الإدارة .. فن .. لا يعترف به العرب المعاصرون محمد الرميحي

الإدارة .. فن .. لا يعترف به العرب المعاصرون

حديث الشهر

شاركت، ولا أزال، في هيئة الإشراف على إصدار الكتاب الشهري "عالم المعرفة" منذ عشرين عاما، وهو كتاب دوري يصدره المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت ويوزع في جميع الدول العربية، وخارجها، وعليه إقبال واضح، ويقدم هذا الكتاب الشهري موضوعات مختلفة علمية وأدبية وتاريخية واجتماعية كجزء من زاد ثقافي عربي طموح. والمقام هنا ليس الحديث عن هذه السلسلة من الكتب الناجحة والمعروفة، بل جاءت الإشارة إليها عندما كلفتني الهيئة المشرفة وضع تصنيف للكتب التي وصل عددها الآن إلى 400 كتاب، لمعرفة ما هي الأجناس الثقافية والعلمية التي تناولتها هذه السلسلة وتصنيفها حسب التخصص الذي صدرت عنه أو التخصص الأقرب إلى موضوعها.

فوجئت بعد وضع الدراسة أن الكتب التي تناولت موضوع الإدارة لا تتجاوز 1% من مجموع الكتب التي صدرت حتى الآن، وعلى الرغم من أن هناك مجالات علمية وثقافية أخرى كانت إصدارات السلسلة منها قليلة جدا، فإن موضوع الإدارة لافت للنظر لسببين على الأقل.. الأول: أن كثيرين من المهتمين بالشأن العام يعتقدون ويصرحون بأهمية فهـمنا- كعرب - للإدارة الحديثة كخطوة ضرورية للتنمية المنشودة. الثاني: أن العالم كله من حولنا يضج بالكتب والندوات والمؤتمرات التي تؤكد أهمية الإدارة الحديثة. ويقول بعضنا للبعض الآخر إن هناك نمطا من الإدارة اليابانية هو الذي كان، ولايزال، خلف المعجزة الاقتصادية التي حققتها اليابان، وإن هناك إدارة كورية (جنوبية)، وهناك إدارة في دول النمور الآسيوية، هي التي حققت القفزة الاقتصادية والتنموية لهذه النمور، بل إن دولا في الغرب على رأسها الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا يتحدث سياسيوها وأهل الصناعة فيها عن الأهمية المركزية للإدارة. بل وأخال أن الحديث المتشعب والطويل الذي نسمع أصداءه في بلداننا العربية، عن (الخصخصة) في المشروعات الإنتاجية والخدمية، أساسه (الإدارة).

لذا فإن عدم التفاتنا نحن في سلسلة "عالم المعرفة" وربما في مجلتنا هذه "العرب" إلى نشر كتب أو مقالات عن الإدارة بالصورة التي تستحقها هو قصور في فهمنا لأهمية الإدارة في العصر الحديث، وهو قصور ينبغي مواجهته، لا مداراته، فالمواجهة قد تكون أول مؤشرات الإدراك أو أوضح علامات الاتجاه إليه.

خطورة الإدارة

يدخل المتسابقون السياسيون في الغرب اليوم الانتخابات الكبرى تحت شعارات تتلخص في مضمون الإجابة عن سؤالين: حكومة كبيرة ومتشعبة؟ أم حكومة صغيرة تدير المهم من أمور المجتمع وتترك الباقي للإدارة الخاصة؟ والجميع - أو من يريد أن ينجح على الأقل في تلك الانتخابات - يختارون شعار تقليص دور الحكومة الكبير، والتوجه إلى الدعوة بأن تكون اختصاصات الحكومة في الأمور الأساسية لتوجيه دفة المجتمع. بل، ولا بد أنك موافق معي على أن انهيار فكرة الإدارة المركزية هي في صلب عملية انهيار الدولة الاشتراكية. فقد تراكمت أثقال ونقائص تلك الإدارة المركزية ، إلى درجة ضغطت على أنفاس المواطنين دون أن تقدم لهم في المقابل إنتاجا أو خدمات يوازنون بها احتمالهم تلك المركزية ، فتخلصوا نهائيا منها ولو بالقفز إلى المجهول .

