محمود أمين العالم و د. نصر حامد أبوزيد

محمود أمين العالم و د. نصر حامد أبوزيد

غني عن التعريف، له من اسمه "العالم" النصيب الأوفى، يتعانق في ممارساته الفكرية والإبداعية "النظر" و"العمل"، دون أن ينتمي إلى مفكري "البرج العاجي"، ولا إلى "نفعية" رجل السياسة، قادر دائما على ممارسة "النقد الذاتي" على المستويين النظري والعملي، ولعل هذا هو الذي مكّن له سبيل الحماية من التقهقر عما يؤمن به، فلم يرتحل من "اليسار" إلى "أقصى اليمين" كما حدث لبعض أقرانه، ولم يدخل في سلسلة "التنازلات" اندماجا في "الأمر الواقع" كما حدث ويحدث للكثيرين. إنه مفكر صهرته التجارب، وعلمته الحياة أن الفكر إن لم يكن متجذرا في أرض الواقع جنح إلى اليوتوبيا، وإن استغرقه الواقع المباشر اليومي والمتجزىء صار "أيديولوجيا". هذه الحياة الثرية التي تمتد من الجامعة إلى المعتقل، ومن رئاسة مجلس إدارة أكثر من مؤسسة صحفية وثقافية "دار الكاتب العربي، ومؤسسة المسرح والموسيقى، وأخبار اليوم " إلى المعتقل مرة أخرى. هاجر من الوطن حيث عمل في إنجلترا في كلية القديس أنطون، ثم رحل إلى باريس حيث عمل مدرساً، فأستاذا مساعدا بجامعة باريس، وهناك قام بإصدار مجلة شهرية باسم " اليسار العربي " ثم عاد إلى مصر عام 1984. يشرف على إصدار "قضايا فكرية" كتاب غير دوري، وقد أصدر منه أربعة عشر عددا، وما زال يواصل كتاباته النقدية والفكرية والسياسية. رحلة مع الحياة والفكر جاوزت السبعين عاما جديرة بأن تثمر عطاء مترامي الأطراف في مجالات عدة كانت محور هذا الحوار الذي نقدمه اليوم لقارىء العربي، وقد أداره أستاذ الأدب والمفكر العربي المعروف الدكتور نصر حامد أبو زيد..

يمتد نشاط محمود أمين العالم، الفكري، ليشمل الفلسفة والفكر السياسي والنقد الأدبي والإبداع الشعري، من "فلسفة المصادفة" إلى "في الثقافة المصرية" و"تأملات في عالم نجيب محفوظ "، تتنوع الكتابات بين "معارك فكرية" و"الثقافة والثورة" و"الوجه والقناع في المسرح العربي المعاصر" و"توفيق الحكيم مفكرا وفنانا"، ويطول بنا المقام لو عكفنا على تعداد إسهاماته في مختلف المجالات.

لكن أهم ما يميز محمود أمين العالم أنه ينتج خطابا "مفتوحا"، ولعل هذا سر الاحترام الذي يتمتع به من خصومه قبل مريديه، والخطاب المفتوح هو نقيض الخطاب المغلق المتعصب، لأن الأول يتجدد من داخله بحكم قدرته على نقد ذاته والاستماع إلى نقد الآخرين، في حين أن الخطاب الثاني يتآكل بفعل الصدأ الناتج عن عدم قدرته على التجدد والنمو، ولأن خطاب العالم من النوع الأول، فإنه يتمتع على المستوى الشخصي بحيوية ونضارة يحسده عليها الشباب، حيوية العاشق للحياة ونضارة العقل المتفتح دوما للجديد والقادر دائما على النفي والإلقاء بكل ما يثبت زيفه إلى سلة المهملات، من الأسف أن المجال لم يتسع لأكثر من هذه الأسئلة السبعة المتشعبة في حوارنا مع الرجل الظاهرة، مدّ الله في عمره ومتعه بالصحة والعافية...

