الرحلة الأخيرة للمسعودي

الرحلة الأخيرة للمسعودي

دفع الزنجي عصاه الطويلة في صدر المسعودي وهو يصيح فيه:
توقف.. لن تخطو إلى المدينة قبل أن تدفع المكوس، فقط الزنوج يحق لهم دخول المدينة بالمجان.

أخرج علي بن الحسن المسعودي آخر ما في جيبه من دراهم، قطعا من الفضة غير مضروب عليها أي اسم، كل ما تبقى من رحلته الطويلة، ولكن كان عليه أن يدفع أي شيء ليعود للبصرة، سيدة مدن الحزن، نخيلها المحترق يجعلها متشحة بثوب من الحداد الدائم، والناس في أزقتها منكسرة نفوسهم، يتلمسون طرقهم بين جثث معلقة، وروائح عفنة، وذباب طنان، وزنوج.. زنوج.. زنوج.. يختالون في الطرقات بعباءات من حرير، يضعون على جلودهم أغلى العطور، لعلها تخفي رائحة الفضلات الملتصقة بأجسادهم. يتحرشون بالنساء، يكبسون عليهن في أي وقت ومكان، سواء كن حرائر أو جواري. أصبحت البصرة ليست هي البصرة، فإلى أي مدى تغيرت بغداد؟ حين قرر الرحيل منذ أربعين عاما، كانت البصرة في أوج ازدهارها، والسفن التي تزدحم في مينائها قادمة من كل مكان، من سواحل بلاد الزنج حتى الصين، كانت البصرة هي مدخلهم إلى قلب العالم، إلى بغداد التي لا تهدأ ولاتنام.

لكن المسعودي كان يستعد لمغادرتها بعد أن أحس أن زمنها قد انتهى، وأن عالمها الذي كان راسخا أصبح يميد تحت قدميه، حدث ذلك حين رأى القبة الخضراء وهي تتهاوى أمام عينيه، كانت القبة هي مركز بغداد، تظلل القاعة التي يحكم منها الخليفة عالمه الممتد، كان المسعودي يجلس مثل كل يوم في مدخل حي الوراقين، يكتب فصول كتابه "أخبار الزمان" والقبة شامخة أمامه، راسخة كالقدر المحتوم لبني العباس، تحيط بها الرايات السوداء، كل شيء كامل البهاء، دائم البقاء، كأن العباسيون سيكونون شهودا على قيام الساعة، ولكن القبة أصدرت صوتا بعث الرعب في نفوس الجميع، تشققت وتباعدت أحجارها المحكمة البناء، تفرقت بلاطات القيشاني الخضراء، تفتت النقوش المتداخلة، تحللت الجدران التي تحملها، ثم بدأت تغور إلى الأسفل، ارتطمت بالأرض في صوت هائل، ألقى المسعودي بالريشة والرقعة من يديه وظل جامدا مشدوها من هول الحدث وجسامته، أدرك أن هذه هي لحظة نهاية أخبار الزمان التي يدونها، نهاية دولة بني العباس، حتى بعد أن نجا الخليفة ببدنه، بدا واضحا أنه قد فقد قوته وسلطته ورهبته وديمومة سلطانه تحت الركام، استولى جنوده من الترك المجلوبين على مقاليد الأمور، فقد العالم ثباته، وجد المسعودي أن عليه أن يرحل، لم يستطع أن يبقى في بغداد بعد أن أصبحت مدينة باهتة توشك على الاختفاء.

رحلة الأهوار

على شاطئ نهر ابن الخصيب، واحد من عشرات الأنهار التي تتفرع من الفرات، كان هناك قارب ضخم في انتظارهم، يجلس على مجاديفه زنوج أشداء.