نقص الاهتمام بمفهوم الإدارة لدى النخبة العربية ظاهر للعيان ، فالإدارة ، ولو أن لها أقساما تدرس فيها في الجامعات وتتناولها بعض الدوريات المتخصصة ، إلا أنها تكاد تقتصر على المتخصصين ، فلا وجود لمعلومات مبسطة عنها منثورة في الصحف السيارة ، ولا هي بالموضوع المتناول بشكل عام في المجالات والكتب ، كما أن المنشور عنها في كتبها المتخصصة أو مجلاتها هو بلغة تكاد تكون غير مفهومة إلا لخاصة المعنيين بها أكاديميا ، إضافة إلى عسرها التعبيري لكثرة الترجمات الجامدة والحرفية بينها ، وقلة الإبداع والابتكار باللغة العربية في مجالها .

أنت تعمل ، إذن أنت تدير

سواء كنت تعمل في نطاق أسرتك كربة البيت - أو في وظيفة حكومية أو في بقاله صغيرة أو مستوصف أو مدرسة أو في أي مكان وبأي نشاط فأنت تدير ! وقواعد نجاحك في الإدارة - سواء كانت لمؤسسة صغيرة أو مصنع كبير - هي تقريبا نفس القواعد . وإدارة البشر مقدمة على إدارة الموارد ، ولكن الاثنين تكملان بعضهما بعضا .

لقد خضنا نحن العرب حروبا عديدة في العقود الأربعة الماضية ، وكان ما فشلنا فيه هو إدارة الجيوش ، فأنت تقرأ اليوم مذكرات القادة ، وقصص الزعماء ، فتعرف أن الجيش الذي حارب كانت تنقصه الذخيرة أو الزاد وحتى الماء أو المعارف ، وكل ذلك نقص شديد في الإدارة ، إدارة الحروب . ثم تقرأ عن معاهدات السلم التي وقعت وتقرأ عن نقائصها وثغراتها وكل ذاك مرجعه نقص في إدارة مفاوضات السلام !..

وتقرأ عن فشل المؤسسات في تحقيق أهدافها الصناعية والخدمية والتعليمية والإعلامية ، وهو نقص أساسي في إدارة تلك المؤسسات من حيث البشر أو الموارد ، أو كليهما معا . وأن أكبر معوق لنجاح الإدارة في مؤسساتنا العربية هو عدم اعترافنا بأهمية دور هذه الإدارة ، وقد قيل : عندما تقلل من قدرات عدوك يهزمك . وقد قللنا من أهمية الإدارة حتى هزمتنا.

هناك تجارب عديدة توضح مدى مساهمة الإدارة في إنجاح أي مشروع سواء كان صناعيا، أو خدميا، أو سياسيا، ولكن عوامل ذلك النجاح هي عوامل مغموسة - إن شئت القول - في ثقافة ذاك المجتمع الذي تحقق فيه نجاح ذلك المشروع وفي فترة زمنية بعينها. ذلك أن نجاح الإدارة فيه شيء من الإبداع النابع من ظروف المجتمع في تلك الفترة الزمنية المرجعية. فأنت إن قرأت كتابا في الإدارة الناجحة في بلد مثل الولايات المتحدة أو اليابان لن تستطيع، مهما أوتيت من قدرة على النقل، أن تنجح تلك التجربة بحذافيرها في مجتمعك، لسبب بسيط هو أن ظروف مجتمعك تختلف في عناصرها عن ذلك المجتمع الذي نقلت منه المبادئ الناجحة، نعم تستطيع أن تنقل الفكرة مع تحويرها ومواءمتها مع العناصر الثقافية في مجتمعك. خذ مثلا التمرينات الرياضية المشهورة التي يقوم بها العمال والموظفون صباحا في معظم المؤسسات اليابانية، وهي هناك تؤدي إلى وظيفة شحن الطاقات وتهيئتها قبل البدء في يوم العمل، مع أناشيد قصيرة لرفع الروح المعنوية، مثل هذه الممارسة يرفضها ثقافيا العامل أو الموظف العربي، كما يمكن أن يحدث عندما ننظر إليها نحن في هذه المنطقة من العالم ونعتبرها - على الأرجح- محاولة قد لا تأتي بمردود إنتاجي ما.

