظة وهن يدعكن فرشات الأسنان بالسخام الأسود، حتى يتحول إلى مادة معجونية لا صقة. ثم يفتحن عيونهن على أشدها. تتحرك الفرشات أمام الجفون، وتتحول رموشهن إلى شرائط سوداء سميكة. لكن ما إن تمر ساعة، حتى تبدأ فجوات رمادية تظهر بين الرموش. جفَّ اللعابُ وسال سبيل السخام على الخدود».

لم تكن لولا بخلفيتها الطفولية القروية مستعدة لحياة المدينة، والراوية في النص هي إحدى زميلاتها بالغرفة، وبعد عناء جسدي جنسي وأمني تترك لولا المدينة والجامعة وحين ترفع الوسادة لتأخذ مسكرتها المبتكرة، تجد مفاجأة غير سارة: «حين رفعت البطانية، لأسحب الملاءة، وجدت أذن خنزير في وسط الفراش تمامًا، تلك كانت طريقة البنات في الوداع، هززت الملاءة لكن الأذن لم تتحرك، كانت الأذن قد تمت حياكتها كزر في وسط القماش».

أما القضية الثانية التي تثيرها سيرة وأعمال هيرتا مولر فهي اللغة، فهذه المنتمية لأقلية لغوية، كان عليها أن تتمسك بوطنها في الحروف، فدرست بين عامي 1973 و1976م اللغتين والأدبين الألماني والروماني بجامعة بتيميشوارا Temeswar. ارتبطت هيرتا خلال تلك الفترة بمجموعة Aktionsgruppe Banat وقوامها مؤلفون شباب يكتبون بالألمانية، معارضون لحكم تشاوشيسكو الديكتاتوري. عملت هيرتا بعد حصولها على شهادتها الجامعية مترجمة في أحد المصانع لعامين، لكنها فُصِلت من عملها لرفضها أن تكون إخبارية بالشرطة السرية، وقاد فصلها إلى مضايقات لم تنقطع من قبل الجهات الأمنية. وكأن العيش كَحمل لغوي وسط رقابة الذئاب جعل من التكثيف وسيلة للإبداع لدى الأديبة الألمانية. وفي رواية أرض الخوخ الأخضر تضع هيرتا مولر تكثيفا بصريا لتفاصيل يومية تتذكرها المؤلفة شعرًا روائيا كمقاطع من رومانيا الديكتاتورية، قضية النشر في حضور القمع هي ثالثة الزوايا التي يقدم فيها أدب مولر نفسه، إذ إنها نشرت في سنة 1982 مجموعة قصصية بعنوان «المنخفضات» Niederungen التي شذبتها الرقابة في رومانيا، وبعد ذلك بعامين نشرت نسخة غير خاضعة للرقابة في ألمانيا، موازاة مع نشرها لمجموعة جديدة صدرت في رومانيا بعنوان Drückender Tango «إلحاح التانجو». في هذين العملين، تصور مولر الحياة في بلدة صغيرة، إنها صور من مسقط رأسها حيث يطل الفساد برأسه، ويعبث التعصب بيديه، ويركل القمع بالأقدام. وفي حين أصابت هذه الأعمال الصحافة الأدبية الرومانية بالحرج، كان رد الفعل على هذه القصص إيجابيا في ألمانيا. فبالإضافة إلى جائزة نوبل، حصلت هيرتا مولر على جوائز أدبية عديدة أخرى، بما في ذلك جائزة كلايست «1994»، و جائزة الاتحاد الأوربي للآداب Aristeion «1995»، وجائزة إيمباك الوكالة الدولية دبلن «1998»، وجائزة فرانز كافكا «1999»، وهي تشبه كافكا الذي كان يكتب بالألمانية وهو يعيش في براج «تشيكيا»، مثلما كانت هي تكتب بالألمانية، لغتها الأم، وهي في رومانيا. خلال استقرارها في برلين، قدمت مولر محاضرات في جامعات عدة. وعينت في عام 1995 عضوا في الأكاديمية الألمانية للغة والشعر في دارمشتات، وفي عام 2005 شغلت منصب الأستاذة الزائرة بالجامعة الحرة.

تقول في روايتها «الموعد» الصادرة في 1997: «لي مدى يجب أن أظل أكذب، أو أغلق فمي، لأحمي الناس الذين أحبهم أكثر من أي شيء, الذين لا أستطيع الاستغاء عنهم حتى لا تضيع حياتهم في خضم الكارثة. كلما أردت ذلك ألحت علي كراهيتي الدائمة أكثر، ويظل يتأرجح لدي شعورٌ بالاشمئزاز. فهناك مسحة من الحب في يد، وجبل من تأنيب الضمير في يدٍ أخرى، وكنت كمن يستسلم، أو يكاد، لطوفان الكراهية القادمة. لقد كان لدي دائما ما يكفي من المشاعر لأحمي الآخرين، ولكن ليس لدي ما أحمي به نفسي من سوء المصير».

 

 

 

 

أشرف أبو اليزيد







 





 





 





 





 





هكذا استقبلت الصحف الالمانية فوز هيرتا مولر بجائزة نوبل للأداب





مشهد من قرية رومانية، هنا عاشت مولر طفولتها وشبابها