محمود أمين العالم من الانغلاق النقدي إلى الآفاق الرحبة

محمود أمين العالم من الانغلاق النقدي إلى الآفاق الرحبة

عندما أصدر محمود أمين العالم كتابه الأول «في الثقافة المصرية» (بالاشتراك مع صديق عمره عبدالعظيم أنيس) عام 1955، لم يتوقع أن يثير هذا الكتاب ما أثاره من جدال في الساحة الثقافية العربية، وأن تنقسم الحركة النقدية الأدبية حوله، وربما لم يأخذ محمود العالم في اعتباره أن مقالات هذا الكتاب نفسه كانت حصيلة معركة نقدية اتخذت لنفسها طابع معركة بين «شباب الأدب وشيوخه»! وبين قوى الديمقراطية وقوة القمع السلطوي، ثم تحولت المعركة - انطلاقاً من مقولات الكتاب - إلى معركة بين يسار الحركة النقدية ويمينها.

والمدهش أن طرفي المعركة هذين واصلا جدالهما طويلاً، ولاتزال بقايا منها تطلّ برأسها حتى وقتنا هذا!

في حين أن العنصر النقدي الأساس في هذه المعركة (أي: محمود أمين العالم نفسه) رأى أن يتوجّه بمسيرته النقدية في مسار يختلف - بشكل أو بآخر - عن هذين الجانبين كليهما. وأزعم أنه هو المسار الأكثر عمقاً وشمولية، والأكثر مراجعة للذات وتثقيفاً للعقل وتطويراً لأدوات النقد وللتذوّق. ولعل هذا التوجّه أن يكون هو المسار الأرحب أفقاً، والأصح رؤية، والأجدى نقدياً.

فماذا حمل ذلك الكتاب الأول الذي جاء بأسباب تلك المعركة؟

الكتاب هو مجموعة مقالات ودراسات، في النقد والشعر والرواية، حول الرؤية إلى موضوعه تنطلق أساساً من مناقشة العالم وأنيس لمقالة نشرها طه حسين، عام 1954، في موضوع «صورة الأدب ومادته»، والتي انطلق منها العالم وأنيس لإثارة جدال حول «الأدب بين الصياغة والمضمون»، وتناولت مقالاتهما بالمناقشة كتابات لأدباء كبار مثل: طه حسين وعباس محمود العقاد وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ.. وغيرهم.

ولكن فصول هذا الكتاب الأول لم تتميّز - يومها - بالرحابة النقدية، بل كانت تميل إلى نوع من الانغلاق اليساري، وتركز الضوء على «المضمون» - أو حتى المضمون السياسي - للنقد الأدبي والعمل الإبداعي الأدبي، دون أن تقارب مسألة «الصياغة الفنية - حسب مصطلحات الكتاب - إلا من بعيد، ومواربة، وهي على كل حال مقاربة تميل إلى السلبية في أحكامها على النتاج الأدبي والنقدي للكتّاب الآخرين! وهكذا. فقد وردت في الكتاب أحكام قاسية، ومتسرّعة، إلى جوانب من كتابات كل من طه حسين ونجيب محفوظ بشكل خاص.

وبالرغم من هذا، ومن جانب آخر، قد أرى الآن: أن كتاب «في الثقافة المصرية» - الصادر قبل أكثر من نصف قرن من يومنا هذا - كان يؤسس لتيار في النقد الأدبي العربي، منهجي ومختلف، يتعدّى التوقف عند حالة التذوق والانطباع والاحتفاء بمجرد البلاغة والأسلوب وسلامة اللغة، ممهداً لممارسة نقد أدبي يرتبط بعموميات النظرية الماركسية، وكذلك بالحركة الاجتماعية كممارسة تغييرية! من هذا المنطلق لم تكن معظم مقالات الكتاب مجرد مقالات في مفهوم النقد الأدبي والتيارات الجديدة في الشعر والرواية، بل هي، في عمقها، كانت تشكّل جزءاً من معركة الديمقراطية المحتدمة في مصر آنذاك (1954).

في هذا كله، كان يتجلّي جانب الجديد في الكتاب وجانب الضعف فيه.

وقد صار واضحاً أن عدم التملّك الأعمق للمنهج النقدي الواقعي، في حينه، بالشكل الذي يؤهل حامليه للنظر أعمق وأرحب وأشمل إلى النتاج الأدبي والعمل النقدي، هو الذي شكّل بالتأكيد الجانب الضعيف، المتزمّت والمتعسّف، في أحكام الكتاب.

هذا الجانب المتزمّت بالذات، هو الذي تصيّده النقد الآخر، النقيض لهذا الاتجاه الفكري أساساً.

وكذلك تناوله - فيما بعد - نقّاد من الآخذين بالتوجه الماركسي نفسه لمؤلفي الكتاب، بما لا يخلو من قسوة ومن تشدّد، وذلك باسم ما كنّا نسمّيه «النقد الذاتي»!

وكانت المبالغة في انتقاد جوانب الضعف والتزمّت في الكتاب هي الأكثر وضوحاً في انتقادات هؤلاء وهؤلاء، على السواء.

ولكنني أزعم: أن الناقد الأهم، والأساسي، الفعلي، لكتابات محمود أمين العالم تلك - وحتى في مراحله المختلفة - هو محمود أمين العالم نفسه!

ولست أشير هنا إلى ما كنا نضعه تحت يافطة «النقد الذاتي»، حيث يحدّد الكاتب بنفسه عناصر الاختلال أو التناقض أو ضعف تملّكه للمنهج. بل أقصد هنا: النقد الذاتي، العملي الطالع من الحركة التطويرية الداخلية لعملية الكتابة النقدية نفسها، التي مارسها وظل يمارسها محمود أمين العالم، ويطوّر أدواتها النقدية، ورؤاها، وطرائقها، أقصد: تلك الكتابات النقدية التي أخذ محمود أمين العالم ينشرها، بعد سنوات من مرحلته الأولى تلك، فيسجّل فيها عملية انتقال واضحة المعالم، ودءوبا، ومتسلّحة بالمعرفة والمتابعة والممارسة. انتقالاً من النقد الذي اصطُلح على وصفه بالنقد «المضموني» - الذي يركّز اهتمامه الأساسي والأول على مضمون العمل الأدبي وعلاقاته بالحركة الاجتماعية السياسية - ليدخل مرحلة النقد (النصّي) الذي يشتغل على تحليل النصّ الأدبي الفني، مقيّماً جمالاته، ولكن دون أن يهمل (المضمون) أو الدلالة، بل يتشامل، بحيث يرى إلى عمليات انبناء المضمون عبر عمليات البناء الفني للعمل الإبداعي، وسريان جمالياته في النسيج الداخلي لهذا العمل الأدبي. بهذا، يدخل الناقد في تحليل مختلف عناصر العمل الأدبي، من حيث هو (بنية) أو تشكيل من البنيات، ومن حيث دلالات هذه البنى، وكذلك من حيث القيمة الفنية والجمالية للعمل الأدبي.

***

ونستطيع أن نتابع حركة التطور والتكامل والتشامل هذه عند محمود أمين العالم ابتداء من مقالات أخذ ينشرها في مجلة «الهلال» بعنوان لافت يحمل بذاته دلالة هذه النقلة المهمة في مفاهيم النقد الأدبي عند العالم، العنوان هو «المعمار الفني في الرواية العربية» (عام 1966)، أتبعها بسلسلة مقالات ودراسات عن روايات نجيب محفوظ ثم أصدرها عام 1970 في كتاب بعنوان «تأملات في عالم نجيب محفوظ»، مبيناً جمالياتها وقيمها الفنية والمعرفية (بما يشكّل نقداً، عملياً، واضحاً لتلك الأحكام المتعسّفة عن نجيب محفوظ وبعض رواياته، وردت في كتاب العالم- أنيس نفسه «في الثقافة المصرية»، ثم أصدر محمود العالم كتابه اللافت والدقيق نقدياً: «ثلاثية الرفض والهزيمة» (عام1985)، (وهو دراسة نقدية لروايات صنع الله إبراهيم: تلك الرائحة - نجمة أغسطس - اللجنة) ويتضمن هذا الكتاب مقدمة متميّزة وضعها العالم لكتابه هذا، وفيها يعبّر عن دخوله، بعدّة معرفية جديدة وناضجة إلى «الحرم الداخلي» لذلك النقد البنيوي، تفهّماً له، واستفادة منه، وتفاعلاً معه، ونقداً لمفاهيم أساسية فيه, وهي مقدمة نرى من الضروري أن نتوقف قليلاً عندها بعد قليل. ثم كتب خلال التسعينيات العديد من الدراسات أدرجها في كتابه الجامع لنماذج من دراساته النقدية في مراحله المختلفة وجعلها بعنوان: «أربعون عاماً من النقد التطبيقي/البنية والدلالة في القصة والرواية العربية المعاصرة»، الصادر عام 1994. ويتضمن الكتاب عدة دراسات عن أعمال لجمال الغيطاني، ومنها دراسته المهمة عن رواية الغيطاني «شطح المدينة».

في هذه الدراسة يجول محمود العالم مع القارئ في أنحاء الرواية ودهاليز المدينة، لاكتشاف بنى الرواية/المدينة المتعددة داخل البنية العامة للرواية والمعنى الخصوصي والعام لهذه المدينة، وبالرغم من مقاربته للعديد من دلالات هذه المدينة، التي لا اسم لها، فإن هذه المقاربات نفسها تظلّ في آفاق التساؤلات بحثاً عن طرق التوصّل، مع القارئ، إلى الدلالات الأعم لهذه الرواية/المدينة المتماسكة البنيان. والفرق شاسع شاسع بين هذا الشكل من النقد الأدبي الذي لا يجبه القارئ بالأجوبة الحاسمة (كما في معظم مقالات كتابه الأول «في الثقافة المصرية») بل هو يضع القارئ معه، في منطقة التفاعل السعيد بين حالات التذوّق وآفاق التفكير.

ولابد لنا، هنا، أن نكتفي بإشارات مكثّفة إلى بعض معالم إعادة النظر التي مارسها محمود العالم بحق نفسه وأحكامه السابقة، ومعالم الرؤى الجديدة، في غناها المعرفي ونضجها المتواصل، وكيف صار ينظر إلى العمل الأدبي من حيث هو بنية متكاملة من البنى المتشابكة والدلالات، وما يحمله كل عمل من قيمة فنية جمالية ومعرفية ومن خصوصيات في هذا العمل تميّزه عن غيره.

***

في كتاب «أربعون عاماً من النقد التطبيقي» فصل بعنوان «عالم يوسف إدريس القصصي» يتضمن ارتقاء وعمقاً وشمولية جديدة في رؤاه إلى قصص يوسف إدريس القصيرة، وهذا القاص الفنان هو من أهم - وقد يكون أهم - بناة القصة الطليعية الفنية الحاملة، إلى جديد الكتابة، أصالة إبداع قصص معبّرة عن روح الشعب المصري في خصوصيّته وطبائعه وميزاته وجذوره.

وقد سبق لمحمود العالم أن كتب عن أقاصيص يوسف إدريس. فكانت كتاباته تلك تنحو إلى التفسير السياسي السريع أو المتسرّع، والمحدود. وينتقد جوانب من هذه القصص انطلاقاً من هذا التفسير السهل والمتسرّع! أما في هذه الدراسة المتميّزة، التي تعود إلى فترة الثمانينيات، فهو يوجه انتقاده إلى عدد من أحكامه، هو، المتسرّعة تلك. ثم يدخل بنا، ليس فقط إلى العمق الفني وخصوصية الأصالة المصرية لهذه القصص، بل يذهب بنا إلى الأبعد، إلى الجذر الفلسفي الفكري الكامن في العمق من أقاصيص يوسف إدريس، سواء في قصصه ذات المناخ الشعبي، أم في العديد من قصص إدريس التي تبني من الأحداث العادية أبعاداً رمزية تكثّف في بنيتها رؤى فلسفية أو كشفاً فلسفياً فكرياً لمجرى العلاقات وتشابكها بين الناس والجماعات، بما يؤهّل التعبير الفني لمصرية قصص يوسف إدريس.

وتتجلى متعة هذه الدراسة في ذلك التآزر السعيد بين الشكف عن المعالم الفنية في البنيان القصصي والكشف عن الدلالة الواقعية والكونية خلف الرمز، وكشف الأعماق الرمزية للحدث العادي، على السواء. وتبيان الأصالة الفنية في التصوير الإدريسي الحي للشخصيات في شتى حالاتها ونوازعها واحتدام تناقضاتها، وذلك القلق والحيرة بين الغضب الانفجاري وصفاء المسامحة.

ولعل أهم منجزات هذه الدراسة هو تبيان قوانين البناء القصصي وخصوصيتها عند يوسف إدريس، ومدى تعبيراتها عن قوانين الحياة الإنسانية في تشابكاتها وجريانها واحتداماتها.

وعندما كتب محمود العالم، لاحقاً، دراسات في عدد من كتبه عن كتاب طه حسين التأسيسي «مستقبل الثقافة في مصر»، كان يستعيد في وعيه ولاوعيه على السواء، تلك السطور الأربعة - فقط - التي وردت في كتاب «في الثقافة المصرية»، والتي أشار فيها بنوع من التسرّع والتعالي إلى كتاب طه حسين المهم هذا، فجاءت هذه الدراسات الجديدة، التي كتبها محمود العالم عن هذا الكتاب، من أهم ما كُتب عن القيمة التأسيسية لمقولات طه حسين وطروحاته حول مستقبل الثقافة في مصر، سواء في مجال التقييم والتبنّي، أم في مجال بعض الملاحظات التي اتخذت روحية الحوار مع أفكار طه حسين، وكأن محمود العالم هنا يحاور فيها نفسه.

وهذا الدرس الذي وعاه محمود العالم، بإعادة النظر في حكم سابق له، ومتسرّع وظالم، يصلح أن يكون درساً لكثير من النقّاد الآخرين الذين يعاندون ولا يطوّرون أحكامهم، حتى ولو اتسعت ثقافتهم مع الزمن.

وحتى في خلال ذروة احتدام المعركة الأدبية مع طه حسين، كان محمود العالم وعبدالعظيم أنيس يذهبان إلى طه حسين، باعتباره هو المعلم وهو العميد فعلاً، وهو المحاور العذب الذي يعارضهم في بعض المفاهيم الأدبية، ولكنه يدعم بقوة مسيرتهم الكفاحية من أجل الحرية والديمقراطية والتقدم.

***

ولعلّي أرى أن أهم معالم التطور والتشامل في الرؤى التنظيرية إلى: (العمل الأدبي - والدراسة الأدبية - والنقد الأدبي) تتجلّى في تلك المقدمة المهمة والمتميزة التي كتبها محمود العالم لكتابه اللامع «ثلاثية الرقص والهزيمة»، الصادر عام 1985.

ولابد من الإشارة هنا إلى أن هذا الكتاب وضعه محمود العالم بعد فترة انقطاع طويلة عن الكتابة النقدية، ولكنه في هذه الفترة كان قد ترك مصر، أو هو أُبعد عن مصر، فهاجر إلى فرنسا ليمارس التدريس في جامعة «باريس 8 - فانسين»، فأتيح له أن يتعرّف على مختلف مدارس الدراسات الأدبية والنقد والنظريات الحديثة في اللغة والفن والفلسفة والعلوم، ويلتقي مع أعلام من أصحاب هذه التيارات يحاورهم ويتفاعل معهم، ينفتح على العديد من النظريات، ولكن دون أن يُبهر بها، يستفيد من منجزاتها وينتقد مالا يتوافق مع رؤيته إلى طبيعة العمل الأدبي الحي ولا مع رؤاه ومواقفه الفكرية والعلمية.

لقد تفاعل مع هذه النظريات الحديثة تفاعلاً حراً متحرراً منفتحاً مدراً لفتوحاتها واكتشافاتها على صعيد علاقات اللغة، دون أن يلتزم بكامل قوانينها، وبالأخص بالنسبة لطرائق النقد الأدبي وكيفية تعاملها مع النص الإبداعي وعلاقات القيمة والدلالة. وفي حين كانت رؤى محمود العالم النقدية والفكرية تغتني وتتشامل، ويراجع أحكاماً له سابقة على هذا العمل الأدبي أو ذاك، في ضوء كل جديد يستوعبه، لاحظ أن بعض النقّاد العرب الآخذين (والمأخوذين) بالبنيوية، مازالوا «يحاكمون مدرسة الخمسينيات بمعيار يكاد يكون وحيداً هو المعيار البنيوي»، بالرغم من مرور سنوات عدة على تلك المرحلة الأولية. وهذه - في رأيي - نظرة غير موضوعية وغير نزيهة لأنها تهمل تماماً التطور الكبير للرؤى النقدية الجديدة لمحمود أمين العالم، التي تتطلب دراسة طويلة ومتأنية. خاصة أن نتاج محمود العالم الأغزر والأهم والطليعي، إنما كتبه في هذه الحقبات بالذات، على امتداد الثمانينيات والتسعينيات، حيث أنجز دراسات عن العشرات من كتّاب القصة والرواية العرب، على امتداد بلدان العالم العربي.

--------------------------------------

أعينيّ جودا ولا تجمُدا
ألا تبكيانِ لصخرِ النّدى؟
ألا تبكيانِ الجريءَ الجميلَ
ألا تبكيانِ الفَتى السيّدا؟
إذا القوْمُ مَدّوا بأيديهِمِ
إلى المَجدِ مدّ إلَيهِ يَدا
فنالَ الذي فوْقَ أيديهِمِ
من المجدِ ثمّ مضَى مُصْعِدا
يُكَلّفُهُ القَوْمُ ما عالهُمْ
وإنْ كانَ أصغرَهم موْلِدا
طَويلَ النِجادِ رَفيعَ العِمادِ
قد سادَ عَشيرَتَهُ أَمرَدا
تَرى المجدَ يهوي الَى بيتهِ
يَرى أفضلَ الكسبِ انْ يحمدَا
وَإنَ ذكرَ المجدُ ألفيتهُ
تَأزّرَ بالمَجدِ ثمّ ارْتَدَى

الخنساء

 

 

 

 

محمد دكروب







طه حسين





نجيب محفوظ