إذن هناك قيم في المجتمع إيجابية وأخرى سلبية تخدم أو تعوق الإدارة، وعلينا أن نبحث عنهـا، ونطور وسائل فعالة لتقليل القيم السلبية وتعزيز القيم الإيجابية، أو بناء قيم إيجابية جديدة تجاه العمل والإنتاج تقود إلى تحقيق النتائج المرجوة، وتلك العملية هي ابتكار وريادة في الإدارة.

وهناك قيم عامة وإنسانية علينا فقط الاعتراف بها، وتفعيلها كي تقودنا إلى طريق أفضل في الإدارة العربية، هي على سبيل المثال لا الحصر: أن الإنسان - أي إنسان - لديه رغبة إيجابية - سواء كان مقدم الخدمة أو متلقيها - في أن يكون جزءا من نظام ناجح، كيف يمكن أن نستفيد من هذه الرغبة، التي تكاد تكون طبيعية، في تقديم إدارة أفضل؟ وهناك قيم حب المشاركة، فالإنسان يريد أن يساهم في السلطة - أيا كانت - في أسرة، أو وظيفة أو مجتمع، ومن يحرم من المشاركة إما أن ينتظم في تيار مضاد لتلك السلطة، أو يعتريه شعور بعدم الاهتمام والإهمال، لذلك فإن مشاركة العاملين- في سلطة المؤسسة - تمثل قيمة إيجابية لإنجاح نشاطها، والمشاركة في الإدارة لا تعني تمثيلهم في مجلس الإدارة، بقدر ما تعني مخاطبة إيجابية لمشاعرهم تعزز من سلوكهم الإيجابي وتحفزهم على النهوض بالأدوار المحددة لهم لا المؤسسة العامة أو الخاصة وبذلك يشاركون في إنجاح أهدافها.

قيم مضادة

يكاد يجمع كل من تعامل مع الإدارات الحكومية وبعض المؤسسات العربية الأخرى، على جسامة المعاناة مما نسميه البيروقراطية حيث تتحكم المكاتب في مصالح الناس، وكم من هيئة وطنية أو مؤسسة ذهـبت أدراج الرياح بسبب ذلك الغول غير المرئي الذي نجمع على تسميته البيروقراطية ولا نكاد نجذ له وصفا محددا. ويتعاظم شبح البيروقراطية في مؤسساتنا الرسمية إلى درجة من التراكم يسميه البعض منا الفساد الإداري الذي لا تنفع معه الحلول الدوائية المسكنة فتتعطل مصالح الملايين من البشر ويفقد المجتمع حماس خيرة عناصره ، وتتبدد موارده بما لا طائل منه، وتمضي الأمور في معظم توجهات تنظيمنا الإداري على عكس الثلاثية الذهبية المعروفة التي تقول لنا عليكم - أولا - بالدعم والتشجيع للعاملين في المؤسسة، فنقوم نحن بالرقابة التفصيلية والتهديد وعدم الثقة في أول فرصة متاحة من الغضب أو الشك، وتقول لنا - ثانيا - عليكم بتحميل المسئولية للعاملين معكم في المؤسسة وفق هامش أكبر من الحرية في التصرف، فنقوم نحن بالتقيد الحرفي بالإجراءات وتطبيق اللوائح وخلق الممنوعات وتركيز القرار في يد الرئيس (المسئول) حفاظا على الوجاهة والتحقق غير السوي للذات، وتقول لنا - ثالثا - عليكم بتثمين قدرات الحاملين معكم ، ونقوم نحن بالنقد غير الحصيف والإمعان في تعديد الأخطاء والمحاسبة على التفاصيل حتى يشعر العاملون معنا بعدم أهمية عملهم. إنها مجموعة من القيم المضادة التي تتعارض مع تحقيق أهداف الإدارة، علينا أن نبحث عن أسبابها في ثنايا ثقافتنا وتعليمنا وفهمنا الحقيقي لتقديم الخدمة للناس. وفي مجتمعات أصلها ريفي أو بدوي تمدينت (بالمعنى العلمي) حديثا، فلا شك أنها بعيدة عن القيم المدنية التي استقرت في مجتمعات أخرى، وذلك ليس عيبا بذاته، ولكن العيب أن نبقى أسرى لتلك الفكرة- فكرة بعدنا عن قيم المدنية الحديثة المستقرة - دون أن نبحث بجد في قيم إيجابية - وهي كثيرة - في تلك المجتمعات الموجودة لدينا ونوائم بينها وبين متطلبات الإدارة الناجحة وذلك لتقديم خدمة أفضل. وما دمنا نشكر من البيروقراطية والفساد الإداري، فلا شك أننا وأعون بالمشكلة ووجودها، وعلينا أن نبحث لنصل إلى حلول ناجعة لها.

