فنزويلا .. زهرة الأوركيد تواجه المتاعب محمد المنسي قنديل تصوير: سليمان حيدر

فنزويلا .. زهرة الأوركيد تواجه المتاعب

عندما رآها المستكشف الإيطالي " اميريجو فيسوبيتش" للمرة الأولى في عام 1512 صاح مدهوشا : " إنها فينسيا الصغيرة".. كان يقف أمام مصهب نهر "الأدرينوكو" وهو ينقسم وسط الصخور قبل أن يذوب في أمواج البحر الكاريبي، جزر صغيرة وزرقة عميقة وأذرع من نخيل الجوز تهز الريح الدافئة، لمحة من الفردوس الاستوائي الذي كان لا يزال مختبئا، من صيحة الدهشة هذه أخذت الأرض العذراء الشاسعة اسمها "فنزويلا" أي فينسيا الصغيرة.. ما زالت تحمله حتى الآن مع أنه لا يعبر إلا عن جزء بالغ الضآلة من تضاريسها.

بعد رحلة طويلة استغرقت 22 ساعة من الطيران وصلنا إلى مطار "جوايرا " في كاراكاس، بدت أضواؤها في قاع الوادي تحيط بها أذرع الجبال كأنها تغفو في حلم غامض، كان في استقبالنا خليط البشر والألسنة الذي تضمه أركان هذه القارة الشاسعة، إسبان وعرب وهنود وزنوج وآسيويون، نفس الخلطة التي تكون النسيج الثري لهذا البلد، أعراق وأجناس تجمعت وحاولت أن تذوب في كيان واحد، بالصراع أحيانا وبالتقارب الحميم في أحايين أخرى.

حملتنا السيارة عبر الطريق السريع الذي ينحدر وسط الجبال أو يخترقها، غابات وأنفاق تتتابع، تلاحقنا كلمات مرافقينا ذوي الأصول العربية الذين كانوا فرحين باستقبالنا، كانوا يتحدثون العربية بلكنة إسبانية متكسرة، ويحملون ذكريات قصيرة من خلال الزيارات الخاطفة التي قاموا بها لوطن الأهل، كانت القنوات الفضائية العربية قد أحدثت أثرا خطيرا في نفوسهم عندما وصلت إليهم.. "لقد تذكروا أخيرا".. هكذا عبر لي أحدهم.

كانت كاراكاس متدثرة بالظلام.. تبدو الأبراج وناطحات السحاب بنوافذها المضيئة مثل عيون ساهرة ترقب صمت الجبال.. تخفي تاريخها ورغبات المتصارعين في شوارعها، ومجدها الخالص حين كان مهيأ لها أن تكون عاصمة لكل هذه القارة، وكان علينا أن ننتظر حتى الصباح لكي نكتشف كل التفاصيل.

جولة واحدة في كاراكاس تجعلك أسير سحرها الخاص.. سحر هو مزيج من تفاعل العديد من العوامل، خليط الدفء القادم من الكاريبي والبرد القادم من عمق القارة، حوار الطبيعة البدائي المتمثل في تلال جبال "أفيلا" والشواهد المعمارية التي شادتها يد الإنسان، مزيج ألوان البشر - بيضا وسودا وحمرا وصفرا - الذين اجتمعوا في هذا الحيز الضيق، وكان عليهم أن يتعلموا كيف يقبل كل منهم الآخر بثقافاته وعاداته، إن قبول الآخر هنا يتم بطريقة مختلفة عما يحدث في أمريكا الشمالية.. فهناك تتجاور السلالات كل واحدة منها بجوار الأخرى، ويظل كل جنس محافظا على الأصل الذي جاء منه، ولكن هنا وسط هذا الجو الحار والإحساس العميق بالألفة، يحدث عبور يومي للأجناس، كل جنس يسعى للامتزاج بالآخر، والنتيجة هي ذلك المزيج من الأسر المتعددة الألوان، أسرة واحدة ولكن كل فرد فيها يحمل لونا وملامح مختلفة، والنتيجة هي أيضا تلك الأجساد الفتية التي تملأ شوارع كاراكاس، ارتفاع نسبة جمال المرأة في فنزويلا هو احد الأمور الأكثر ملاحظة، وكثيرا ما اختيرت ملكة جمال العالم من فنزويلا أو على الأقل ملكة جمال أمريكا اللاتينية، وهي دائما تحتل مكانا متقدما في كل أنواع مسابقات الجمال، فتيات ممشوقات، أجسادهن بارزة التفاصيل، تشعر أمامهن كأنك أمام كائنات حقيقية في الوقت الذي تكتشف فيه أن الجمال الأوربي يبدو باردا كأن جلودهن الشفافة تنزع عنها صفات الوجود الحقيقي، قالت لي امرأة من جزيرة مارجريتا: "جذوري تمتدي إلى جنسيات كثيرة، إسبانية وهندية وروسية.. وربما عربية أيضا.. من يدري؟".

كاراكاس مدينة عصرية، يشهد على ذلك الإنجاز المعماري فيها، ناطحات السحاب بواجهاتها الزجاجية، والتماثيل التي تتوسط الساحات والتوافق الذي يمثله ذلك مع الطبيعة المحيطة بها، فهي تتفجر بالخضرة والأزهار على مدار العام، ففي شهر فبراير تتفتح أزهار الأوركيد وهي الزهرة القومية في فنزويلا، ويبلغ عدد أنواعها ستة آلاف نوع، وفي أبريل تزدهر أشجار الأكاسيا وتتوهج قممها بالأزاهير النارية، وفي المواسم الجافة تتفتح الأشواك عن أزهار الليلك، وما زالت شوارع كاراكاس تحمل أسماء هذه الأزهار والأشجار.

