نضال ضد الديكتاتورية *

نضال ضد الديكتاتورية *

  • «كان الموضوع المركزي في كتبي هو الديكتاتورية. لم أعرف شيئا آخر. لم أر شيئا آخر. وأنا مستمرّة مع هذا الموضوع!»
  • «تعكس شخصياتي الأدبية ما يحدث للإنسان في مجتمع أو نظام شمولي.
  • «جاء أفراد الجهات الأمنية، وطلبوا مني إذا ما كان لدينا ضيوف من ألمانيا، فينبغي عليّ أن أكتب بعد الاجتماع «انطباعاتي» للجهات الأمنية!»
  • لا توجد هناك طريقة يمكن بها تذويب كلّ الثقافات القديمة في واحدة جديدة!
  • «ما عرفته عن الرومانيين من أسرتي لم يكن دقيقا!»

 

  • هناك في رواياتك شيء مشترك. لقد جرت جميعها في رومانيا بينما تعيشين في ألمانيا. وتلك مفارقة أو تفصيل لوحظ من قبل الصحافة الألمانية . هل لديك تفسير لهذا التوزّع بين عالمين؟

- لا، إنّ هذا يبدو طبيعيا تماما بالنسبة لي. لقد ولدت في رومانيا، «كان والداها عضوين من الأقلية الناطقة بالألمانية في رومانيا» نشأت وعشت هناك حتى بلغت الثانية والثلاثين من عمري. غادرت رومانيا في حالة ذهنية معقدة إلى حدّ ما. وقد كتبت كتبي الأولى في رومانيا. تناول كتابي الأول «السهول» وجهة نظر طفل من منطقة «بانات» الألمانية «منطقة في غرب رومانيا». كان الموضوع المركزي في هذا الكتاب وفي غيره من الكتب هو الديكتاتورية. لم أعرف شيئا آخر. لم أر شيئا آخر. وأنا مستمرّة مع هذا الموضوع. وأعتقد أنّ هناك نوعا من الأدب في جميع أنحاء العالم، أدب سير ذاتية معينة يحدث بالتوازي مع حياة الكتّاب. على سبيل المثال في الخمسينيات كانت معسكرات العمل الروسية حاضرة في أوربا الشرقية في أشكال معيّنة. (أو) على سبيل المثال كانت هناك معسكرات عمل. ثم أصبح لدينا عهد الاشتراكية الوطنية، زمن هتلر وتدمير اليهود، وهو موضوع تناوله كثير من الكتاب بالتوازي مع سيرهم الذاتية. وأعتقد أنّ هذا النوع من الأدب موجود في كلّ مكان من كوبا إلى الصين.

  • وهكذا فإنها ليست مسألة موقع جغرافي، هي الأكثر أهمية بالنسبة للقارئ؟

- لا أعتقد أنّ المنظر الطبيعي الجغرافي مهم. ذلك المنظر أو البيئة ضروريان، لكن ليس لدي أيّ منظر طبيعي آخر سوى هذا الذي أعرفه، والذي جئت منه. تعكس شخصياتي الأدبية ما يحدث للإنسان في مجتمع أو نظام شمولي. وليس هذا موضوعا اخترته، بل بالأحرى هو الموضوع الذي اختارته لي حياتي. أنا لا أملك حرية الاختيار تلك. لا أستطيع أن أقول «أريد أن أكتب في هذا الموضوع، أو عن ذلك الشيء الآخر». إنني مقيّدة بأن أكتب عمّا يهمني وعن تلك الأشياء التي لن تدعني في سلام.

  • لقد ولدت في أوائل الخمسينيات في منطقة «بانات» بجنوب غرب رومانيا.

- توفي ستالين في عام 1953، أو بالأحرى عندما مات جسده وارتاح، لأنّ أفكاره عاشت فترة أطول قليلا.

  • هل مازالت حيّة إلى اليوم؟

- حسنا، نعم. أعتقد أنها مازالت حيّة لدي كثير من البشر. أو على الأقلّ بقايا تلك الأفكار. ربّما ليس كلّ نظريته للنموذج المرئي مثلما كان الحال آنذاك، بل أجزاء منها.. لا تزال حولنا كثير من الحجارة بتلك الفسيفساء، أنا متأكّدة.