البشر أم الأنظمة؟!

لعل بعضنا يعتقد أن تطوير الإدارة ونجاحها يعتمدان على وجود أنظمة مادية وفنية حديثة، ولو أن هذا القول يشكل جزءا من الحقيقة، إلا أن جوهر الإدارة الحقة هو البشر. فالموارد البشرية مقدمة على الموارد المادية مهما علا شأن الأخيرة. فأهداف وحاجات العاملين في المؤسسة يجب أن تتناسق وتتكامل مع أهدافها، فلا يمكن أن ينجح مشروع في تحقيق أهدافه بإهمال العاملين فيه. حجر الزاوية في عملية إصلاح أو تطوير الإدارة العربية هو النظر بجدية إلى إنسانية الإنسان العربي ، ومهما تحقق للمؤسسات - حتى في دول اليسر المادي العربية - من تقنية إدارية حديثة فهـي دون الإنسان أحجار خاوية لا تقدم ولا تؤخر. وإذا تحدثنا عن الإنسان فنحن لا نتحدث في المطلق، بل نتحدث عن واقع معيش، فأنت لا تستطيع أن تستفيد من نظم المعلومات التي تفجرت على نطاق واسع في هذا العالم المحيط بنا دون أن تهيئ الإنسان لاستقبال واستخدام هذه المعلومات.

وحتى ندلل على فداحة الخسارة في استخدام المعلومات عندما لا يتهيأ البشر لها فإن إحدى الإحصاءات تشير إلى أن هناك ترليون دولار قد أنفقت ( في أحد البلدان العربية ) على تقنية المعلومات بين عامي 1983 و1993 ليكون العائد في المقابل ارتفاعا في الإنتاجية لا تتجاوز نسبته 1% فقط! ونحن نعتقد أن الاستفادة من تقنية المعلومات في محيطنا العربي مهما أنفقنا عليها- دون تدريب صحيح وحقيقي للبشر- لن تزيد بأي حال على تلك النسبة.

لذلك فالقول إن الثروة الحقيقية لأي مجتمع ومصدر الإبداع الرئيسي فيه هي موارده البشرية قول حقيقي ودقيق. ولكن كم من هذه الموارد عندنا نحن العرب غير ملتفت إليها بل يعمل على تبديدها وإحباطها. إن العناية بالثروة البشرية تستلزم وجود عاملين أساسيين هما التعليم والتدريب، ولتحقيق التغيير المطلوب في المجتمع ككل وفي الإدارة على وجه الخصوص لا بد من العناية بالتعليم كيفا وكما، فرفع مستوى الثروة البشرية وكفاءتها يؤديان بدورهما إلى تحسين أدائها، وجودة إنتاجها. وعند النظر إلى محتوى تعليمنا العربي فإن هناك الكثير مما نفتقر إليه، كما لا يمكن إدارة الموارد البشرية ورفع كفاءتها للاستخدام الأمثل دون تدريب. ويجري التعليم والتدريب في الدول الصناعية يدا بيد. بينما يوجد لدينا طلاق بائن بين التعليم والتدريب إلى درجة أن " الشهادة " أصبحت - إلى حد كبير- لا تعني شيئا في الواقع العملي، بينما هي كل شيء في قناعة الكثيرين، إذ يسعى الناس إلى الحصول على شهادات مختلفة من أجل إثبات الذات وتحقيق نصر معنوي لا غير!.

وحتى نلفت النظر إلى أهمية العنصر البشري ، علينا فقط دراسة كيف تتخاطف الشركات والمؤسسات الكبرى العقول الإدارية الناجحة، بل إن هذه العقول تدخل الدول المتقدمة حروبا اقتصادية ودبلوماسية للاستحواذ عليهـا، وكم من شركة قاربت على الإفلاس جيء لها بمدير كفء فتحول احتمال إفلاسها إلى تحقيق أرباح لم تكن متخيلة.