  • السؤال الذي يفرض نفسه: هل يعني انهيار الاتحاد السوفييتي كدولة انهيار المنظومة الاشثراكية والوصول إلى نهاية التاريخ كما زعم فوكوياما؟ وماهو مستقبل المنظومة الفكرية للاشتراكية فيما يسمى "النظام العالمي الجديد"؟

- لقد انهارت المنظومة الاشتراكية بالفعل بانهيار الاتحاد السوفييتي ودون أن ينفي هذا استمرار وجود تجارب ونماذج اشتراكية في الصين وكوريا الجنوبية وفيتنام وكوبا، فضلا عن وجود أحزاب شيوعية واشتراكية ديمقراطية في كل بلدان العالم الرأسمالي، بل في روسيا نفسها وبعض بلدان القوميات التي كانت مندرجة في الاتحاد السوفييتي، أو في إطارها إلى جانب بعض بلدان العالم الثالث، وهناك أنشطة وندوات ومؤتمرات ومهرجانات تجرى وتنعقد في أنحاء عديدة من العالم تحت راية الاشتراكية والماركسية، والماركسية لا تزال مادة دراسية ومنهج بحث في مختلف جامعات العالم، والكتابات عن الماركسية لا تزال تتصدى لقضايا الواقع الراهن سواء في المجلات الماركسية التي تنشر في مختلف لغات العالم، أو في بعض الكتب والدراسات الجديدة، فانا اقرأ هذه الأيام كتابين مهمين أحدهما للمفكر الفرنسي باليبار بعنوان "فلسفة ماركس " وآخر للفيلسوف ديريدا عن أشباح ماركس، وعلى الرغم من اختلافهما منهجا ورؤية، فكلاهما يناقش دلالة الماركسية واستمرارها كفكر نقدي أو كممارسة ثورية. إن التاريخ بالطبع لم يصل إلى نهايته - إذا كانت له نهاية اللهم إلا نهاية كونية فاجعة؟! وما يقوله فوكوياما هو موقف فكري أيديولوجي يسعى به لتكريس وإعطاء مشروعية كلية مطلقة للنمط الليبرالي الرأسمالي. على أن الصراع الطبقي لم يتوقف على مستوى كل بلد وعلى مستوى العالم أجمع، ويتخذ هذا الصراع أشكالا مختلفة وطنية وقومية وعرقية وأيديولوجية، والنظام الذي يسمى بالجديد لم تتحدد معالمه النهائية بعد، فالعالم يمر في مرحلة انتقال معقدة تعاد فيها صياغة أشكال العلاقات والهيمنة الدولية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية والتكنولوجية، ويتداخل فيها مفهوم الهيمنة بمفهوم المشروعية الدولية، ولا تزال الاشتراكية كخبرة وفكر وأفق وصراع تشكل قسمة من قسمات الواقع الراهن، وإن تكن قد فقدت مكانتها السابقة بعد انهيار المنظومة الاشتراكية، على أن مستقبل الاشتراكية رهن بتطور الصراعات العالمية الوطنية والاقتصادية والمصلحية عامة، فضلا عن الدور الكبير الذي تلعبه اليوم الثقافة عامة والعلم والتكنولوجيا بوجه خاص، وأتوقع قيام أممية جديدة يغلب عليها الطابع الشعبي الديمقراطي ولا تكون خاضعة لمركز واحد، كما الشأن من قبل، بل تكون أقرب إلى التحالف مع مختلف القوى الديمقراطية والوطنية والتقدمية في العالم بما في ذلك قوى السلام وحقوق الإنسان والقوى المدافعة عن البيئة إلى غير ذلك. ولن يتخذ الأمر صورة استقطاب بين شمال وجنوب، ففي الشمال جنوب كما أن في الجنوب شمالا، وإنما سيكون نضالا عالميا مشتركا من أجل مقرطة العلاقات العالمية، والقضاء على الهيمنة والتسلط، وإقامة نظام عالمي يقوم على التكافؤ والتنوع والتعدد والتضامن الإنساني، ولن تكون الاشتراكية بعيدة عن المشاركة في صياغة هذا النظام العالمي الجديد.

الإسلام كبديل حضاري

  • "الإسلام" مطروح كبديل أيديولوجي لمفهوم "العدو" في النظام العالمي الجديد، كما أنه مطروح من جانب جماعات الإسلام السياسي بوصفه " بديلا حضاريا " للنظام العالمى.. ما رأيك في هذه الإشكالية، خاصة وقد،  أشرفت على إصدار كتابين بينهما خمس سنوات كان أولهما بعنوان " الإسلام السياسي " وثانيهما بعنوان " الأصولية الإسلامية"، وما الفرق بين المصطلحين في دلالتهما الزمنية والتاريخية في الكتابين؟!

