بيتنا الأرض

ملف خاص
على أعتاب قمّة البيئة

"بيتنا الأرض" تعبير أطلقه على الأرض أحد رواد الفضاء عندما نظر إليها وهو على سطح القمر. والتقى التعبيرن دون ترتيب، مع مصطلح علم البيئة " Ecology " والذي يعني حرفيا "علم البيت". هكذا تختلط العاطفة الإنسانية بالمعرفة البيئية، وهو ما يلزمنا حتى ننتبه إلى أهمية المؤتمر الاستثنائي الذي نقف على أبوابه: مؤتمر الأمم المتحدة للبيئة والتنمية UNCED الذي سيعقد في العاصمة البرازيلية، ويؤدي جانيرو، منتصف الشهر القادم. والذي يطلق عليه اختصاراً: مؤتمر قمة الأرض "Earth Summit" .

وفي هذا المؤتمر سيكون لنا - كعرب - نصيب من الألم كبير، ونصيب من الأمل ينبغي أن يكون كذلك، فعلى جدول أعمال المؤتمر، وفي الصدارة منه، قضيتان عربيتان كبيرتان في مجال البيئة: أولهما: كارثة البيئة الخليجية التي لم تبلغ مداها المرعب - على مستوى مصير كوكبنا - بفضل سرعة إطفاء حرائق آبار النفط في الكويت. ثانيتهما: التصحر، وهي مشكلة عريقة مازالت تتفاقم في عالمنا العربي.

نظرة من بعيد
الأرض من الفضاء
إعداد: الدكتور محمد المخزنجي

"ابتعد لتقترب"، قول مفعم بالرمز الصوفي، يصدق أكثر ما يصدق على علاقتنا بالأرض، التي لفرط ما اعتدناها جهلناها، ولفرط ما هي تحت أقدامنا- حاملة وصبور- جافتها القلوب. وهل هناك جفوة أصرح مما يتجلى في إساءة الأنسان إلى بيئة الأرض.. بيته؟! فما أحوجنا إلى هذا الابتعاد.

سنمضي مع كلمات مجموعة من رواد الفضاء، حين عرفوا النوى عن الأرض، وذاقوا طرفا من الفراق عنها وسننظر بعيونهم، ثم نمتحن أحاسيسنا والضمائر.

قال "كين ماتينجلي" من الولايات المتحدة: إنه ما إن بلغ الصاروخ أوج ارتفاعه حتى بدأ يرى السماء تتحول إلى الظلمة، رغم أن الوقت كان نهاراً، وصار الأفق محدداً ونحيلاً.

ولم يكن هذا مجرد أفق للأرض، لقد كان نهاية للغلاف الجوي أيضاً.

هذه الظلمة روعت الأمريكي "ويليام بوجودي" حتى أنه عندما أطل عليها عبر نافذة المركبة الفضائية أحس بقشعريرة تجتاحه، ويتغضن لها جلد ظهره، بينما كان شعره ينتصب هولا، فقد أحس بجسامة تعبير: " الظلام العظيم".

في هذا الظلام العظيم أحس الروسي "فاليرى رومين" بأنه إنسان آخر، وصار هاجسه المرعب أن يكون قد فقد الأرض إلى الأبد، وألا تكون هناك وسيلة ليعود إليها.

عبر هذا الظلام كان هناك كون من الأضواء نظر إليه الأمريكي "لوربن أكتون" فرأى جلالاً لكنه لم يلمس ترحيباً. وفي الأسفل البعيد كان هناك "كوكبنا الطيب المضياف" يتحرك في غلالة رقيقة هشة من زرقة الغلاف الجوي. وفكر لورين في أنه "هناك، في الأرض، توجد كل الأشياء العزيزة لدى الإنسان. كل المآسي والمهازل الإنسانية، وكل ما هو لازم للحياة".

في عمق الهدوء

وفي الظلمة ومع نثار أضواء الكون، كان هناك الهدوء الذي أدهش الروسي " أليكسي ليونوف " فهو هدوء عميق شامل، حتى أنك تبدأ الإصغاء إلى أصوات بدنك: كيف يدق قلبك وكيف تنبض أوعيتك الدموية. بل يصبح حفيف تواتر الأفكار والخواطر في العقل مسموعاً. تلك هي الأصوات الوحيدة في عالم من الصمت العميق والظلمة. وفي هذا الصمت العميق والظلمة " تلوح الأرض هناك، صغيرة، سماوية، ووحيدة بشكل مؤثر ".

إن رؤية هذا المنظر يحدث تغييراً يصفه الروسي "بوريس فولينوف" بأنه يجعل الإنسان محباً للحياة أكثر، وأكثر حنوا ورقة، ويبدأ في التعامل مع كل كائن حي بعطف عميق.

وفي غمرة هذا الحنان يبدأ الإنسان في النظر إلى الأرض بحس جديد، بقلب يتفطر شفقة عليها، ويعبر عن ذلك الروسي فلاديمير شتالوف بقوله: "كان يدهشني دائماً غلاف الأرض الجوي الذي بدا لي وكأنه لا نهائي ولا محدود لكنني اكتشفت - من الفضاء - أن الغلاف الجوي للأرض رقيق للغاية ومثير للتساؤل.. كيف يستطيع ذلك الغلاف حمايتنا من الأشعة الكونية المميتة ومن سيل شظايا اللهب والنيازك، كيف يمكن توفير الهواء اللازم لتنفس المليارات العديدة من سكان الأرض؟ وهل سيكفينا هذا الهواء لمدة طويلة؟ لكم هو مريع أن يؤذى، ولو بقدر ضئيل، هذا الغلاف الرقيق الواقي للحياة ".