التعليم والتدريب في بلادنا أيضا لا صلة حقيقية بينهما وبين احتياجات سوق العمل. هناك نوايا طيبة وهناك اتجاهات محمودة لدى كثير من مؤسسات التعليم والتدريب عندنا، ولكن هناك أيضا نتائج محدودة. وسبب هذا التضارب بين النوايا الطيبة والنتائج المحدودة، في ظني، يرجع إلى غياب عنصرين في مجال الإدارة يرتبط كل منهما بالآخر، أولهما: أننا برغم القبول المنطقي بخطورة موضوع الإدارة الحديثة، في نجاح أو فشل المشروع، ويؤمن بذلك الكثيرون من أصحاب الاختصاص الأكاديمي على وجه التحديد، فإننا لا نمتلك اليقين فيما يمكن أن تفعله هذه الإدارة، وثانيهما: أننا مازلنا بعيدين عن مقاربة موضوع الإدارة برؤية إبداعية.. فلا إدارة حديثة، دون رؤية، ورؤية إبداعية على وجه الخصوص.

وهنا لا بد أن نتوقف عن التجريد لنفسح للتجسيد المجال ، حتى يلمس القارئ - وبالأمثلة الدامغة - ما نرمي إليه في التركيز على أهمية هذين العنصرين الغائبين.

الإدارة تصنع نقودا

لا أظن أن هناك مجالا دالا على عصرنا الحديث أكثر من مجال الكمبيوتر. ولا أظن أن هناك مجالا مثله تتجلى فيه أهمية الإدارة، وبلغة واضحة، بل صاعقة، لأنها لغة الأرقام.. فالتغيير السريع في استخدام الموارد بهدف الحصول على نتاج بعينه، وهي أحد تجليات الإدارة الحديثة، أنجز ما يشبه المعجزات الاقتصادية . فشركة IBM للكمبيوتر في هيوستن / تكساس في أمريكا ، وخلال السنوات الثلاث الماضية حولت المصنع الحديث- كما تقول الايكونوميست - إلى آخر أحدث، وبذلك أنقصت وقت دورة الإنتاج من سبعة أيام ونصف إلى يوم ونصف! وقلصت الزمن اللازم لتطوير المنتج الجديد من 24 شهرا إلى ثمانية أشهر! والنتيجة.. أنها زادت ربحيتها من 19 إلى 85 مرة.

كما أنها اختزلت عدد العاملين بها من 1100 إلى 423 فردا فقط. وقد يتوقف البعض منا أمام الرقم الأخير باستنكار مرده الشفقة على هؤلاء الذين تم تسريحهم. وكأن دولاب المؤسسات الاقتصادية ينبغي أن يدور بحنو أيادي المحسنين. المسألة محسوبة بالطبع في إطار مجتمعات مدنية متطورة توفر حدا من الكفالة الاجتماعية يكفي لسد العوز للمتعطلين عن العمل، لكنه لا يحمي غير الموهوبين والكسالى وعديمي الأهلية، أو هؤلاء الذين لا يرغبون في تطوير أنفسهم.. إنه فرز مستمر لجودة الأداء، وإعادة توزيع الجهـود بما يمكن أن تكون فيه أكثر إفادة وربما استفادة أيضا.

الصورة في مجملها ليست مجرد تغيير مفاهيم، إنها ثورة مفاهيم مرجعها الإدارة الحديثة، التي باتت تتعامل مع مستجدات خاطفة ولامعة كالبرق، ومفاجئة كالبرق أيضا. فبعد الرقاد الطويل الذي استنامت فيه البشرية مستريحة على إنجازات عصر الصناعة، جاء عصر آخر أصبحت فيه أبخرة المداخن وأناشيد التروس وأفران الصهر العملاقة والماكينات الضخمة مجرد ديناصورات ثقيلة لا تقوى على سباق منجزات العصر الجديد.. عصر المعلومات. ومن هنا فإن الإدارة الحديثة باتت ملزمة - حتى تكون حديثة فعلا- بتبني مفاهيم أخرى، وتبجيل أبطال جدد. ففي أوائل عام 1992 - على سبيل المثال - حققت أسهم شركة مايكروسوفت (المتخصصة في برامج الكمبيوتر) في سوق الأوراق المالية بليوني دولار من الدخل متفوقة بذلك على ما حققته شركة "جنرال موتورز" لصناعة السيارات التي لم تحقق من الدخل إلا 120 مليونا من الدولارات فقط!.