  • لقد نشرت مقالا في الآونة الأخيرة، ظهر هذا الأسبوع، كما أظن، في «دير شبيجل» عن سلوبودان ميلوسيفيتش وصربيا.

- لم يكن مقالا حقا، فقد سئلت مع آخرين. لقد سئلت عمّا فكرت فيه حول هذه الحرب «في كوسوفو». كنت قد تحدثت عن ذلك من قبل، عن الحروب السابقة في البوسنة أو كرواتيا. وكنت حتى في ذلك الوقت مع التدخّل العسكري «الغربي»، معتقدة آنذاك أن ميلوسيفيتش لن يتراجع، ما لم يجبر على التنحّي بواسطة بعض القوى الخارجية. وذلك هو ما أعتقده الآن أيضا «حول كوسوفو». إنني غاضبة جدا من حقيقة أنّ هذا الشخص لديه فرصة لخوض حرب ثالثة أو ربّما رابعة، إذا أخذنا سلوفينيا في الاعتبار ذلك الشخص الذي يترك وراءه جبّانات أينما ذهب، وهو الذي جعل بلده تمضي في اتجاه مختلف بعد 1989 «حين تجري المقارنة» مع بقية أوربا الشرقية. أعتقد أنّه وصل إلى نقطة اللاعودة. لقد خسر ثلاث حروب ويريد الآن أن يربح الرابعة في كوسوفو. ربّما يكون الجبل الأسود على لائحته بعد ذلك، يجب أن يكون ذلك هو عمله المقبل ما لم يوقفه شخص ما. وأعتقد وأؤمن أنّ هذا الشخص ستاليني.

فسيفساء عرقية:

  • كنت أحاول من خلال سؤالي أن أعيدك إلى منطقة «باناتا» حيث ولدت. لقد جرى الاعتياد على أن يكون مكانا متنوّعا من حيث العرق. أعتيد أن يكون فيه تجمعات ألمانية، تجمعات صربية، تجمعات رومانية، ومجرية. لقد جرى الاعتياد على أن يكون نوعا من فسيفساء خالية من الصراع العرقي، إذا كنت أتذكّر بصورة صحيحة.

- أعتقد أنّه كان هناك صراع في «باناتا»، لكن عند مستوى «طبيعي»، إن صحّ التعبير. لكن بعد ذلك كان هناك صراع بين كلّ أنواع البشر من كلّ تجمع. نحن جميعا بحاجة إلى الصراع على نحو عميق. مع جيراننا، مع زملائنا، مع شركائنا في الحياة الزوجية، وهو ما أعتقد أنّه أمر طبيعي. أعتقد أنّ الأقليات القومية التي ذكرتيها لم تعش جنبا إلى جنب مع الرومانيين. لقد عاشوا معا في الفضاء نفسه. وهذا يعيدني إلى نظرية التعددية الثقافية التي حظيت بشعبية كبيرة في ألمانيا منذ عقد من الزمان، وربّما مازال الأمر كذلك. إنها تدعي أنه ينبغي لنا جميعا أن نذوب في كلّ واحد، أن نصبح كلا واحدا، ولكن هذا لا يعمل.

  • لقد جئت إلى ألمانيا من رومانيا تشاوشيسكو، حيث كانت كلمة السر «التجانس».

- بالضبط. لقد عرفت ما كانت تعنيه، لذلك فإنّ فكرتي هي أن الطريق الطبيعي هو أن تعيش كلّ طائفة بسلام إلى جانب الطوائف الأخرى. لا توجد هناك طريقة يمكن بها تذويب كلّ الثقافات القديمة في واحدة جديدة. إن ذلك ببساطة لا ينجح. في «تيميشوارا» المدينة الرئيسية في «باناتا» يمكن للفرد أن يسمع في الشارع كلّ أنواع اللغات: الرومانية، الألمانية، المجرية، الصربية، والغجرية.. تلك هي الكيفية التي اعتادت أن توجد بها، وتلك هي الكيفية التي ينبغي أن تكون. لا ينبغي لأحد أن يخفي ثقافته. عندما أتحدث الرومانية في قطار، يمكن لأيّ فرد أن يعرف أنني ألمانية أو مجرية من لكنتي. إنني لم أعتد أن أصنع أخطاء نحوية في اللغة الرومانية آنذاك، وهي الآن أكثر تكرارا، لأنني أفتقد إلى الممارسة.

  • عندما كنت طفلة، كيف كان يبدو المجتمع في «باناتا» بعد عمليات الترحيل والتطهير وما شابه ذلك؟

- لقد ولدت عام 1952. ما أتذكّره من عائلتي انّ جدّي كان يعتبر «مالك أرض». هذا هو ما سجلته في أوراقي حين تقدمت بطلب التحاق للجامعة. كما أنّه كان يتاجر في الحبوب، لذلك كان ثريا. كان لديه ما لا يقلّ عن عشرة أشقاء، وكان يتذكّر قلق والديه حول المزيد «ماذا سنفعل إذا أصبح لدينا مزيد من الأطفال؟ كيف سنغذيهم؟». وهكذا لم يولد جدّي ثريا. لقد عمل بجدّ ببساطة. لقد ولد فلاحا وظلّ فلاحا. لم يغيّر جداي من أسلوب حياتهما. لم يأخذا إجازات، ولم يسافرا. إذا كانت هناك أموال مدخرة، كانت تستخدم لشراء مزيد من الأرض.

معسكر العمل

  • لا يحصل الفلاحون على إجازات في كثير من الأحيان، أليس كذلك؟

- بالضبط. كانت جدّتي تعمل من الفجر إلى الغسق، حتى لا تستطيع الوقوف أكثر من ذلك. وعندئذ ربّما يكون هناك مزيد من الأموال ومزيد من الأراضي. لقد فعلا ما كان ينبغي عليهما القيام به.. ولكن، بعد عام 1945، انتهى كلّ شيء. انتزعت الأراضي بواسطة المزرعة الجماعية. رحّلت أمي إلى اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية. أمضت خمس سنوات في معسكر عمل، تكفيرا عن «ذنب جماعي» لأفعال هتلر. أطلقوا على ذلك اعتقالا بغرض إعادة التأهيل. لم يعتد جدّي على هذه المتغيرات. أصبح الآن رجلا فقيرا. لايستطيع أن يذهب إلى الحلاق ثلاث مرات أسبوعيا كي يحلق، مثلما اعتاد من قبل. وللتذكرة، لم يكن ذلك شيئا يسيرا. كانت تلك هي حياته الاجتماعية. اعتاد أن يذهب إلى هناك حيث يلتقي مع تجمّعه وأقرانه. كان ذلك طقسا اضطر إلى التخلي عنه. ما حدث له كان مهينا اجتماعيا. وقد تحوّل جدّي وكلّ ذلك الجيل من الأجداد الذين لم يقبلوا الاشتراكية أبدا إلى منبوذين من قبل النظام الجديد. ثم رجعت والدتي من الاتحاد السوفييتي عام 1950، بعد خمس سنوات في معسكر عمل، بعد أن شهدت مجاعة وموتا.

  • هل تعرفين المنطقة التي أرسلت إليها؟

- أعتقد أنها كانت منطقة «ايكاتربنبرج». كانت موقع بناء، وكانت هناك مناجم فحم في الجوار. كان مخيّما عسكري الطراز، تحت سيطرة كاملة، وقد تعرضوا للمضايقة، وكانوا جوعى، يعانون جوعاً مزمناً، وقد مات بعض السجناء من الجوع.

  • كم كان عمر أمك عند عودتها؟

- كانت في السابعة عشرة عندما أخذوها بعيدا. حاولت الاختباء أولا، ولكن ذلك كان مستحيلا في قرية مثل قريتها، حيث يعرف الجميع الجميع، وهكذا عرف المسئولون أيضا أنّ هناك شخصا مختبئا، يريدون أن يأخذوه بعيدا. لذلك هددوا أجدادي بأنهم إذا لم يسلموا والدتي فإنّهم سيأخذون أجدادي بدلا منها. وعندما أكتشفت والدتي ذلك، قررت الخروج وسلمت نفسها.

  • وهكذا كانت في معسكر عمل عندما كان عمرها يتراوح بين 17 و 22 عاماً؟

- نعم. وقد تغلغلت كلّ تلك الأحداث في طفولتي. لم تحدث تلك الأحداث بالنسبة لي فقط، بل حدثت أيضا لكثير من الأسر في القرية بأكملها، وفي التجمّع الألماني كله في رومانيا. عندما كنت طفلة لم أفكر في تلك الأحداث من الناحية السياسية. لم تكن لديّ أفكار أو كلمات لما يحدث من حولي. لكن كانت هناك أساليب للتسجيل بخلاف الكلمات. إنّ سلوكنا أكثر تعقيدا، وهو يتجاوز الكلمات. لذلك استوعبت كثيرا، وشعرت بذلك الضغط. شعرت أن شيئا ما على الرغم من أنني لم أعرف ماهيته كان خطأ فادحا وعدائيا.

أين كانت مدرستك التي ذهبت اليها؟

- في «تيميشوارا» في حي «أوسفين».

  • هل مثلت المدينة صدمة كبيرة لك بعد قريتك؟

- نعم، كانت عالما مختلفا. وأيضا لأنني حين جئت إلى المدينة لم أستطع التحدّث بالرومانية بشكل صحيح. كنت قد تعلمت الرومانية في المدرسة منذ سن السابعة، ولكن لأننا كنّا في مدرسة ألمانية، كانت اللغة الرومانية لغة أجنبية، أو موضوعا أجنبيا مثل الجغرافيا أو العلوم الطبيعية. كان لدينا فصول للرومانية ثلاث مرات أسبوعيا: نحو، أدب، تهجّي، ويعلم الله ماذا أيضا، ولكن قريتي كانت ألمانية بحتة، لذلك لم تتح لي الفرصة أبدا لاستخدام الرومانية في الحياة اليومية. استخدمتها فقط في المدرسة ليس خارجها.

هكذا انتقلت في عمر الخامسة عشرة إلى «تيميشوارا»، دون أن أستطيع التحدّث باللغة الرومانية. لكنني تعلمتها سريعا في المدينة، لأنّه كان يتحتم علي ذلك، وانتقلت إلى لغة أخرى، إذا جاز التعبير. من ناحية أخرى، وكما قلت سابقا، فإنّ كلّ أقلية قومية، بما في ذلك الألمانية عاشت في نوع من «عرقية مركزية» وجدتها طبيعية. ومع العودة إلى القرية، اعتقدت كألمانية أنني أعرف تماما ما هو خاطئ أو سلبي في الرومانية، المجرية، الصربية، أو الغجر، وفي كل ما حولنا. ثم كونت صداقات في المدينة من بين الرومانيين، وتيقنت أنّ كلّ ما عرفته عن الرومانيين من أسرتي لم يكن دقيقا.

  • لم يكن يلائم الأساطير؟

- بالضبط. وقد اكتشفت بطريقة ما أن كلّ تعليمي السابق الذي كان شديد الانعزال لم يعد يخدمني، ولم يساعدني على أن أعيش حياتي. لقد اكتشفت أنك إذا سافرت ثلاثين كيلومترا، فإنه يعتبرمن نافلة القول أن ماعرفته من قريتك لم يعد يصلح ببساطة بعد ذلك. لذلك كان لابد من البدء في تعليم نفسي في اتجاه جديد تماما.

  • لكن ألم يكن هناك جماعة ألمانية «منعزلة» في «تيميشوارا» أيضا؟

- نعم، لكنها لم تكن من المناطق الريفية. أعتقد أن بشر المدينة في جميع أنحاء العالم يختلفون عن بشر القرى. في تيميشوارا كان لي أصدقاء من جماعة أدبية ممن قابلتهم في الجامعة. لقد التقيتهم صدفة أثناء قراءة الكتب والمشاركة في فعاليات أدبية. حمدا لله، أنني لم أكن مهتمة في ذلك الوقت بمن هو ألماني، ومن هو روماني، أو من هو مجري. أعتقد أن جميع أعضاء المجموعة كانوا من هذا القبيل. كنّا مهتمين بالآراء فقط وليس بالجنسيات. تجمّع من وجهات نظر، أو قيم أخلاقية أو سياسية، هو ما كنت أبحث عنه. كم كرهت الانتهازيين. كانت إحدى جاراتي ممثلة، وكانت ترتل كلّ عام قصائد لتكريم الرفيق تشاوشيسكو. كانت ألمانية. لكن ذلك لم يكن عذرا في نظري لأنّ ذلك لم يكن شيئا أساسيا بالنسبة لي، بل كان العقلاني هو الأساس.

مجموعة كتّاب:

  • لكن تلك المجموعة كانت مكوّنة حصريا من كتّاب ألمان؟

- نعم، لكن من السهل تفسير ذلك. لقد كانت مجموعة تتعامل مع الأدب، وكانت لغة ذلك الأدب هي اللغة الألمانية. وبالمناسبة، فإنني لم أكن عضوة في الجماعة لأنني لم أكن قد بدأت الكتابة حين أنشئت، لكني كنت صديقة لكثير من أعضائها. في وقت لاحق، نشرت الجماعة برنامجها، الذي يوضّح أن الأدب ينبغي ألا يخضع للسياسة، بل ينبغي أن يكون «انتقاديا»، استنادا إلى خبرات شخصية وآراء، وليس للأيديولوجيا.. ثم تدخلت الشرطة السرّية الشيوعية وعرضت آراءها الخاصة.

  • وماذا كانت؟

- إننا أعداء، أعداء للدولة، وعند ذلك بدأت المتاعب بالنسبة لنا. أرسل «وليام توتوك» إلى السجن مطرودا من المدرسة، وكذلك ريتشارد واجنر. ثم كان هناك بضعة أفراد أمضوا عدّة أيام في الحجز.. وقد فصلوني من الشركة التي عملت بها بعد التخرّج. وبدأ بعد ذلك تفتيش المنازل، وما شابه ذلك. لقد نظروا إلينا كمجموعة، واعتبروا أنّ كلّ واحد منّا مسئول عن أفعال الآخرين. تلك هي الطريقة التي رأونا بها. لكن بالرجوع إلى مسألة مجموعة الكتاب من الألمان، فإنني أريد أن أقول أنه في مرّات كثيرة عندما كنا نخطط لأمر ما، كنّا نتصل بكتاب رومانيين. مثال ذلك، عندما كنّا نجمع توقيعات على عريضة. لم يكن هناك كثير من الرومانيين على استعداد للتوقيع. وأحيانا كانوا يسحبون توقيعاتهم. وهذا شيء سيّئ بالنسبة لمنظم العريضة. من الأفضل أن يكون لديه توقيعات أقلّ من أن يكون لديه كثير منها، ثم يضطر إلى حذف بعضها، لأن ذلك يضعف موقفه. لم نكن معنيّين دائما بالأرقام، كما تعلمين، بل بالبقاء في المسار. حدث ذلك مرّات قليلة. وهناك تفسير لذلك. قد يقول كاتب روماني «أيّها الناس أنتم ألمان، وإذا حدث شيء سينتهي بكم الأمر في ألمانيا الغربية، لكن ماذا عنّا؟». وكان ذلك صحيحا إلى حدّ معيّن، لكنه لم يكن دائما عذرا مقبولا. على أيّ حال، فإن «بول جوما»، الكاتب الروماني المنشق، لم يكن ألمانيا، وانتهى به الأمر في الغرب أيضا، عندما لم يستطع الشيوعيون أن يحتجزوه. لكن من الصحيح أيضا، أنّه كان هناك آخرون لم يذهبوا إلى الخارج، ومات بعضهم في السجن.

  • كانت هناك مجموعتان أدبيتان ألمانيتان في رومانيا، مجموعتكم في «تيميشوارا» وأخرى في «كلوج» لكنها كانت أدنى مرتبة من الناحية السياسية، أليس كذلك؟

- نعم، كانت كذلك. كان ذلك هو الفرق. ومرّة أخرى فإن مثلّ هذا الفرق عني الكثير بالنسبة لنا في «تيميشوارا»، فلم يكن ما يفعلونه في كلوج كافيا. لقد شعرنا أنه يتعيّن علينا أن نكون سياسيين بشكل مباشر، وهم لم يفعلوا ذلك. كانوا حريصين على توضيح لغتهم حتى لا تجد الجهات الأمنية والشرطة السرّية أخطاء واضحة. لكننا كنّا أيضا في وضع مختلف. كنا في «تيميشوارا» عاطلين عن العمل، وقد طردونا من وظائفنا. لقد فصلوني من شركة «تينوميتال» لصناعة الآلات والأدوات. كنت قد عملت كمترجمة لمصطلحات فنية حول الجرارات والأسلاك. كانوا سيقومون باستيراد جرارات من ألمانيا الشرقية أو من النمسا وأحيانا حتى من ألمانيا الغربية، وكان يفترض أن أترجم دليل المستخدم. لم أفهم أبدا تلك الأمور. كان لديّ قاموس ضخم، يقدم لي دائما نحو عشرين خيارا لنفس الكلمة. لكنني اعتدت أن أسأل عمال المصنع، الذين يتحدثون الألمانية والرومانية، والأهم من كلّ ذلك أنهم كانوا مطلعين على الآلات. أمضيت ثلاث سنوات في المصنع، أمضيت أول سنتين في قسم الترجمة، ثم انتقلت إلى قسم آخر، هو قسم العلاقات العامة، إذا رغبت في أن تعرفي.

شرطة سرية:

  • كان ذلك «مخططا» على الأرجح من قبل الشرطة السرّية؟

- نعم، لقد أدركت ذلك في وقت لاحق. مثلا عندما جاء أفراد الجهات الأمنية، وطلبوا مني إذا ما كان لدينا ضيوف من ألمانيا، فينبغي عليّ أن أكتب بعد الاجتماع «انطباعاتي» للجهات الأمنية. كما طلبوا مني أيضا أن أبلغ عن زملائي الرومانيين، والاختصاصيين، وماذا قالوا للألمان، فأخبرتهم كم كنت سيئة في مراقبة الناس، وكم ارتكبت من أخطاء آلاف المرّات في حقهم. لكن مسئول جهات الأمن لم يكن مهتما بما أقول، فقد كان يريد أن يكون رأيي رأيا شخصيا صادقا. ثم طلب مني أن أكتب أنني سوف أتعاون معهم، فأخبرته أنني لن أفعل ذلك.

  • وماذا حدث بعد ذلك؟

- صفق الباب قائلا «سأسبب لك المتاعب» أو «سأرميكي في الماء» بالعامية الرومانية. إنه لم يرمني حرفيا في الماء، لكن لم يعد هناك أيّ سلام بعد ذلك. كنت أُستدعى كلّ يوم في السابعة والنصف لعدّة أسابيع إلى مكتب رئيسي كي أناقش الأمر معه، ومع سكرتير الحزب الشيوعي، وسكرتير الشبيبة الشيوعية. طلبوا مني في كلّ مرّة أن أستقيل وأن أبحث عن عمل آخر، لكنني أخبرتهم أنني أحبّ العمل بالمصنع لدرجة أنني لا أفكر في البحث عن مكان آخر، وأخبرتهم أنه ينبغي أن يفصلوني إذا أرادوا التخلص مني، وطلبت منهم أن يحددوا كتابة أسباب فصلي. كان ذلك هو رفضي للتعاون مع الشرطة السرية والجهات الأمنية. ثم ذهبت للتحدث مع أعضاء اتحاد العمال، كي أشكو، لكن زعيم الاتحاد لم يرد حتى أن ينصت لي. ماحدث كان سيركا كاملا من الكوارث. يمكنني أن أضحك عليه الآن. وبعد ذلك كنت على وشك الانهيار العصبي، حين فصلوني. عرضوا علي أولا وظيفة في عمل أقل مهارة، لكنني رفضت. عندئذ فصلوني. انصرفت دون أيّ مورد للدخل. وكان زوجي ريتشارد واجنر قد فصل هو أيضا من صحيفته. والأهم من كلّ ذلك أنّهم كانوا يستدعونني يوميا إلى الجهات الأمنية. وقالوا إنني كنت أتاجر في بضائع لا يمكن العثور عليها في السوق الروماني.. قالوا إنني اعتدت أن أبيع أشياء في شارع «بوبا سابكا» في «تيميشوارا»، الذي كان يقع فيه السجن. ربّما كانوا يحاولون أن يخبروني إلى أين سينتهي بي المطاف.
----------------------------------------
* نشر هذا الحوار الذي أجرته «ميرسيا أوردوليسكو» على النت بموقع «راديو أوربا الحرة وراديو الحرية» بتاريخ 11 أكتوبر 2009، وقامت بترجمته إلى الإنجليزية «ميرسيا تيكودمين» وترجمه للعربية حسين عيد

 






 





 





هيرتا مولر: من منفى الوطن إلى منفى اللغة