- في تقديري أن هناك محاولة أيديولوجية مقصودة تبذلها القوى الرأسمالية العالمية المهيمنة لتضخيم ما يسمونه بالخطر الإسلامي واعتباره العدو الأيديولوجي البديل بعد انهيار المنظومة الاشتراكية. لا شك أن في العالم الراهن صدامات وصراعات دينية وعرقية وقومية وثقافية، نتيجة لاختلال التوازن الدولي الراهن، وانهيار الحدود والأنظمة السياسية التي تشكلت نتيجة لاتفاقات ما بعد الحرب العالمية الثانية، فضلا عن تفاقم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وازدياد الهيمنة الأمريكية على مناطق عديدة في العالم، والحركات الإسلامية السياسية جزء من هذه الظاهرة الشاملة، ولكن.. في تقديري أن النظام الرأسمالي العالمي وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية تسعى لتضخيم ما تسميه بالخطر الإسلامي الذي يهدد الحضارة الأوربية، كجزء من الأيديولوجيا التي تخفي بها عدوانيتها العالمية من ناحية، وكجزء من سياستها العالمية كذلك لإدارة أزمتها من ناحية أخرى، فليس خافيا ما تعانيه البلدان الرأسمالية من أزمة اقتصادية حادة، ومن صراعات فيما بين بعضها البعض، والواقع التاريخي والعملي يشهد أن البلدان الرأسمالية، وبخاصة أمريكا، على علاقة طيبة مع البلدان الإسلامية في مختلف المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية، بل كانت وراء إنشاء بعض الأحلاف الإسلامية في الماضي، أما حركات الإسلام السياسي ذات الممارسات الإرهابية، فإنها - موضوعيا وبصرف النظر عن نوايا قواعدها - تغطي على الصراعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في بلادها وتشغل هذه البلاد عن قضاياها الأساسية، بما تستفيد منه الأنظمة الحاكمة في هذه البلاد بدعم مشروعيتها، وهذا ما تستفيد منه كذلك الدول الرأسمالية في إدارتها لأزمتها، وهناك من الشواهد التي تدل على تغذية بعض الدول الرأسمالية هذه الجماعات الإسلامية بالمال والسلاح بشكل مباشر أو غير مباشر.

هذا عن الشق الأول من السؤال، أما عن الشق الثاني حول الفرق بين كتاب "الإسلام السياسي " وكتاب "الأصولية الإسلامية"، فلعل الكتاب الأول قد غلبت عليه الدراسة الخارجية للظاهرة رغم توافر بعض الدراسات التحليلية الداخلية، على حين غلبت على الكتاب الثاني الدراسات التحليلية الداخلية رغم توافر بعض الدراسات الخارجية، فضلا عن دراسة بعض جوانب الظاهرة التي لم تتم دراستها في الكتاب الأول. والواقع أن هناك إشكالية تحتاج إلى مزيد من البحث بين التعابير النظرية والتجليات العملية لهذه الظاهرة الإسلامية السياسية.

مستقبل نظرية الانعكاس

  • يتصل بالمنظومة الاشتراكية جانبها النقدي في مجال نظرية الفن والأدب: هل لا يزال لنظرية " الانعكاس" أي مشروعية؟ وهل التطورات الأخيرة في "علم اجتماعية النص " خروج من أسر "الانعكاس " أم تطوير له؟