إذن البطل الجديد الذي تتعامل معه الإدارة الحديثة هو جهد العقل البشري عند توظيف طاقاته المرهفة في إطار تكنولوجيا مرهفة، وهو ما يؤكده مثال آخر، وفي مجال صناعة المعلومات أيضا، وإن جاء من اليابان هذه المرة. فشركة " ننتندو" NINTENDO العاملة في مجال شبكات المعلومات، تستخدم 892 عاملا، لا غير، بينما تقفز مبيعاتها إلى 5, 5 بليون دولار (أي 6 ملايين دولار لكل عامل)، وكانت الشركة الثالثة من حيث تحقيق الأرباح في كل اليابان عام 1992.

ولأن الأمر كذلك، فإن الابتكار في الإدارة يغدو عنصرا لا بد منه إذا ما أردنا التحديث، أو اللحاق بالحديث، أو صنع الحديث، وهو ما يلخصه قول بيتر دراكار: " أفضل وسيلة للتنبؤ بالمستقبل هي أن تخلقه بنفسك " . ونحن بصدد انفجارات تقنية ومعرفية يكون فيها كل إنجاز آني جديد هو إنجاز مستقبلي، فهي بذلك تصير فنا ومن ثم يلزمها الإبداع.. وهو ما ينقص غالبية إداراتنا، بل ومفاهيم الإدارة لدينا. وهو أمر يطول، وآمل أن أشير إليه ولو في عجالة.

إدارة جنونية لزمن مجنون

بين أشهر خبراء الإدارة في العالم يتبوأ " توم بيتر " مكانا مرموقا ويذكر له كتابه الأخاذ " التفوق " الذي بحث بعمق في عناصر الامتياز، ولقد أصدر توم بيتر أخيرا كتابا أسماه " من مجنون يحتاج إلى تنظيم إداري مجنون " وتدور فكرة الكتاب الأساسية حول التفويض، أي تفويض الموظفين والعاملين في المؤسسة القيام بمهام العمل وتخويلهم حقوقا تحول كلا منهم إلى قائد، ومن ثم تتحول المؤسسة كلها إلى قياديين! فكرة تبدو مجنونة - بمعنى التجاوز الساحر لا الشطط الأخرق - وهي مناسبة لزمن مجنون بالفعل، مجنون بمعنى أن كل يوم يمر فيه تتضاعف معرفة الإنسان ثم يتضاعف التضاعف، وهكذا.

بلا حدود، وبطاقة من النمو المعرفي مذهلة. مفهوم تحويل كل العاملين إلى قادة في عرف خبير الإدارة الأمريكي العالمي، ليس المعنى منه - بالطبع - وضع كل الرءوس فوق كل الرءوس، ولكني أفهمه كإشارة إلى ضرورة تحويل كل العاملين - في منطق الإدارة الحديثة - إلى مبدعين.. وهنا لب الموضوع .. الإبداع.

