وليم شكسبير الآخر الغربي في ميزان النقد العربي
وليم شكسبير الآخر الغربي في ميزان النقد العربي
في لحظة حضارية فارقة، كان سخط الشاعر العربي الحديث على الغرب السياسي عظيما، فرفض وجوهه الكالحة البغيضة التي تشكلت عبر ثلاثية الاحتلال والاستبداد والحرب، لكن التجربة الشعرية اتسعت في اللحظة ذاتها لاقتناص خطوط دالة في لوحة الغرب، وتملكت الشعراء نزعة إنسانية Humanitarianism تعني - في إطارها المعرفي - التعلق بكل ما هو إنساني وحب الخير للإنسان، ومن اللافت لغوياً أيضا تعدد الحالات التي يطلق عليها لفظ الإنسان إذ «يقع على الواحد والجمع والمذكر والمؤنث بصيغة واحدة». ولم تقتصر تلك النزعة على المواقف الإنسانية والأحداث العالمية التي اهتز لها وجدان الشاعر الحديث، بل امتدت للتقدير الإنساني والأدبي لعظماء الغرب ومبدعيه، وتلمس ذلك الاشتباك الفكري والفني بين صوتين أحدهما من الشرق والآخر من الغرب. يقرر الأستاذ عبد الرحمن شكري أن إجلال العظيم عاطفة من العواطف التي يجب أن نعرف تأثيرها في الحياة وننتفع بذلك؛ لأنها تتكفل بتهذيب أنظمة الحكومة والأهل والصداقة والحب والعلم والعمل، وغيرها مما يتشعب منها ويتصل بها. وترجع الصلة بين الأمر الحسن الجليل والقلب إلى تلك النغمة التي يحدثها وقوع القلب على ذلك الأمر، و«ليست تلك الصلة إلا ذلك الشعور الذي يدعونه حباً أو توقيراً أو إجلالاً أو عبادة، وإنما هذه المعاني مراتب من مراتبه، تختلف باختلاف العوامل التي تميل بالقلب إلى الأمر الجليل». ويستدرك شكري قائلاً: «هذا ولا أعني بإجلال العظيم ذلك الانقياد الذي يقتل العزة والإباء في نفس المفضول، والذي ينزع منه الاعتماد على نفسه فيقيد عقله بقيد ضيق ليس فيه مجال لأفكاره». (المؤلفات النثرية الكاملة - المجلد الثاني ص616 - 618) معنى التقدير وهذا الاستدراك، هو ما يجعل كاتب هذه السطور يفضل تعبيراً آخر أكثر توصيفاً وموضوعية لما نحن بصدده، وهو «تقدير الشخصيات العظيمة» والحق أن «تقدير» تعبير سبق إليه الأستاذ العقاد، عندما عنون به باباً من أبواب ديوانه «ديوان من دواوين»: «وما بين يدي من قصائد تناولت عظماء الغرب ومبدعيه، لون رفيع من ألوان التقدير الأدبي والإنساني لشخصيات جديرة بالاعتداد. وهي بعيدة عن أن تكون رثاء، فليس فيها تعزية أو بكاء أو حديث مطول عن فلسفة الفناء والبقاء، ولا تدخل كذلك في أوهى تصورات الرثاء: المدح بصيغة الماضي، كما أراد النقد القديم. هي إذاً قصائد تقدير، تنبعث من تقدير الإبداع والمواقف النبيلة لشخصيات أضحت جزءاً من الإرث الحضاري للإنسانية، يعترف الشاعر بفضلها ودورها الأدبي والتاريخي، بغض النظر عن جنسياتها وقومياتها ومعتقداتها. تنوعت الشخصيات الغربية التي خصها الشاعر الحديث بقصائده، فكان هناك الأدباء والفلاسفة والموسيقيون والقادة العسكريون. وحظي أديب الإنجليز الشهير شكسبير (ت. 1616) بالاهتمام الأوفر، ففي عام 1916 كتب شوقي وحافظ قصيدتين في ذكرى شكسبير (وهي المناسبة التي احتفل فيها المجمع العلمي بإنجلترا بالأديب الكبير ومرور ثلاثمائة عام على وفاته). شكسبير في شعر شوقي يبدأ شوقي قصيدته بالحديث عن مكانة الإمبراطورية البريطانية، وفضل السابقين من أبنائها في إرساء دعائم «ملك يطاول ملك الشمس» ويأتي شكسبير في أكثر من سياق: السياق الأول يعرض لأثر الشاعر العالمي في آداب الأمم وقيمته الرفيعة في تاريخ إنجلترا، والإشارة إلى قدرته الفذة على تحليل النفوس البشرية في حالاتها المتعددة: دستورُهم عَجَبُ الدنيا وشاعُرهم ويأتي شكسبير في سياق الموت، وهو سياق يكاد ينسلخ عن موضوع القصيدة وأجوائها الفنية الاحتفائية، فأين التوفيق في التماس حكمة الموت من خلال ذكرى رجل توفي منذ ثلاثمائة عام وخُـلِّد بأعماله؟ ويضعه شوقي مع طائفة المؤثِّرين ومن هم «ببطن الأرض أحياء»، ثم ما الضرورة الفنية لهذا التصوير المسهب لجمجمة الشاعر الفارغة وقد أصبحت «كأصيص... جفته ريحانة للشعر فيحاء»؟ وما الحاجة إلى هذه اليد - المبدعة في الأساس - وقد فعلت بها «أيدي البلى» فعلها، حتى «أمست من الدود مثل الدود «في قبر شديد الظلمة، ويختلط فيه الحصى بالطين. إنه - إذاً - التماس لعبرة الموت، في موضع الاحتفاء بالفن الذي يبصِّر بالحياة والأحياء. ويعود شوقي في السياق الأخير إلى شكسبير الفنان الشاعر. وتتحرك قصيدة حافظ في إطار فكري قريب، تمجد شكسبير وأدبه مع الإسقاط على الواقع المعاصر الذي ينوء بوقائع حرب عظمى، فشكسبير صاحب قلم صارم في مواجهة الشرور، بارع في تصوير الطباع ودقائق المشاعر، والأمثلة وفيرة من أعماله المعروفة وتقف دليلاً على رأيه، وهي تزداد توهجاً و جدة كلما قدم العهد بها، وكأن صاحبها ينظر «بعين الغيب في كل أمة وفي كل عصر» ثم يكتب شعره العبقري: له قلمٌ ماضي الشَّباةِ كأنما وأحسب أن تلخيص أعمال شكسبير الأدبية بهذه الصورة البرقية - يشير إلى حرص الشاعر على إظهار ثقافته والإدلال بها، وتطعيم أبياته بمفردات ثقافة الآخر ومن قبيل تشبيه المعقول بالمعقول، يشبه حافظ شعر شكسبير بالإنجيل: أتاهُمْ بشعرٍ عبقريٍّ كأنه ونجد الصورة نفسها عند شوقي في حديثه عن قصص شكسبير: مهما تُمثَّلْ ترى الدنيا ممثّلةً ولا مجال هنا لتحقيق الأسبق منهما في النشر , فالقصيدتان كما علمنا قد نشرتا في عام واحد (1916), لكن يمكن الإشارة إلى أن شوقي قد شبه أدب هيجو بالإنجيل في قصيدته «ذكرى هيجو» المنشورة عام 1902 دلالات معاصرة والقصيدتان تمثلان مرحلة متطورة من مراحل استعانة الشاعر الحديث بالشخصية التراثية، لإثراء الصورة واتساع مداها، وعلى هذا المستوى، استدعى الشاعران شخصية شكسبير، ليس للحديث عنها وحسب، بل لإضفاء بعض الدلالات المعاصرة عليها، كما أن استدعاءها في ظرف تاريخي معين، وموقف شبيه يوحي بتلك المعاني الباقية في تلك الشخصية عبر العصور، وتتطلبها مرحلة الشاعر ومواقفه. ولكي يتضح ذلك، نعود إلى قصيدة شوقي عن «شكسبير»، ففي ظل حرب عظمى، طالت أوزارها العالم كله، تناول شخصيته في إطارين كبيرين: إطار «التعبير عن الشخصية» وإطار «التعبير بالشخصية» أو على الأقل انطلاقاً منها. في الإطار الأول تناول مكانة إنجلترا وأديبها العظيم من حيث الإشادة بمسرحه وشعره والإعجاب بقدراته على تحليل النفوس، وشكسبير في سياق الموت. أما الإطار الثاني، فقد تناول الشخصية ليعبر بها عن الحال الحاضرة ومدى حاجة العصر - عصر الآلة والأسلحة الفتاكة - إلى أدبه وإلى الكلمة القوية النافذة لمناصرة الحق ومواجهة جحافل الظلم والدمار: يا واصفَ الدم يَجْري ها هنا وهنا هيجو وتولستوي وإذا كان هذا التناول قد استغرق الجزء الأخير من القصيدة (من البيت السادس والثلاثين إلى البيت الخامس والأربعين) فإننا نجد مثل هذا يتكرر في قصيدتيه عن شاعر فرنسا «فكتور هيجو» , وعن الروائي «تولستوي»، فقد اختص الجزء الأخير من كليهما بالحديث عن الحال الحاضرة انطلاقاً من الملامح المستقرة للشخصية الأدبية التراثية. وفي قصيدة حافظ، يطل على طبائع البشر - التي طالما وصفها الشاعر الإنجليزي - ويرى أن النفوس في واقعه المعاصر مازالت تضج بالطمع والشرور، وتصطلي بوقائع الحروب: أفِقْ ساعةً وانظرْ إلى الخلق نظرةً وانفرد حافظ باستغراقه في (ماكبث) وإعجابه بها، فترجم أبرز مواقفها الدرامية، فكانت قصيدة «خنجر ماكبث» القصيدة الثانية لحافظ في أدب شكسبير، وتقوم على الحديث المنفرد (المسرحي) Monologe، وفيها يتحدث ماكبث (بطل شكسبير المشهور) حديثاً منفرداً إلى خنجر تخيله حينما هم باغتيال ابن عمه دانكان الملك ليخلفه في ملكه، وتنتابه الحيرة والتردد، لكنه ينتهي إلى عزم أكيد بتنفيذ ما أراد حيث «هوى النفس ذل»، وفيها أيضاً يتجلى التحليل النفسي لشخصية الحقود الطماع، والصراع الداخلي المسيطر عليه قبل تنفيذ الجريمة، وعندما تظهر الأسئلة، لا يظهر معها أي جواب، لتظل حيرة النفس مستبدة، والشر طاغيا: أراني في ليلٍ من الشك مظلمٍ ويختتم قصيدته الاحتفالية بخطاب شعري يستقطر إشادة شائعة، قيلت في حق شاعر الإمبراطورية العظمى - وبعبارة أصح - وقت أن كانت كذلك: فقلْ لبني التاميزِ والجمعُ حافِلٌ وللعقاد أيضا قصيدة عنوانها «شكسبير بين الطبيعة والناس «نشرت بالجزء الثالث من ديوانه، كما أصدر كتابا بعنوان التعريف بشكسبير , وقصيدته خلاصة لكثير من المعاني حول شخصية الشاعر الإنجليزي، وهي من طراز مميز حقا، يقول في مستهلها: أبا القوافي ورب الطرس والقلم ويفتتح عبد الرحمن شكري قصيدته «شكسبير، يا معتق الأرواح ما أعتقتها» بإجلال الشاعر الإنجليزي وإجماع آداب الأمم على هذا الإجلال. وتتجلى مهارة شكسبير في سيطرته على نوعي الدراما: المأساة والملهاة «مفتاح المسرة والأسى» وذلك الخيال الجبار الذي أقام عوالم زاخرة بالحياة، تضارع الواقع أو «دنيا الحقائق» بتعبير شكري و«إن خياله العاصف أوثق ما يكون صلة بالواقع، وشكري يقف عند دقائق المعاني في أدب شكسبير، وكانت منطلقاً للاستطراد والتأمل في الحياة وطبائع النفوس البشرية: وسللت من قبح الحياة جمالها (قصيدة شكري غير مدرجة في ديوانه، ونشرت بالمؤلفات النثرية الكاملة - المجلد الثاني ص 554 - 555) كل هذا الاحتفاء يدل على أن الشاعر الحديث قد أنتج صورة حضارية نقدية للآخر الغربي تضافر فيها الفكر والفن , ولم يقصر وعيه على ثنائية القبول والرفض، ويذكِّر في النهاية بكلام مبين للأستاذ العقاد - صاحب تراجم العظماء - يرى فيه أن «الورقة التي تحمل لنا صورة متقنة أو نوطة موسيقية رائعة أو قصيدة شعرية بليغة أو قطعة من قطع الأدب الخالدة - هي ذخيرة أنفس من معاهدة تشهد لنا بالاستقلال، لأن الورقة التي تشهد للأمة بلطف الحس وسلامة الذوق وحب الجمال، وتعبر عن قدرتها على الإبداع وعلى الابتكار وعلى البلاغة في الفهم والتعبير هي شهادة حق من تكوين الأمة في صميمها، وليست بالشهادة التي تخلقها أوراق الوثائق والمعاهدات، ويوم نعرف في مصر أن الفنان العظيم «زعيم وطني» من الطراز الأول فنحن حقاً أحرار، ونحن حقاً مستقلون جديرون بشرف الاستقلال». (مجلة الهلال - سبتمبر 1950).
|