ذهب الهنود وبقيت الأسماء

إنها مدينة عصرية لم يبق قديما منها إلا الاسم، فقد كان يعود إلى القبيلة الهندية التي كانت تقيم في هذا الوادي قبل أن يداهمها الغزو الإسباني عام 1522، رحلت القبائل الهندية عن كل الأماكن في أكبر عملية نزع ملكية شهدها التاريخ ولم تترك خلفها سوى الاسماء، أسماء قرى وبلاد وتلال وجبال، أما هم فقد ذابوا وسط الأجناس التي توافدت عليهم، أو صعدوا إلى الجبال العالية، يحملون ملامحهم وثقافتهم الخاصة إلى حيث لا يلحق بهم أحد.

إن المدينة القديمة التي يعود تاريخ إنشائها إلى 400 عام لا تكاد توجد إلا في شوارع محدودة، لا تحمل آثار مقاومة الهنود للمستعمرة الأولى التي أنشأها فرانسيسكو فاجاردو، فقد أزاحوها لمدة أربعين عاما فقط ثم عاد الإسبان للهجوم مرة أخرى عام 1567، حيث جاء القائد ديجو دي لوسادوا مزودا بالأسلحة الأوربية الحديثة والمدافع المنقولة على عجلات وسلطها على خيام الهنود المصنوعة من جلد الجاموس الوحشي، وعلى أنقاض هذه الخيام المحترقة أنشأ مدينة سنتياجو دي ليون دي كاراكاس.

وقد بنيت المدينة على نفس النمط الذي بنيت عليه المستعمرات الإسبانية في العالم الجديد، المنطقة المركزية هي السوق "بلازا مايورا" تحيط به المباني المهمة، كالكنيسة وقاعة المدينة والسجن ثم منازل أهم شخصيات المدينة، وبعد ذلك تأتي في الدائرة الثانية منازل الأشخاص الأقل أهمية، ثم يلي ذلك كل من هم أقل أهمية. وعلى مدى عقود طويلة ظلت هذه المستعمرة هادئة لا يسمع فيها إلا صوت عجلات العربات التي تجرها الخيول حتى مستها ريح الثورة الفرنسية وتأثيرات حرب الاستقلال الأمريكية، فتحولت هذه العاصمة إلى مصدر للثورة التي كانت الطريق إلى الحرية في العديد من دول أمريكا اللاتينية.

كان الطريق العلوي الذي يخترق جبل "أفيلا" يتشعب مثل أذرع أخطبوط عملاق حتى يقودنا إلى سائر أرجاء المدينة، إنها واحدة من أضخم عواصم أمريكا اللاتينية وأكثرها ازدحاما بالسكان، الفقراء منهم يتناثرون على سفوح الجبال في أحياء من المجازفة الدخول إليها نظرا لارتفاع نسبة العنف والجريمة فيها، والأغنياء منهم يسكنون الأبراج العالية في وسط الوادي أو في أحياء مغلقة يقف على أبوابها حرس خاص، ومن الصعب الدخول إليها أيضا، وفي كل الأحيان هي مدينة صاخبة، وسطها التجاري يدعى وادي السكون، ولكنه أبعد ما يكون عن ذلك، أهلها يعشقون السهر حتى وقت متأخر، مع ذلك تمتلىء شوارعها بالحركة في وقت مبكر، ولا أدري متى يجدون وقتا للنوم!.

ومثلما ترتفع الشوارع وتنخفض تتنوع مظاهر الحياة في كاراكاس، من منطقة " لالاجوتيتنا"، التي تمتلىء بالقصور والفلل الفخمة تتجلى فيها كل أشكال المعمار الحديث وتقف على حافة منحدر جبلي لتشرف على المدينة كلها، فكاراكاس مع اتساعها لا يزال الاقتصاد فيها خاضعا للنمط العائلي، هناك حوالي 25 عائلة تمتلك كل شيء من المحلات التجارية إلى شركات الطيران إلى الجرائد والمجلات ومحطات التلفزيون.. إنه نفس النمط الاحتكاري الذي يعتبر إحدى سمات الاقتصاد اللاتيني، ثم تأخذنا الشوارع إلى "الهاتيو" قلب المدينة الثقافي، حيث تتلاصق البيوت الملونة والمحلات الصغيرة التي تبيع اللوحات وقطع النحت والتحف الصغيرة، وسط هذا الحي العتيق ذي الشوارع الضيقة والمنحدرة إلى أسفل يعيش فنانو المدينة التقليديون، وتمتلىء المعارض بإنتاجاتهم. هذا الحي هو عنوان التنوع الثقافي الذي تحفل به فنزويلا، نظرة واحدة إلى المعروضات ترى ذلك التداخل بين الفن المعاصر والروح الشعبية التي جاءت من جذور قبائل الهنود الحمر، وفي حانوت واحد يمكننا أن نلاحظ مدى قوة تداخل الأعراق والثقافات، إضافة إلى ذلك توجد العديد من المطاعم الصغيرة، مطاعم أليفة كأنها جزء من مطبخ العائلة، وكل واحد يحمل لونا ومذاقا مختلفا، مرة أخرى إنها متعة التنوع التي تجدها في مكان واحد.