والإبداع، كما يروق لمن يعالجون علاقته بالإدارة أن يعرفوه هو: "طريقة للتعامل مع المعلومات والموارد والطاقة الموجودة لإيجاد طرق جديدة في العمل، وحل المشكلات "، وباختصار هو الخروج بجديد، مدهش ، من ركاب القديم والتقليدي والمعتاد. والمثال المفضل لدى أهل علم الإدارة لتقريب هذا المفهوم هو مثال الفنان " مايكل أنجلو " الذي قال أنه لا ينحت تماثيل لشخصيات، بل يخرج هذه الشخصيات الكامنة في قلب الحجر. المسألة إذن معالجة للموجود بروح الخيال لإخراج الجديد والمدهش. أي الفني. لهذا آثرت أن أعنون مقالي بتعبير " الإدارة فن " وليست الإدارة وحدها هي التي ينبغي أن تصير فنا، بل إن كل أداء إنساني عندما يحلق في الذرى المرتفعة والآفاق البعيدة يكون فنا، فالفن أعلى حالات المعرفة، والصناعة، والزراعة، وحتى تدبير البيوت. نحن في حاجة إلى " تفنين " حياتنا، ومن باب أولى " تفنين " رأس الأمور كلها، أي الإدارة. وبعبارة أخرى: الإبداع في الإدارة. وهو إبداع قادة العمل لإطلاق الطاقات الإبداعية للعاملين، ومن ثم إيجاد حلول إبداعية للمشكلات. أي توليد أفكار جديدة للتطوير. ومادام الحديث بالمثال هو أفضل صور تقريب المفاهيم إلى الأذهان، فإنني أحكي هذه الحكاية التي وردت في كتاب أحد القادة الصناعيين اليابانيين تحت عنوان " اليابان التي تستطيع أن تقول لا ". ففي أحد مصانع الرقائق الفائقة التوصيل، وهي عماد صناعة الإلكترونيات المتطورة ، لوحظ أن هناك عيبا في إنتاج المصنع لم يمكن تلافيه برغم البحث بجدية وعمق عن جذوره التي ظلت خافية حتى عن أعين أقدر العلماء والباحثين في هذا المجال. وبينما كانت إحدى العاملات في طريقها المعتاد إلى المصنع لاحظت أن القطار الذي ينقل بضائع أحد المصانع المجاورة يجعل الأرض تهتز عند مروره، وفكرت العاملة البسيطة في احتمال أن تكون هذه الاهتزازات هي سبب العيوب التي تظهر في منتجات مصنعها، فأبلغت رئيسها المباشر بما فكرت فيه، وأبلغ رئيسها رئيسه الأعلى، وهكذا حتى قررت إدارة المصنع بحث الاحتمال المؤسس على ملاحظة العاملة الصغيرة. وثبت بعد ذلك أن اهتزازات مرور القطار هي السبب الفعلي للعيوب في الرقائق الفائقة التوصيل. ولما كان متعذرا إلغاء مسار القطار، فقد حفروا قناة تفصل بين مسار القطار وأسوار المصنع وملأوا القناة بالماء ليمتص نسبة كبيرة من الاهتزازات وكانت النتيجة باهرة، فقد قفزت منتجات المصنع إلى مصاف الأولوية في جودة إنتاج هذه الرقائق، وبلغة أخرى صارت للمصنع قدرة المنافسة العالمية، ومن ثم مزيد من المبيعات والصادرات والملايين بل البلايين.

إنها قصة جديرة بالتأمل لتقريب مفاهيم الإبداع في الإدارة الحديثة ، ولنلاحظ أن بيت القصيد ليس حفر القناة بل كيف أن العاملة البسيطة مهمومة بمشكلات مصنعها ومشغولة بالتفكير فيها. وكيف أنها عندما فكرت لم يسخر منها رؤساؤها، ولم ينسبوا حتى فضل التفكير لأنفسهم. لا أريد الدخول في التفاصيل الأكاديمية لمسائل اكتشاف وتطوير الإبداع الإداري، ولا التدريبات العلمية والفنية المتبعة لبلوغ ذلك، فهذا شأن المتخصصين، فقط أردت أن أنبه إلى خطورة وأهمية وعظمة العائد من الاعتراف والاهتمام بفن الإدارة الحديثة.

ولعلي أجمل الهدف - الذي أرمي إليه من هذا المقال - في مقولة للياباني - أيضا - " ياساتوشي ياشوميرا " من كتابه "فن التفكير الإبداعي"، تلخص ما يتناوب على خاطري في موضوع فن الإدارة الحديثة، من ألم وأمل، فهو يقول: "إن الفشل في استغلال الإبداع الكامن لدى الإنسان بسبب جهله بوجود هذه القدرة أو عدم المبالاة أو بسبب التعنت المقصود ليس هدرا بقدر ما هو خيانة للنفس " - وفي بلداننا هو خيانة وطنية.

وأتمنى ألا نخون أنفسنا، ولا أوطاننا حتى لا يخوننا الحاضر.. والمستقبل.

 

محمد الرميحي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات