الثعلب كان آنذاك هو الصياد

الثعلب كان آنذاك هو الصياد

تقول هيرتا مولر عن العالم الذي تكتب عنه «إن ثمة وضعا يمكن أن يكون عليه العالم تصبح فيه الشجرة البريئة أو الحيوان الغافل أو الأحجار على شاطئ النهر أو حتى السماء مرآة صادقة للديكتاتورية الشاملة، مخيفة وتتضمن أحيانا دلالات غرائبية مشئومة على رقابة الدولة».

وهذا العالم، عالم التفاصيل المنذرة، هو الذي يصطدم به، حسب رأي قارئ رواية «الثعلب كان آنذاك هو الصياد» الصادرة عام 1992 منذ البداية، فمسرح الحدث الرئيسي هو إحدى الضواحي العمالية الرومانية التي أُلصقت بالمدينة «بأسلاك ومواسير وبجسر بلا نهر»، أشجار الحور التي تعلو أسطح المدينة عبارة عن سكاكين خضراء تقطع الهواء، والرجال المدجنون يذهبون للعمل، وقد زينت رءوسهم أمشاط حمراء تشبه عرف الديك، إنها تكريم الدولة لأبطال العمل، النحفاء الذين يحفرون قبورهم تدريجيا في كل مرة يذهبون فيها للحلاق، فالحلاق يجمع شعر كل زبون في زكيبة خاصة به، وعندما تمتلئ تكون النهاية، كذلك تفعل الخياطة مع النساء العاملات اللاتي التهم شحم الماكينات والصدأ وطلاء الأظافر أصابعهن، فهي تجمع أيضا القصاصات المتبقية من فساتين كل واحدة منهن في زكيبة خاصة بها، وحين تمتلئ يحين الأجل. الموت يهيمن على المكان، واكتشاف الجثث يصبح من مجريات الحياة اليومية.

عالم خَرِب

من خلال انطباعي الشخصي يحتاج المرء إلى بعض الوقت للمرور عبر دهاليز هذا العالم الخرب إلى «الأحداث» التي لا يمكن فصلها عن كواليسها، فعبر الصفحات المئة الأولى من الرواية (إجمالي عدد صفحاتها 286) يتم رسم ملامح المكان وأجوائه عبر لغة مجازية مكثفة، بموتيفات متكررة نتعرف بها دائما على المكان وشخوصه، فقشور لب عباد الشمس مرتبطة برجال أمن الدولة وجواسيسهم، والصدأ لا يفارق أيادي النساء العاملات ويتسلل إلى ملابس أطفالهن، وكل أطفالهن يعانون الأرق بسبب شحم الماكينات في دمائهم، والضاحية كلها محاصرة بالحديد والأسلاك الذي ينتج في مصانعها، والأشياء التي تلمع ترى، لذا فكل ما يلمع يعمل لحساب الأمن، كما تلمع أيضا الخصلة على جبين الديكتاتور المعلقة صوره في كل مكان، فيرى كل شيء. ويطل بعينيه السوداوين يوميا على المواطنين عبر صفحات الجريدة.

وأحيانا يشعر المرء أنه يقف أمام قصائد سوريالية:

«ثمة سحابة فوق المجمع السكني، بيضاء ومتناثرة. الشيوخ الذين يموتون في الصيف، يبقون لفترة ما بين السرير والقبر عالقين فوق المدينة».

«عندما وقف الطفل بين الأطفال الآخرين في فناء المدرسة، كانت البقعة على خده هي قبضة الوحدة».

«عندما ينقطع التيار الكهربي عن الضاحية يأتي الليل من أسفل ويقوم أولا بقطع السيقان، حول الأكتاف يعلق ضوء رمادي يكفي لأرجحة الرأس ولإغلاق الأعين، لكنه لا يكفي للرؤية».