وما زالت شوارع كاراكاس تأخذنا في أسر سحرها الخاص، إلى "البلازا بوليفار" وسط المدينة، المركز الذي ما زال يأخذ تخطيط المستعمرة القديمة، فهناك في الحديقة التي يقف في وسطها تمثال "سيمون بوليفار"، يقود ثورة الفلاحين من فوق جواده تعوّد الحمام أن ينام عل كتف الجنرال المحارب، وتعود أهالي "كاراكاس " على الاجتماع هنا للتحدث في السياسة والتطلع إلى النساء الجميلات. في هذه المنطقة تضج الحياة ويشتد الزحام تماما حول مبنى البرلمان الذي لا يفصله عن زحمة الشارع لا أسوار ولا حراس، في إمكان أي واحد أن يدخل حتى الردهات الداخلية دون أن يمنعه أحد، ملمح ديمقراطي يثير الغبطة حقا. وخارج البرلمان تتناثر محلات بيع الذهب، يقف على أبوابها أشخاص يصيحون في صوت سريع " أورا.. أورا.. أورا " ذهب.. ذهب.. إنها نفس الصيحة التي كان يقولها الغزاة الأوائل وهم يقتحمون هذه الأرض.

خلف الميدان توجد الكاتدرائية الضخمة وأمامها قصر الرئاسة السابق الذي يطلق عليه "القصر الأصفر" أو كازا أميريلا وهو الآن مقر وزارة الخارجية، ولكنه يحمل آثار وذكريات العصر الذي بني فيه، ففي عام 1870 حكم البلاد الديكتاتور خوزمان بلانكو.. كان أشبه ما يكون بالخديو إسماعيل الذي حكم مصر، تعلم في فرنسا وافتتن بها وقرر أن يحول كاراكاس إلى باريس صغرى، لقد بنى هذا القصر ودهنه باللون الأصفر، لون حزبه الخاص، ثم أنشأ المسرح الوطني الذي أصبح قائدا للحركة الفنية، ومبنى البرلمان الذي زين سقفه برسوم أبطال الثورة واستقدم الفنانين من باريس للقيام بذلك، وجلب البوابة الحديدية من لندن .. كان عنيفا وقاسيا في حكمه ولكنه كان مغرما بالبناء والتشييد، وقد ترك آثاره على كل مكان في كاراكاس .. وإذا كان أهل كاراكاس يطلقون على سيمون بوليفار لقب المحرر فإن "بلانكو" يستحق بلا شك لقب المؤسس.

ولكننا لن نستطيع أن نفهم كاراكاس وتاريخها والدور الذي قامت به في هذه القارة إلا إذا ذهبنا إلى مقر الرجل - الرمز .. الجنرال سيمون بوليفار.

المحرر.. من قمة النصر للمنفى

صندوق الأدوية الصغير الذي يخصه كان هو الذي استأثر بانتباهي، خشب متآكل حفر فيه السوس شقوقا ملتوية كأنها حروف غامضة تتراص فيه زجاجات زرقاء فارغة ولها أغطية من الفلين، كان هذا هو الشيء الوحيد الذي صحب "المحرر" في كل معاركه، أدوية ضد القيء والحمى والدوسنتاريا وسم العقارب، ولكن لا يوجد بينها ترياق ضد تقلب الحظ وغدر الرفاق.. لقد نفقت تحته عشرات الجياد، وتكسرت في يده العديد من أنصال السيوف، ولكن هذا الصندوق لم يخذله إلا في لحظاته الأخيرة لأن روح الجنرال كانت قد تآكلت وهو في طريقه إلى المنفى، والآن ما زال هذا الصندوق يرقد أمامنا في قاع صيوان قديم يحتوي على ما بقي من ثياب عسكرية مزركشة ومتربة.

كنا نجوس داخل المنزل الحجري البسيط .. على الجدران صوره وأسلحته، هنا قضى أيامه الأخيرة وحكم أرضا شاسعة لم يحلم بها بشر، ورغم هذه البساطة فهو أشبه بالمتاهة التي وصفها الأديب جارسيا ماركيز في رواية "الجنرال في متاهته " عن حياة سيمون بوليفار، لقد مات بعيدا على حدود كولومبيا ولكنه تعود أن يقول دائما "إن ذراعي تمتد إلى آلاف الفراسخ، ولكن قلبي يوجد دائما في كاراكاس "، هناك اكثر من غرفة للنوم وكلها تحتوي على أسرة صغيرة لدرجة ملحوظة. قلت للمرافق مدهوشا : أهذا هو فراشه؟.. أجاب: كما ترى كان المحرر ضئيل الحجم ولم يكن يستعمل إلا الأشياء التي تفي باحتياجاته.

كان سيمون بوليفار فعلا ضئيل الحجم، كأن هناك نارا موقدة تحرقه من الداخل، يتحرك كثيرا ولا ينام إلا قليلا، مكانه المفضل فوق صهوة الجواد وسط الجنود، وحلمه الدائم هو "كولومبيا الكبرى"، حيث يجمع كل دول أمريكا الجنوبية في دولة واحدة تقف على قدم المساواة مع الولايات المتحدة الأمريكية.

عندما أقبل القرن التاسع عشر كانت فنزويلا قد خاضت ضد الحكم الإسباني ثلاث ثورات فاشلة، وكأن كل أنهار الدم التي سالت كانت تهيىء المسرح للظهور الدراماتيكي للجنرال بوليفار، فلم تقتصر التأثيرات التي تنبعث من روحه المتقدة على حدود بلده ولكنها امتدت حتى حدود الأرجنتين عبر ثلاث دول أخرى هي كولومبيا والاكوادور وبيرو، تحررت جميعا بفضل ثورته، وامتدت تأثيراته أيضا إلى الشاعر الإنجليزي لورد بايرون الذي جهز سفينة تحمل اسم بوليفار وكان ينوي أن يتجه بها إلى فنزويلا ليشاركه ثورته.

بدأ بوليفار حربه في جيش بسيط أحرز عدة انتصارات صغيرة، ولكنه عندما واجه أول جيش إسباني منظم لقى هزيمته الأولى واضطر للتراجع إلى جزيرة جامايكا حتى يضمد جراحه ويلم أشعاث جيشه، ثم عاد للقتال مرة أخرى حتى حرر كاراكاس، وعندما ضرب الزلزال المدينة هتف بوليفار: "سوف نحارب الطبيعة أيضا ونهزمها كما هزمنا الإسبان "، كان معظم جيشه مكونا من أهالي فنزويلا حتى قيل إن ربع سكان البلاد كان مجندا من أجل حرب الاستقلال، وظل يواصل زحفه عبر دول القارة حتى تقابل على حدود الأرجنتين مع الجنرال سان مارتين الذي قاد حروب الاستقلال في بلاده. ولكنه لم ينجح في تحقيق حلمه في إنشاء الدولة التي تضم فنزويلا وكولومبيا والاكوادور وبيرو والأرجنتين. لقد تنازع القادة حول هذه الأرض. فنزويلا.. زهرة الأوركيد تواجه المتاعب الواسعة، وانقسم الجيش الواحد إلى جيوش متناحرة، ووجد بوليفار نفسه وحيدا محكوما عليه بالنفي، وغرقت فنزويلا- مثل بقية الدول- في حرب أهلية طاحنة لم تفق منها إلا بعد سنوات طويلة، وما زالت الحدود بين هذه الدول الخمس تمثل إحدى المشاكل المستعصية.

لم يكن في بيته الواسع أي أثر للرفاهية، ولكنه بما يحوي من تاريخ وانتصارات يمكن أن يثير الحسرة في قلوب العديد من حكامنا العرب، الذين لم يحققوا أي انتصار إلا على شعوبهم. قال لنا المرافق: إن عملتنا المالية تحمل اسم بوليفار، وفي كل مدينة من مدننا يطلق اسمه على الميدان الرئيسي بها، ويوجد له تمثال مجسم، قلت له: ليس في فنزويلا فقط... ولكن مدينة القاهرة الشحيحة في إقامة التماثيل تقيم له تمثالا نادرا وسط ميدان يحمل اسمه.

لقد تحولت ذكرى المحرر إلى حلم عسير بالحرية التي ما زالت القارة تطمح إليها، لقد رحل الإسبان وتركوا اللغة والدين والعواطف الحارة وبعض الرياضات الدموية، ولكن مشكلة التبعية الاقتصادية ما زالت تؤرق كل دول القارة، فهي كيان ضخم وإمكانات هائلة، ولكنها مكبلة بالديون والفساد السياسي وتحكم العسكر، وهي تجد نفسها- في ذكرى مرور خمسمائة عام من اكتشافها بواسطة الأوربيين- في حاجة ماسة إلى محرر يخلصها من هذا المأزق الاقتصادي الخانق الذي تجد فيه نفسها.

إن ذكرى بوليفار ما زالت تعيش بصورة أو بأخرى، رأينا ذلك في مبنى "البانثيون " الضخم حيث يسود الجلال والسكون، وترفرف أعلام الثورة وتبرز التماثيل المجسمة لأبطال حرب الاستقلال، لقد قام الديكتاتور خوزمان بلانكو أيضا ببناء هذا الصرح المهيب، ووضع فيه توابيت تضم كل رفاق قادة حرب الاستقلال ما عدا تابوتا واحدا ينتظر عودة رفات أحد الجنرالات الذي مات في سجون إسبانيا.. هذا البانثيون الهائل بكل ما فيه من جلال وإكبار يجعلك تشعر أن هؤلاء الأبطال يهجعون فقط للراحة وأنهم على استعداد للنهوض من جديد لتسوية كل الأوضاع الخاطئة.

وأحيانا ما تكون الجغرافيا خادعة، هكذا تخيلت وأنا أعبر بوابة "كولونيا توفار" كان مكتوبا عليها اسم المدينة بالطراز الجرماني المعروف، لذا كانت الطرقات وأشكال البيوت التي يمتزج في تشكيلها الملاط الأبيض والأخشاب السوداء، النساء يرتدين الأزياء البافارية ويقدمن الأطعمة وأكواب الشراب الفخارية الضخمة، كل شيء يقول إن الجغرافيا قد خدعتك وحملتك بعيدا من جبال فنزويلا إلى إحدى الولايات الألمانية، الجميع هنا يحافظون على نمط الحياة التي غادروها منذ مائة وخمسين عاما، حين أحضر مارتين توفار 385 فلاحا من منطقة بيرسيجوا والغابة السوداء في ألمانيا واستطاع أن يكون منهم هذه المستعمرة التي ربما كانت الوحيدة والحقيقية خارج ألمانيا، فقد عاش هؤلاء الفلاحون في عزلة شبه تامة لمدة ثمانين عاما متواصلة كانوا ينمون فقط الطرق التي ألفوها في الزراعة والصناعة، زرعوا نفس المحاصيل التقليدية التي تعودوا عليها وصنعوا الفخار والشموع والسيراميك والثياب المطرزة بنفس الطريقة وبنوا الكنيسة وقاعة المدينة والمتاجر والبيوت والطاحونة بنفس الطراز ا لألماني.

والمسافة بين مستعمرة "كولونيا توفار" والعاصمة كاراكاس لا تتجاوز ساعة من الزمن ولكنها تنقلك إلى عالم آخر، وهي مهرب رائع لكل من ينشد المتعة والهدوء، فهذه المنطقة الخضراء مليئة بالفنادق والمطاعم الصغيرة التي تتخصص في الأطعمة الألمانية وهي دليل على احترام ثقافة الآخر في بلد يقدس الثقافات المتعددة، ففي كل مكان ذهبنا إليه كانت لمحات من هذه المستعمرة تتكرر مع جنسيات مختلفة، ورغم هذا التنوع في الجذور والاشكال إلا أنك تحس أن هذا الإطار الحار من العواطف المتدفقة في هذا البلد يجمعهم معا.

رهبة الجبال .. الحب والخوف

إن أنس لا أنس لحظات صعود الجبال في "ميريدا".. تحت المطر ووسط الضباب تأخذك جبال الأنديز في أعماقها الأسطورية، تتطلع إلى أعلى فترى السحب وهي تتشكل فوق القمة كانها جسد هندي عملاق مستلق في سبات عميق، تبدلت المعالم ورحلت أقوام، وبادت حضارات، وما زال الشيخ الهندي في غفوته.. فأي طبول حرب ترغمه على الاستيقاظ؟ هذا الجبل هو سقف فنزويلا كما يطلقون عليه، الأصوات التي تسمعها وأنت تجوس في طرقاته هي صرخات العقبان وتدفق مياه نهر "تشاما".

هناك جبال وجبال، خضراء تأخذك في أحضانها، وجرداء مليئة بالتجاعيد التي تعكس قوة الطبيعة، على جانبي "ميريدا" يرقد النوعان، وكلاهما يبعث في النفس إحساسا عميقا بالرهبة. والرهبة هي مزيج من الحب والخوف، ولست أعرف في أي يوم من أيام الخليقة ارتفعت الجبال، ولكن المؤكد أنها سوف تبقى بعد أن يفنى كل شيء، كانت السيارة الصغيرة التي نركبها لا تكف عن الصعود إلى أعلى، كأنها رحلة الحياة والمصير، حين تعبرها ترى أثرك السابق ولكنك لا تستطيع العودة إليه، تتناثر أكواخ الهنود على حافة المنحدرات، يقفون على الأبواب وهم يتطلعون إلينا بعيونهم الضيقة اللامعة وجلودهم الحمراء المشدودة، الأجناس الهندية هنا خالصة، لقد تحصنوا بالجبال بعد أن طردهم البيض من الأودية المنبسطة، رفيقهم الدائم هو نهر "تشاما"، وهو يجمع أشلاءه من آلاف الينابيع المتناثرة فيحول خريرها الهادىء إلى هديريشق صمت الجبال.

كنا نعلو والبرودة تزداد، قدم إلينا الهنود أكواب الكاكادي الساخن والكلانيتيلا اللاذعة الطعم، وهو مشروب يعد من أعشاب الجبال، ويبعث في الجسم دفئا غامرا، قدموا إلينا أرغفة " الأريبا " الصغيرة، والمخبوزة من الذرة، وعرضوا علينا منتجاتهم من الأبسطة والفخار وهناك نوع صغير من الكلاب لا بعيش إلا في هذه الجبال، وإذا ابتعدت عنها تساقطت شعورها وماتت، أخذونا إلى أعلى كنيسة في فنزويلا كانت مبنية على حافة جرف يرتفع عن سطح البحر بحوالي أربعة آلاف قدم، كانت جدرانها ترتفع من الأحجار المتراصة والمتداخلة دون استخدام أي أسمنت أو طلاء أو لاصق من أي نوع، اعتمد الفنان خوان سانشيز الذي صممها على تفريغ الهواء وتعشيق الأحجار مع بعضها البعض، هذا الفنان ما زال على قيد الحياة، وعلى الرغم من بلوغه 95 عاما إلا أنه قام بالعديد من الإنجازات المعمارية.

الصعود لا ينتهي. والمطر لا يتوقف، والأساطير تتوالد من قطر الماء ونتف الضباب، أشهر أساطير هذا الجبل هي أسطورة يسوع الصغير التي تقول إن الإسبان عندما جاءوا إلى هذه القرى الجبلية المنعزلة للمرة الأولى وجدوا فيها تمثالا صغيرا للمسيح نائما في المهد يحوطه الهنود بالرعاية والتقديس.. وسر الغرابة أن الهنود لم يكونوا قد عرفوا المسيحية بعد، وجاء الإسبان ليحملوا هذا الدين، فوجدوا هذا المسيح الصغير في انتظارهم.. ربما كانت هذه الأسطورة من ادعاءات الإسبان كي يجذبوا أعدادا أكبر من الهنود إلى الدين الجديد، وربما كانت جزءا من أساطير الهنود التي أثبتت الأبحاث الأخيرة أنها كانت تؤمن بقدوم إنسان مختلف اللون يأتي من خلف الأفق، لقد تحققت هذه الأسطورة أيضا ولكنهم دفعوا ثمنها غاليا.

فوق القمة تنتظرنا مفاجأة أخرى من مفاجآت الطبيعة التي لا تنتهي، بحيرة مترامية أطرافها غارقة في الضباب، وقفنا على حافتها ومددنا أيدينا في الماء البارد، بدأ الضباب الهش يحتوينا في داخله، ينفذ في خلايانا ويذوب فيها، كأن لحظة الخليقة الأولى قد تحققت في هذا المكان. قال زميلي المصور حزينا: كنت أود أن ألتقط لها صورة ولكن هذا الضباب لن يترك لنا أي تفاصيل، كان يرتعد مثلي. كنا نشعر أننا في لحظة نادرة نقف بها على حافة اللا نهائية. قال المرافق: لقد كان هناك تنين يعيش في قاع هذه البحيرة، إنه نائم الآن، وهذه المويجات التي تقشعر على سطح الماء هي من أثر أنفاسه، كنت قد نلت كفايتي من هذا الضباب وامتلأت به عروقي، أخذت أصرخ مخاطبا الصدى معرضا نفسي للمطر.. تمنيت أن أخلع ثيابي وأهبط إلى البحيرة لعلني أذوب وأتحد مع لحظة السكون هذه لعل نفسي المتعبة ترتاح قليلا.

آيس كريم في ميريدا

وسحر ميريدا لا يقل عن سحر الجبال بها، إنها مدينة صغيرة ولكنها كانت مهداً لحضارات هندية بائدة، اكتشفت بالمصادفة حين حكم على أحد الضباط الإسبان المارقين هو خوان رودريجز بالبحث عن الذهب في جبال سيرا نيفادا المحيطة بالمدينة، هو ومجموعة من الجنود، وكانت النتيجة هي اكتشافه لهذه المدينة الهاجعة واستيلاء، عليها وتغيير اسمها إلى الاسم الحالي.

إنها المدينة الثالثة التي تحمل نفس الاسم، الأولى في إسبانيا والثانية في المكسيك، وقد أعيد بناؤها ثلاث مرات أيضا، بعد أن دمرتها الزلازل، وهي تقع في الجزء الغربي من فنزويلا، ومنها تولد سلاسل جبال الأنديز الشهيرة التي تلتحم مع السلسلة القادمة من كولومبيا ليتحدا معا ويمتدا إلى شيلي.

شوارعها مليئة بالحركة خاصة للشباب صغار السن، أولاد وبنات، مستوى الجمال فيها مرتفع إلى حد واضح، إنها مدينة الجامعة وهؤلاء الذين يملأون أرجاءها بالحيوية هم طلابها الذين يبلغ عددهم 35 ألف طالب وطالبة من أصل مائة ألف هم سكان المدينة.

وفي الوسط التجاري كان يوجد أشهر محل لبيع الآيس كريم في العالم، فقد ذكرت موسوعة جينس للأرقام القياسية أنه المحل الوحيد من نوعه الذي يقدم حوالي 500 نوع مختلف من طعم الآيس كريم، لقد ادهشتنا غزارة الأنواع بحق، فهي لا تقف عند المذاقات التقليدية، ولكنها تقدم مذاق البصل والثوم والفلفل الحار والبهارات والعديد من الأعشاب التي تشتهر بها هذه المنطقة.. لقد دخلنا المحل وجعلونا نذوق العديد من الأصناف.. وسألونا: من أين أنتم؟ وما هو أشهر طعم تحبونه؟ قلنا لهم: نحن من الكويت.. وأشهر المذاق هو طعم "الهيل ".. وأكد لنا مدير المحل أنهم سوف يضيفون مذاقا جديدا له طعم "الهيل ".. وسيطلقون عليه اسم "مجلة العربي".

لأن ميريدا قد دمرت أكثر من مرة فإن هناك حساسية خاصة عند أهلها تجاه مباني مدينتهم الكلاسيكية القديمة، وعندما جاء مستثمرون من العاصمة واشتروا واحدا من أجمل المباني وقرروا هدمه وتحويله إلى متجر متعدد الطوابق، ثار الأهالي وحثوا مجلس المدينة على شراء المبنى والمحافظة عليه، ولكن أغنياء العاصمة كانوا أقوى من السلطات المحلية فاستطاعوا أن يهدموه ويقيموا بدلا منه مبنى عصريا فاخرا مليئا بالبضائع، ولكنهم لم يكونوا أقوى من إجماع أهل المدينة الذين قرروا أن يقاطعوا المتجر نهائيا.. لقد تجولنا في المتجر المزدحم بالبضائع والخالي من الزبائن وكان مستوى الأسعار فيه أقل من النصف، ومع ذلك لايجد مشتريا..

والمحافظة على الماضي لاتمتد إلى المباني فقط.. ولكنها تمتد أيضا إلى عهود التاريخ.. فعلى سفوح أحد التلال تأخذك ميريدا في رحلة إلى أوائل هذا القرن عندما كان يحكم البلاد ديكتاتور هو خوان جوميز وهو الثاني من نوعه في تاريخ فنزويلا التي تتمتع بديمقراطية تحسدها عليها بقية اقطار أمريكا اللاتينية.