- في تقديري أن نظرية الانعكاس قد أسيء فهمها من ناحية كما أسيء استخدامها من ناحية أخرى، فليس في هذه النظرية ما يعني الانعكاس المرآوي كما توحي كلمة الانعكاس، بل هي تتضمن ببساطة أن الأدب والفن ليسا منبتين عن الواقعين الاجتماعي والتاريخي اللذين نشآ فيهما ومنهما، بل هما ثمرة لهما، لا ثمرة مباشرة، بل ثمرة ممارسة حية في هذين الواقعين  الاجتماعي والتاريخي. وفضلا عن هذا فالأدب والفن، لا يعبران عن الواقع بلغة الواقع الذي يصدران عنه وإنما بلغة الأدب والفن، وبالتالي فهما - في الحقيقة إبداع، أو إعادة رؤية للواقع في جوهره لا في مظهره، بل إعادة اكتشاف جمالي له، أي إبداع لواقع جديد مستلهم من الخبرة الحية للواقع القائم، ولهذا فمفهوم الانعكاس لا يعني المطابقة، لا في الأحداث، ولا في اللغة، ولا في البنية، ولا في الإيقاع، فلكل من الأدب والفن بنيته الخاصة ولغته الخاصة، ورؤيته الخاصة وإيقاعه الخاص. إن الأدب سواء بسواء كالفن ابن لسياقه ومشروط بهذا السياق، دون أن ينفي هذا خصوصيته الإبداعية أو الخلق في المنطق الديني - أي ليس إبداعا أو خلقا من عدم، على أن نقيصة مفهوم الانعكاس ليست في المفهوم نفسه - كما ذكرت - وإنما في فهمه الميكانيكي الضيق من ناحية وفي تطبيقه الميكانيكي الضيق كذلك من ناحية أخرى، فضلا عن انحصاره في أحكام يغلب عليها الطابع الإطلاقي والأحادي الجانب والعمومية، وإن كنت لا أنكر كذلك أن وراء الحملة على مفهوم الانعكاس - عند البعض- محاولة لطمس الدلالة الاجتماعية والتاريخية للأدب والفن باسم استقلاليتها المطلقة. أيا ما كان الأمر فلا شك أن علم اجتماع النص هو امتداد للمفهوم العميق للانعكاس مع تغذيته بأساليب إجرائية تتيح له كفاءة أقدر في التعرف على أسرار البنية الداخلية والدلالة الخبيئة للأعمال الأدبية والفنية والفكرية عامة في إطار سياقاتها الخاصة، وإن كنت أرى أن علم اجتماع النص ينجح نجاحا باهرا في مجال الأقوال والنصوص الفكرية، أما النصوص الأدبية والفنية  فإنها تستفيد من هذه الدراسة الاجتماعية النصية لكشف الدلالة، ولكن يبقى الجانب الجمالي الفني الذي لا تكتمل المعرفة به إلا بصياغة إجرائية موحدة تجمع بين هذه الدراسة التحليلية الدلالية والرؤية التركيبية الجمالية.

في الثقافة المصرية

  • "في الثقافة المصرية" بيان واقعي مرجعي مهم في تاريخ الثقافة العربية، بعد مرور حوالي أربعين عاما على طبعته الأولى: فيم يتمثل القصور الأساسي في هذا الكتاب من منظور " النقد الذاتي" والمراجعة المنهجية اللتين  تعودناهما من الأستاذ العالم؟

- لعلنا د. عبدالعظيم أنيس وأنا قد أجبنا عن هذا السؤال في الطبعة الثالثة المصرية لهذا الكتاب، فأولا: هذا الكتاب لم يؤلف ككتاب، وإنما كان مجموعة مقالات متفرقة قام د. عبدالعظيم بجمعها وتنسيقها عندما كان في بيروت في منتصف الخمسينيات، وأسهم معه في هذا الصديق محمد دكروب. وثانيا: إن هذه المقالات كتبت في مرحلة صراع وطني واجتماعي  وديمقراطي كان محتدما في السنوات الأولى من الخمسينيات، وكانت مقالات هذا الكتاب، تعبيرا - في مجال هذا الصراع، النقد الادبي وبأدواته - عن ولهذا غلب على مقالاته الطابع السياسي في كثير من الأحيان، فالكتاب ابن لحظة كان فيها النقد الأدبي بعدا من أبعاد الصراع الفكري العام الدائر في المجتمع عامة، وفضلا عن هذا فقد كنا نمتلك آنذاك رؤية نظرية في النقد الأدبي أكثر مما كنا نمتلك أدوات إجرائية في تطبيق هذه النظرية، ولهذا غلب على هذه المقالات طابع الأحكام العامة، وكانت العناية بإبراز المضمون - لا مجرد الموضوع كما يقال - أكبر من العناية بإبراز القيمة الجمالية والفنية، وليس تبريرا أن أقول إن هذا كان هو الطابع الغالب على المدارس النقدية ذات التوجه الاجتماعي في هذه المرحلة من تاريخ النقد الأدبي على المستوى العالمي، ولعلنا تجاوزنا ذلك إلى حد ما فيما كتبناه من نقدينا بعد هذه المرحلة.