تعجب المسعودي من قدرة الزنوج الذين يقومون بالتجديف، كيف يعرفون وجهتهم بدقة وسط هذه المصيدة من الأنهار؟ اشتدت الريح، أحس بجسده يرتجف رغما عنه، بعد هذه الرحلة الطويلة لا توجد إلا مياه الخليج المالحة، وبدأت العتمة تطغى على كل شيء، وبعد سير حثيث ظهرت لمحة من الضوء في نهاية الأفق، لسان من لهب منعكس على صفحة الماء، ثم بدأت العديد من المشاعل تبزغ من ظلمة الليل، صف طويل منها، كأنها أفق متصل من اللهب، بدأ المسعودي يميز السور الممتد، وهو يشق كتلة الظلام عاليا ومهيبا، هل هذه هي المختارة التي كانوا يحدثونه عنها، تلك المدينة الخفية التي يجلس فيها المتمرد الأكبر؟

صاح ابن آبان يطلب من الحراس أن يفتحوا الأبواب، لا بد أنهم كانوا يحفظون نبرة صوته، فقد أسرعوا رغم الظلام بفتحها، وبدت خلفها وجوه الجنود السود وهم يقبضون على الرماح، كان المتمردون قد اختاروا عاصمتهم بعناية بعيدا عن سطوة الخليفة.

كان المسعودي جائعا ومتعبا، ولكنهم واصلوا السير وهو بينهم، شاهد سلسلة من الأكواخ الخشبية المتتابعة، سكانها سود وعرب وأخلاط من البشر، نسوة وأطفال، أجسادهم ضامرة وعيونهم مليئة بالخوف، لم يكونوا جميعا محاربين، كان بينهم كثير من العجزة، والشيوخ، أجساد منهكة، أكلها الشقاء المتواصل، كانوا يجلسون نفس الجلسات المنكسرة، رءوسهم محنية، وعيونهم خابية النظرات. مازالوا خائفين، كل غريب قادم إليهم يذكرهم بدنيا السادة التي هربوا منها، يدركون أنهم يعيشون فترة مؤقتة من الحرية، كانوا رغما عنهم ينتظرون اللحظة الذي ستصل فيها جيوش بني العباس، جيوش السادة، لتدمر مدينتهم وتعيدهم لعالم العبودية من جديد.

خليفة الزنج

سار به ابن آبان إلى مبنى وسط المدينة، جدرانه الخارجية من جذوع النخل، وغرفه من السعف المجدول، اجتازا ممرات صفراء مائلة للخضرة، تضيئها مشاعل مرتعدة، ويقف فيها حراس من الزنج. وصلوا إلى قاعة صغيرة، وطلب منه ابن آبان أن ينتظر فيها حتى يستأذن له في الدخول إلى "علي بن محمد" خليفة الزنج.

ظل المسعودي منتظرا، بالرغم من تعبه وإنهاكه، لم يكن يستطيع التغلب على فضوله ورغبته في اكتشاف ماهية هذا المتمرد الجديد، ولابد أن الخليفة قد لاحظ إمارات الحيرة التي على وجهه فقال له:

- هل كنت تظن أن كل أتباعي من الزنج والسود، أتباعي هم كل الفقراء والمستضعفين، الزنج الذين كانوا يحملون السبخ وفضلات السادة، والعرب من اقنان الأرض الذين كانوا ينظفونها من الملوحة، ولا يأخذون نصيبهم من ثمارها، والفرس الذين بنوا هذه الدولة ثم انقلب الترك عليهم، كل هؤلاء انضموا إلي لنقيم عالما جديدا تعلو فيه كلمة المستضعفين، هل يمكن أن تكتب هذا في تاريخك، أم أنك فقط مشغول بتاريخ خلفاء بني العباس؟

قال المسعودي بصوت متحشرج: لقد غادرت بغداد منذ زمن بعيد، ولم أعرف إلى أين آلت الأمور.

- تركتها وهي غالبة وعدت إليها وهي مغلوبة، ماذا فعلت في رحلتك الطويلة هذه؟

بلع المسعودي ريقه ولم يدر إلى أين يمكن أن يؤدي هذا الحوار، قال:

- لم أفعل غير أنني طفت في أرض الله ثم سكت المسعودي مجهدا، والرجل يحدق فيه متأملا دون أن يظهر على وجهه أي انفعال، اكتشف المسعودي انه كان يحاول أن يبهره دون جدوى، كان واضحا أن العالم الخارجي لا يؤثر فيه، قال متسائلا:

- فهل رأيت ظلما كالذي رأيته هنا في أرض السواد؟

قال المسعودي: رأيت أن الظلم هو القاعدة والعدل هو الاستثناء.

بذور التمرد

أشار الخليفة فنهض الجميع وانصرفوا دون كلام، حتى ابن آبان وقف مترددا قليلا ثم انصرف وعلى وجهه علامات الحيرة، أشار ابن علي للمسعودي فجلس أمامه،ثم قال ببطء:

ـ عندما كنت أنت تكتب تاريخ ولاية المستنصر، كنت أنا في قبو بأحد سجونه، وكان يمكن أن أتعفن فيه حتى الموت، لولا أن الرعاع والجوعى ثاروا في شوارع بغداد، واقتحموا السجون واخرجوا كل من فيها من سجناء، أقسمت ساعتها ألا أتيح الفرصة لبني العباس حتى يضعوا أيديهم علي مرة أخرى، قبل ذلك كنت شاعرا من شعرائهم، أتزلف إليهم بالقصائد في بلاط سمراء، فلم يجدني ذلك نفعا، كرهت الجميع، وبالأخص نفسي، لأنني استسلمت لهم طويلا، غادرت بغداد وأنا مشحون باليأس والحنق،قررت أن ألعب نفس لعبتهم، اخترعت نسبا شريفا بجلت به نفسي، وأعلنت من البحرين دعوتي لكل المستضعفين حتى يناصروني، أيقظت فيهم حلمهم الأبدي، حلم الإمام العادل، أنا لست خائفا من أن تكتب هذا في تاريخك، ولا أريدك أن تكون تابعا من أتباعي، ولكن أريدك أن تساعدني في المحافظة على هذا الحلم.

قال المسعودي: وكيف ذلك أصلحك الله؟

قال ابن علي: لقد حشد الخليفة المطيع لله كل مالديه من جيوش، سحبهم من الثغور والأمصار وحشدهم تحت قيادة أخيه الموفق للقضاء علي أنا ورفاقي، ولو دخل الروم بغداد اليوم فلن يجدوا من يقاومهم، ولكن الموفق أكثر عندنا من بغل، لن يسمح بوجودنا إلى جانب السادة، ونحن أيضا لا نريد أن نكون بجانبهم، كل مانريده هو وطن صغير نعيش فيه، سأترك لهم البصرة وسأقنع بالمختارة وبقية الأرض جنوبا حتى البحرين، أرض قفر، حرها قائظ، ولكنها خالية من كل أنواع السادة، فليتركوها لي، وليرحلوا، لقد مللنا القتال، كما مللنا الشقاء اليومي، أذهب للموفق وقل له ذلك؟

قال المسعودي: وما أدراك أنه سيقتنع بكلامي؟

- سيفعل ذلك لأنه لا يستطيع الوصول إلي، وهذه الأنهر تحميني من جيوشه، يمكنه أن يعلن للجميع أنه انتصر علي، وحاصرني في تلك البقعة المهجورة، ولن أعارضه في ذلك، سألزم الصمت، يكفيني ما حصلت عليه دون أي نية في التوسع، هل تقوم بذلك من أجل كل هؤلاء المضطهدين؟

حمل المسعودي خرجـــه وخــــرج من المدينة، لــــم يـــتعرض له أحد،تركه الزنـــوج يمر، واصـــل السير على قدميه حتى تباعدت مزارع النخيل، بدت عند حافة الأفق رايات العباسيين السوداء على ضفة الفرات، ظهرت الخيام المتراصة بجانب بعضها البعض كأنها بلانهاية، في وسطها آلاف من السيوف والرماح منتصبة ومتقاربة الأنصال، تبدو كأنها تتهامس حول المعركة القادمة، وفي النهر سفن ضخمة مطوية الأشرعة، ولكنها تبدو متحفزة ومتأهبة، الآن فقط، أدرك المسعودي سبب خوف ابن علي من المعركة القادمة. ذكر المسعودي اسمه لأحد الجنود وطلب منه أن يقوده إلى الموفق، نظر الجندي إلى ملابسه المشعثة في ازدراء، ولكنه قادة إلى خيمة فاخرة في المنتصف، مصنوعة من قماش يقاوم الحريق، لم ير المسعودي مثيلا لها إلا في بلاد الصين العجيبة، كانت الخيمة من الداخل حمراء كالجمر، وكان الموفق بجسده الضخم جالسا وأمامه طبق هائل من فواكه كل المواسم، وقد أخذ من كل نوع فيه قضمة، نظر إليه المسعودي بهدوء يخالطه الازدراء وهو يقول:

- أظنك تحمل رسالة إلي يا مسعودي؟

قال المسعودي مدهوشا: أصلح الله الأمير.. كيف عرفت ذلك؟

- عيوني التي لا تنام داخل البصرة هي التي أبلغتني.. رأتك ترحل مع قائدهم وتعود وحدك، ذكرت لي اسمك ووصفك والخان الذي حللت فيه فجلست هنا أنتظرك ؟

وقف المسعودي حائرا لا يدري ماذا يقول، رفع الموفق أصبعه السمينة وواصل القول:

- لا تنقل إلى شيئا أقل من استسلامهم غير المشروط...وحرق مدينتهم وعودة العبيد إلى أسيادهم. قال المسعودي: أعز الله الأمير، لم تبق لي شيئا، الرجل يطلب وهذه كلماته هو، وليست لي أن تتركه في حاله في تلك البقعة النائية من جنوب العراق، ويعد في مقابل ذلك آلا يتحرش بجند الدولة.. أو يحاول التوسع

أربد وجه الموفق واعتدل في جلسته وهو يصيح:

- أنت يامسعودي.. برجاحة عقلك وكثرة أسفارك.. جئت تحمل لي هذا الكلام الفارغ، أي دولة هذه تلك التي تترك قطعة من أرضها لعبيدها؟! وأي أمير أكون حين أتفاوض مع هؤلاء الزنوج، تحدث فيما يفيد.. أنت الآن وحدك تعرف مكان المدينة المختارة، وأنت الآن عليك أن تجلس وترسم خريطة دقيقة لها حتى لا يضل جنودي الطريق إليها وسط متاهة الأنهار..

بهت المسعودي، اكتشف أن الرجل يريد أن يحوله ببساطة إلى عين من عيونه، يجعله يخون سر الرجال الذين ائتمنوه على مدينتهم، وحملوه رسالتهم، كان الموفق يترقب كلمته في ثقة من لا يرد له أمر، قال المسعودي:

- لا أعرف مكانها حقا، تشابهت علي الأنهر وأحراش الغاب، وهبط الظلام علي فطمس كل معلم.

زمجر الموفق غاضبا: أنت تكذب وتعرف أنك تكذب.. ولكني موقن من أني سأجعلك تتكلم.

فوجئ المسعودي بالحرس يهجمون عليه، طرحوه أرضا في حركة واحدة، انهالوا عليه باللكمات والركلات من كل جانب، غمر الألم جسده، تحطمت ضلوعه، وتساقطت أسنانه، وسمع الموفق وهو يقول:

- أنا لست بقية بني العباس أرعي الكتبة والمتكلمة.. أنا أضعهم على الخازوق حتى تخرج أرواحهم وأخلص العالم من ثرثرتهم.

شهق المسعودي، وحين رأي طرف الخازوق النحاسي اللامع، هتف متوسلا وباكيا:

- أرحموني يرحمكم الله.. سأرسم الخريطة.. وافعل كل ما تريدون، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

 

 

محمد المنسي قنديل