سردٌ تقريري

لغة السرد في الرواية تقريرية، يتحول فيها المجاز إلى واقع معيش تؤكده مخاوف الناس من النظام ومعتقداتهم الخرافية، وحسب قراءتي الخاصة فإن وتيرة السرد تتسارع وتصبح أكثر دينامية دون أن يخفف ذلك من كثافة اللغة، بعد اكتمال صورة العالم الذي تدور فيه الأحداث: في الفترة الأخيرة من عهد تشاوشيسكو، يلاحق رجال المخابرات المعلمة الشابة أدينا وصديقها الطبيب باول ورفاقه الموسيقيين, لأنهم يشكون في قيامهم بنشاطات معادية للدولة، وتواجه أدينا ملاحقة من نوع خاص, فهي تمتلك ثعلبا محنطا كانت قد اشترته في طفولتها مع أمها من صياد في إحدى القرى المجاورة، وقد بدأ رجال «السيكيورتات» بزيارة منزلها في غيابها وتقطيع أرجل الثعلب واحدة بعد الأخرى، فكانت تأتي إلى البيت فتجد آثارهم ممثلة في رجل الثعلب المقطوعة بعناية، وقشور لب عباد الشمس أو عقب سيجارة منتفخ في قاع المرحاض، لقد أرادوا عن عمد أن يشعروها بوجودهم، وهكذا أصبح الثعلب هو الصياد وأصبحت هي الفريسة. وهي تجربة مشابهة لما تذكره هيرتا مولر أيضا في مقالها «النظرة الغريبة» عن تجربتها الشخصية عندما عادت ذات مرة إلى البيت فوجدت ورقة تركتها لها إحدى صديقاتها على باب شقتها قد انتقلت إلى الوعاء الموجود فوق البراد بالداخل.

والرسالة واضحة هي أننا نستطيع أن نمسك بك وقتما نشاء، وأنك تحت أعييننا طول الوقت. وهذا ما تؤكده مولر في مقالها الذي يمكن الاستعانة به كدليل رائع لقرءاة الرواية:

«ليس بالضرورة أن يكون المطارِد حاضرا جسمانيا لكي يتمكن من تهديدك، فظله موجود بأي حال في الأشياء، وقد زرع الخوف في الدراجة وفي مادة تبييض الشعر، وفي العطر وفي البراد وحوّل أشياء ميتة كثيرة إلى أشياء مهددة. الأشياء الخاصة بالشخص المهدَد تجسد مطارِده».

وبالرغم من أننا لا نرصد تمردا كبيرا من قبل أدينا وأصدقائها، لكن النظام يستطيع تفسير الأمور كما يريد، فصديقتها كارلا التي دخلت في علاقة مع رجل المخابرات بافل مورغو تقول له إنهم يختارون ضحاياهم وأن آراءه في الديكتاتور لا تختلف عن آراء هؤلاء الضحايا. يشدد النظام في سكراته الأخيرة قبضته على معارضيه، ويقوم بحملة اعتقالات واسعة، وتتمكن أدينا وباول من الهروب إلى الريف حيث صديقهم ليفيو الذي يعمل مدرسا، ويبقيان هناك حتى يذاع في التلفزيون نبأ إعدام تشاوشيسكو وزوجته، فيعودان إلى المدينة، ويهرب رجل المخابرات مورغو إلى النمسا بجواز سفر ألبرت صديق باول وأدينا الذي اغتالته المخابرات. ينزاح كابوس الديكتاتور الذي خيم على البلاد لعقود عدة لكن الجوع والفساد يظلان باقيين.

النظرة الغريبة

مقال هيرتا مولر السالف الذكر بعنوان «النظرة الغريبة» هو أيضا «مانيفست» لكتابتها ولموقفها من النقد الأدبي الألماني الذي يعيب عليها أنها بالرغم من إقامتها الطويلة في ألمانيا لا تزال أسيرة لموضوع ديكتاتورية تشاوشيسكو. ولكونها قادمة من بلد غريب فقد وُصفت بأنها تمتلك «نظرة غريبة» في رؤيتها للأشياء، ومولر لا تنفي أنها تمتلك هذه «النظرة الغريبة» لكنها لاترجعها إلى مجرد قدومها من مكان آخر:

«النظرة الغريبة قديمة وقد جلبتها معي جاهزة من عالم معروف لدي، وليس لها علاقة بالهجرة إلى ألمانيا، الغريب بالنسبة لي ليس نقيضا لما هو معروف، بل هو نقيض ما هو مألوف. ليس بالضرورة أن يكون المجهول غريبا، لكن المألوف قد يكون غريبا».

إنها تكمن في عدم تقبلها لما حولته الديكتاتورية إلى المألوف والطبيعي، لذا فهي تكشف زيف هذا المألوف باستخدام أدوات غير مألوفة هي خيال الطفولة والموروث الشعبي. توحي عناوين أعمال هيرتا مولر للوهلة الأولى بأن بها شيئا من الحكايات الخرافية أو حتى من قصص الأطفال، كما هي الحال في روايتنا «الثعلب كان آنذاك هو الصياد»، أو في الكولاج «في عقصة الشعر تسكن امرأة» أو في مجموعة المقالات بعنوان «الملك ينحني ويقتل» لكن سرعان ما تختفي بسمة القارئ حينما تتعرى أمامه وحشية الديكتاتورية وعسف الحياة اليومية في ظلها.

 

 

 

أحمد فاروق 





ميدالية نوبل: الذهب للأدب!