  • بماذا تفسر ظاهرة غياب "الحوار" بين الاتجاهات النقدية المختلفة إذ يبدو أن كل اتجاه يسير متجاهلا غيره من الاتجاهات، هل يرتد ذلك إلى ظواهر في بنية الثقافة أم يرتد إلى بنية سياسية اجتماعية؟

- لعل هذا يرجع إلى الأمرين معا، فهو من ناحية يرجع إلى ضآلة الفكر النظري عامة في المجتمع، وبالتالي ضالة الحوار النظري عامة سواء في المجال السياسي أو الاجتماعي، فلا يزال التعبير "بلاش فلسفة" هو السائد مع الأسف في حياتنا عامة، ولا شك أن ذلك ثمرة الأوضاع العامة السائدة التي يغلب عليها الطابع العملي البرجماتي النفعي، "اللي تكسب به العب به"، ولهذا يسود منطق الربح والإزاحة والاستعلاء والغلبة والاستغلال والتسطح والابتذال، ولا يختلف الأمر في مجال الثقافة، فهناك ثقافة التلقين والأوامر لا ثقافة التفاهم والتحاور، فضلا عن سيادة الاتجاهات المتعصبة الإطلاقية التي تكفركل من يختلف معها في الرأي، بل يصل الأمر إلى حد الاغتيال والإزاحة البدنية، ولعلك كنت وما زلت يا دكتور نصر واحدا من ضحايا هذا الفكر، أتمنى ألا يصل إلى مداه معك! على أن هذا لا ينفي أن هناك بعض الندوات والمنابر والمجامع الثقافية التي تتيح قدرا من الحوار المتحضر، ولكنها مع الأسف جزر معزولة نتمنى أن تتسع لا في مجال الأدب وحده، وإنما تصبح ظاهرة مجتمعية شاملة.

أزمة المنهج

  • آخر كتاب صدر يتناول أزمة "المنهج " هو كتاب سيد البحراوي: تناول فيه بالتحليل "الديوان" و"في الشعر الجاهلي " و"مقدمة لويس عوض لترجمة برومثيوس طليقا" ثم "في الثقافة المصرية"، ما تعليقكم على مسألة أزمة المنهج، وهل يمكن إيجاد ما يسمى "منهج عربي في النقد"؟

- مع تقديري العميق لاجتهادات الدكتور سيد البحراوي، ودأبه في البحث عن منهج نقدي جديد، فإنني أختلف معه في مسألة أزمة المنهج، التي لا يقصد بها تخلفا للمنهجية النقدية، بقدر ما يقصد انتسابها إلى المناهج الغربية وتبعيتها، وهي دعوة يغلب عليها - في تقديري - الطابع الشوفيني القومي، فما نسميه مناهج غربية في النقد الأدبي هي مناهج لها قيمتها الكلية، فرغم صدورها عن مجتمعات أوربية أو أمريكية فهي تنتسب إلى النقد الأدبي كبنية نظرية موضوعية لتناول الظاهرة الأدبية، لا شك أنها تحتوي على جذور قومية لأنها صادرة عن خبرة ثقافية قومية بالضرورة، ولكن هذا لا ينفي موضوعيتها، حتى المناهج العملية الدقيقة في مجال الفيزياء مثلا نستطيع أن نتبين في جذورها عناصر ذاتية أو أنثروبولوجية عامة، فما بالنا بالعلوم الإنسانية كعلم النفس وعلم الاجتماع فضلا عن النقد الأدبي؟! علينا أن نسعى للقضاء على الجذور الذاتية، لتأكيد وتعميق علميتها، لا أن نتهمها بأنها مجرد جزء من نسيج ذاتي أو قومي، وأن نتهم كل من يستفيد منها بالتبعية، إنها تراث إنساني عام رغم نشأتها في سياق قومي معين، والمهم أن نحسن الاستفادة من هذه المناهج وأن نحسن تطويعها مع الطبيعة الخاصة لإنتاجنا الأدبي، أي لخصوصيتنا القومية والإبداعية.

وأزعم أن كثيرا من المناهج النقدية في بلادنا العربية قد استفادت من هذه المناهج الأوربية والأمريكية وطوعتها بالفعل في التطبيق النقدي لخصوصية نصوصنا الإبداعية، وحققت بهذا إضافات نقدية تطبيقية جيدة، والغريب أن الدكتور سيد يمتدح النقاد الذين يتمسكون بالمناهج التقليدية والذين كفوا عن متابعة أي جديد في ساحة النقد الأوربي، وهي دعوة في الحقيقة للكف عن الاستفادة بالخبرات العلمية الجديدة ! وإن كان في الوقت نفسه يمتدح نقادا آخرين يتعاملون مع الجديد في النقد الأدبي الأوربي بوعي - على حد قوله - ويستفيدون بتطوير خبرتهم الخاصة، وما أعتقد أن معظم المدارس النقدية التي ينتقدها في كتابه إلا تعبيرا - مع اختلاف مستوياتها - عن هذا الاتجاه الذي ينادي به ! مرحبا بأي اكتشاف جديد في النقد الأدبي وفي غير النقد الأدبي، ولكن الأمر لا يتحقق بالتنكر للمكتسبات الإنسانية في مختلف المجالات العلمية والاستغناء عنها باسم القطيعة المعرفية أو باسم التحرر من التبعية، وليس في هذا قطيعة معرفية، بل هي قطيعة عن المعرفة! فالقطيعة المعرفية لا تعني القطع بل التمثل والتجاوز، وليس في هذا تحرر من التبعية إنما هو استعلاء قومي، وأصولية وإن اتخذت شكل الأصالة.

تأسيس الوعي العربي

  • "دفاعا عن المادية والتاريخ " لصادق جلال العظم، كان أسرع استجابة عربية لمقولة فوكويوما التي تناولناها في السؤال الأول، هل هو مجرد موقف دفاعي أم إعادة تأسيس للمقولات في الوعي العربي؟

- في تقديري أن هذا الكتاب "دفاعا عن المادية والتاريخ " يعد تتويجا رائعا للمتابعة النظرية العميقة المستمرة التي يقوم بها المفكر صادق جلال العظم للعديد من قضايانا السياسية والاجتماعية والدينية والفكرية، ولكنه في هذا الكتاب يقف في مواجهة التردي النظري الذي أخذ يرين على العالم كله وينعكس بالتالي على كثير من مثقفينا، إنه يقدم رؤية عقلانية موضوعية نقدية دقيقة للعديد من الحقائق النظرية في المجال الفلسفي واللغوي والأدبي والمنهجي عامة التي يسعى بعض المفكرين في العالم إلى تمييعها وطمس حقيقتها، ولهذا فهو كتاب سجالي مع أغلب الفلسفات المعاصرة في العالم، وصياغته الحوارية تساعد على إبراز الطابع النقدي، وهو تقليد من أرقى التقاليد الفلسفية منذ محاورات أفلاطون، ولعله - بدون مغالاة - أن يكون من أنضج ما ظهر من كتب في المكتبة العربية خلال السنوات الأخيرة، وهو صورة شامخة للفكر العربي في تحاوره مع أرقى مستويات الفكر العالمي على مستوى من الندية والكفاءة والعمق والذكاء.

وهو رمز لما ينبغي أن يكون عليه موقفنا من الفكر العالمي، لا أن يكون القطع والقطيعة والاستعلاء، بل أن نحسن استيعاب هذا الفكر، وأن نحسن الحوار معه على أرض من التكافؤ والوعي الصادرين عن خبرة ذاتية خاصة، هذا نموذج في الثقافة ما أجدر أن نحاول تعميمه في السياسة والاقتصاد ومختلف معاملاتنا مع الفكر الغربي والشرقي، إنه كتاب مشرف للعقل العربي المعاصر، ما أحرانا أن نقيم حوله ندوة عربية لحوار جاد شدّ ما نفتقده.

 



أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية  
اعلانات




محمود أمين العالم





د. نصر حامد أبوزيد