يقودك باص قديم يعود إلى الثلاثينيات من هذا القرن وتدخل من بوابة الزمن الماضي، حيث تقام مدينة كاملة تصور فنزويلا بكل ولاياتها وصناعتها، وأماكنها التاريخية، كما كانت أيام حكم جوميز، في كل مكان تجد اللافتات وهي تنادي "يعيش جوميز"، ويراقبك رجال شرطة متجهمون كما يليق بشرطة ديكتاتور، وإذا فعلت أي هفوة فإنهم يقبضون عليك ويضعونك في السجن لمدة خمس دقائق، وداخل الزنزانة سوف تجد كل الشعارات التي تهتف بسقوط جوميز مكتوبة على الجدران.. لقد جعلوا من هذا المكان ملخصا لكل ما في العصر من مزايا وعيوب.. فجوميز هو الذي طوّر صناعة السكر التي كانت عماد الاقتصاد الفنزويلي قبل ظهور البترول.. وهو الذي بدأت في عهده أولى صناعات البترول وعرفت البلاد عهد الازدهار.. وتظل تنتقل صعودا وهبوطا.. تشاهد عادات الناس وموسيقاهم وأشهر الصحف التي كانوا يقرأونها والملاهي التي يسهرون فيها والسيارات التي كانوا يركبونها، ثم تأتي المفاجأة الأخيرة حين يظهر جوميز نفسه، وكأنه قد خرج من كتب التاريخ، يحمل المسدس في يده والأوسمة الكثيرة فوق صدره يهدد الزوار ويجري خلفهم في جدية تامة، إنه عرض حي يقدم كل يوم كي يزيد من لمسة الواقعية في تلك المدينة الترفيهية التاريخية.

ولا تنتهي مفاجآت ميريدا.. فهناك يقف التلفريك العملاق في انتظارنا..أعلى وأطول تلفريك في العالم، المدهش أن الذي بدأ في إنشائه هو جوميز شخصيا الذي كان ينتمي إلى بلدة ميريدا وكلف إحدى الشركات الفرنسية التي أخذت على عاتقها تنفيذ هذا المشروع العملاق.

عندما كنا في زيارة المدينة كان التلفريك معطلا بسبب الصيانة، وبناء على إلحاحنا سمحوا لنا بركوب العربات المكشوفة المخصصة لعمال الإصلاح، وقد وافقنا مستهينين بالموقف، ولكن الرحلة كانت مرعبة بحق.. فالتلفريك - أقصد الصندوق الخشبي الذي حملنا- أخذ يرتفع من قمة جبل إلى آخر.. ومع كل واحدة نزداد ارتفاعا وبرودة.

كان المشهد مليئا بالجمال المرعب، الغابات الخضراء بأشجار الصنوبر السامقة، ونهر "تشاما " ينساب بينها .. لله درك يا نهر تشاما كم تبدو جميلا ومخيفا ومتواصلا كإيقاع الحياة.. تضيىء الشمس فتتألق الطبيعة بالألوان.. تغيب - ولو لحظة واحدة - فيحيط بنا ضباب كثيف لا يجعلنا نرى أبعد من أنوفنا.. نصل إلى قمة الجبل الثالث بعد أن دامت الرحلة المرعبة اثني عشر ميلا كاملة.. نصيح طالبين العودة .. فيزلق بنا التلفريك من فوق جبل الثلج حيث تنقلنا الطائرة إلى خط الاستواء مباشرة.. تنقلنا إلى حرارة البحر الكاريبي وإلى جزيرة " مارجريتا ".

الفردوس في الكاريبي

"مارجريتا" لا تشبه الفردوس، ولكنها الفردوس نفسه. هكذا يقول أهل الجزيرة عن موطنهم، إن حرارة الجو ليست هي التي تستقبلك فقط، ولكن حرارة أهلها الذين يمتازون بدفء المودة، إنها منطقة حرة، يأتي إليها السائحون من كندا وأمريكا الشمالية، وتمتلىء شواطئها على مدار العام بطالبي الاسترخاء والمتعة فوق الرمال الصفراء، إنها لؤلؤة الكاريبي وأكثر مناطق فنزويلا جذبا للاستثمارات، ففيها تجتمع الجبال السوداء وشواطىء الشعب المرجانية، وخضرة أشجار جوز الهند، واسم الجزيرة مشتق من تاريخها الطويل في صيد اللؤلؤ.

وعلى الرغم من أنها جزيرة واحدة إلا أن لها أكثر من وجه، كل منطقة منها لها شخصيتها الخاصة، تشتهر "بورلامار" بصناعة القوارب الخشبية، بينما تتخصص "سان خوان " في المشروبات المحلية .. وتعتمد "بدرهالس " على صناعة الفخار، وتقدم مطاعم "خوان جورجيو" فطائرها اللذيذة .. ولا كل الأحوال تصنع الجزيرة حالة خاصة من حالات البحر الكاريبي تمتلىء بالأساطير والسحر.. ففي قلعتها الشهيرة ترقد قصص القراصنة الذين كانوا يهاجمون السفن ويسعون للاختباء خلف الجدران الصخرية، ومازال البعض يبحثون عن هذه الكنوز حتى الآن.

وإمكانات فنزويلا السياحية لا تتوقف عند هذه الجنة الاستوائية، ففي بورتلا كروز حيث يتداخل الماء والصخر مكونا سيمفونية من السيولة والصلابة تنهض عشرات المنتجعات والفنادق وتوفر الطبيعة فرصة لكل من يرغب في الزيارة أو الاستثمار في هذه المنطقة.

الزهرة أقوى من المتاعب

ولكن المتاعب تواجه زهرة الأوركيد، ويطرح عليها المستقبل العديد من التساؤلات، فمنذ ان اكتشف البترول عام 1922، وقد أصبح الاعتماد الأساسي للاقتصاد الفنزويلي على هذا المصدر، فقد تحولت إلى ثالث دولة منتجة للنفط بعد الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي سابقا، وقد أثر هذا على العديد من الصناعات، وتحول ذلك العملاق الاقتصادي المتعدد المصادر إلى أسير المصدر الواحد.

إن تقلبات أسعار البترول وميلها الدائم إلى الانخفاض بعد سنوات الازدهار في السبعينيات قد أحدثت تأثيرا سيئا على الحالة الاقتصادية، ولعل التضخم هو أول أعراض هذا السوء، فالعملة المحلية آخذة في الانخفاض أمام الدولار الأمريكي، وعندما كنا في الزيارة واصلت الانخفاض بشكل حاد خاصة بعد انفجار عبوة ناسفة في مترو الأنفاق في كاراكاس، وليست تقلبات أسعار البترول هي السبب الوحيد بل إن فترات من الضعف والفساد السياسي قد أثرت بالسلب على كفاءة الإدارة الحكومية، وقد تعرضت فنزويلا لانقلابين عسكريين متواليين عامي 1990 و 1992، وبدا أن التجربة الديمقراطية المشرقة في أمريكا اللاتينية توشك على الانهيار، ولكنها رغم ذلك لم تنقلب على نفسها، ولم تترك للعسكر توجيه دفتها.

إن هناك أزمة في الإسكان، وهناك فجوة كبيرة بين أحياء الأغنياء المجهزة بأحدث وسائل الرفاهية، وبين الأحياء العشوائية التي ترتع فيها الجريمة في وضح النهار، وهناك ميل واضح للعنف وافتقاد الأمان في شوارع العاصمة، وتنشر الجرائد أن ما يقع نتيجة حوادث العنف في الشوارع كل أسبوع حوالي 30 ضحية ما بين حوادث للسرقة بالإكراه أو الأخذ بالثأر أو الاغتصاب. وعندما ذهبنا لزيارة بعض الأصدقاء وجدنا البوابات الجديدة التي يبلغ عددها ثلاثا أو أربعا أحيانا في مواجهة كل مبنى أو شقة وهناك إحساس عام أن إيرادات البترول لا تصرف كما يجب، وأن الإمكانات الهائلة الهائلة في فنزويلا لا تستغل كما يجب. ومرة أخرى تطرح الكلمة التي أصبحت سحرية هذه الأيام وهي "الخصخصة"، تحويل كل شيء إلى شركات خاصة يمتلكها أفراد بما في ذلك قطاع البترول.

وزهرة الأوركيد ليست هشة كما توحي صفتها، ولكنها قادرة على اجتياز كل هذه المتاعب، أقول هذا بعد جولة شاهدت فيها مصادر الثروة المتنوعة في هذا البلد، وسر قوته التي لم يحسن استغلالها بعد هذا التنوع؟ تنوع الناس والثقافات والصناعات، وتنوع مصادر الثروة أيضا، فهي لا تزال بابا مفتوحا أمام المهاجر الذي يريد أن يكتشف أرضا بكرا وما أكثرها في حوض الأمازون. وهي منجم خام لم تستغل موارده بعد.. والأهم من ذلك، هذا السخاء الذي تجود به الطبيعة في هذه البقعة من العالم بحيث تجعلها بوابة المستقبل لأمريكا اللاتينية.

 

محمد المنسي قنديل

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




صورة الغلاف





وجه من فنزويلا





واحد من البرجين التوأمين اللذين يميزان العاصمة كاراكاس





خريطة جمهورية فنزويلا





جبال الأنديز والسيرانيفادا سلاسل أشهر الجبال في أمريكا الجنوبية تبدأ من هنا





مبنى البانيثون الوطني الذي يضم رفاته هو وبقية رفاقه في حرب الاستقلال





الحمام ينام على رأس تمثال النحرر، وهو التمثال الذي يوجد في كل ميدان في فنزويلا





آلة الكوارتر الشعبية وهي تحوير بين آلة الجيتار والعود العربي





متحف الفنون التشكيليةحافل باللوحات العالمية ومجموعة نادرة من مخطوطات بيكاسو





متحف الفنون التشكيليةحافل باللوحات العالمية ومجموعة نادرة من مخطوطات بيكاسو





مدينة ميرايدا راقدة في أعماق الوادي الأخضر دمرها الغزاة الإسبان ثم دمرتها الزلازل





لمحة من الجمال الفنزويلي الذي تجتمع فيه أخلاط من الأجناس والأعراق





وسط الجبال السيرا نيفادا عائلة من أصول هندية مازالت تمارس الزراعة





حصد المحصول بالطرق التقليدية





فتاة تقوم بصناعة السكر





مصفاة تكرير البترول الأولى من نوعها في أمريكا اللاتينية





شاطئ جزيرة مارجريتا التي تعتبر لؤلؤة في البحر الكاريبي





كنيسة من الحجر الخالص بدون أي أسمنت موجودة فوق أعلى قمة فنزويلا





خلطة هندية أسبانية في ملامح الوجوه





نغمات الموسيقى والرقصات





الضباب فوق قمة جبال ميريدا حيث توجد بحيرة طبيعية فوق القمة





شلالات المياه في منطقة كانيما في حوض الأمازون مصادر أخرى للثروة الطبيعية في فنزويلا