هكذا تتسع النظرة لتتجاوز الذات المفردة إلى مجمل البشرية على هذه الأرض، وهو ما عبر عنه "زولفونيرو فيلا" بقوله: نظرت من الفضاء إلى نفسي كواحد من الملاين التي عاشت وتعيش وسوف تعيش على الأرض، ووجدت نفسي مضطراً إلى التفكير في مغزى وجودنا، وكيف يجب أن نعيش بحيث نتمتع بالوقت القصير المتاح لنا ".

في الفضاء يكتشف الرواد، بشكل يقيني، أن لا ملاذ للإنسان في الكون الفسيح غير الأرض، ويكتشفون محدودية هذا الملاذ واتساعه في آن معاً، وهو ما عبر عنه رائد الفضاء العربي السعودي "سلطان بن سلمان آل سعود " بقوله: " في اليوم الأول من تحليقنا حول الأرض كان كل منا يشير إلى بلده عند مرورنا فوقه. ولكن مع مرور الأيام وعلى وجه التحديد في اليوم الثالث أو الرابع بدأ كل منا يشير إلى قارته ومع قدوم اليوم الخامس لم نلاحظ حتى القارات وبدأنا ننظر إلى الأرض ككوكب واحد".

النظرة نفسها هي ما عبر عنه رائد الفضاء العربي السوري "محمد فارس" بقوله: "رأيت الأرض من الفضاء جميلة رائعة، وغمرتني فرحة وسعادة. حقاً، يجب المحافظة عليها من الكوارث. شعرت أن الأرض هي أمنا جميعاً وتلاشت الحدود بين البلدان ".

الأرض قمر

وعلى القمر يتجسم إحساس الإنسان بالأرض، ويصير التطلع إليها مفعماً بيقين لا يضاهى بأنها المقصد، والحضن المأمول. وهو ما يعبر عنه " إدجار ميشيل" بقوله: " من وراء خط أفق القمر وعبر لحظة طويلة جليلة، تصعد مضيئة لؤلؤتنا البيضاء المشعة بالزرقة، تصعد بالتدريج صغيرة في بحر من الظلمة المدهشة. وتمر اللحظة مديدة حتى يدرك الإنسان أن هذه هي.. الأرض.. بيتنا".

وبشكل أكثر إيجازاً يعبر عن ذلك "ألفريد ووردن: " وأدركت وأنا على سطح القمر أنني لست هنا لألقي نظرة من قرب إلى القمر، ولكن لأنظر خلفي إلى بيتنا.. الأرض ".

قلق على البيت

هذا الابتعاد في الفضاء، يحمل على الاقتراب بالمشاعر من الأرض خاصة عندما تتبدى صغيرة وهشة في ساحة الكون، وهو ما يقوله لنا الأمريكي "جيمس أورين ": " ذكرني منظر الأرض وهي معلقة في ظلمة الفضاء بحلية شجرة عيد الميلاد. وكنا كلما ابتعدنا عنها يقل حجمها رويداً رويداً حتى تصبح في النهاية بحجم كرة مرمرية صغيى ة هي أجمل ما يمكن تخيله. وتبدو تلك الكرية، الدافئة الحية المدهشة، رقيقة وهشة حتى تخال أنك لو لمستها بأصبعك لتهشمت وتساقطت بدداً ".

أما الألماني "أرنست شميدت" فإنه يحدد أكثر، قلقه على الأرض التي رآها من الفضاء بقوله: "عندما يخبرني رائد الفضاء الروسي بأن الغلاف الجوي فوق بحيرة بايكال قد تم تلويثه، كما هو الحال في أوربا. وعندما يخبرني رائد الفضاء الأمريكي بأن المراكز الصناعية كانت رؤيتها من الفضاء، منذ خمسة عشر عاماً، أكثر وضوحاً مما هي عليه الآن، ينتابني الشعور بالقلق على مستقبل الأرض ".

العودة إلى البيت

إن هؤلاء الذين ابتعدوا في الفضاء يقتربون من الارض إلى حد أنها تغدو في داخلهم حصن أمان وحلماً، ولنسمع الروسي " فلاديمير لاخوف " وهو يقول: " كنا نحلق في الفضاء بينما تراودنا في نومنا أحلام أرضية ".

ولنسمع الروماني "دوميزو بروناريو" وهو يقول: " مهما توغل الإنسان بعيداً في أعماق الفضاء، فإنه سيرجع إلى الأرض مضطرباً وسعيداً حتى تنفرط من عينيه الدموع. وإذا كان الخبز الذي ربما يأكله الإنسان في مكان ما بجوار كوكب المريخ يوما ما سيتم إعداده من قمح مزروع في معمل فضائي، فصدقوني، سيظل رغم ذلك يحلم بسنبلة ووردة... على الأرض".

ويتجلى ذلك الحس في وقائع العودة التي يصفها "فاليري روميه " بقوله: " بينما كنا نهبط، كان تأثير الجاذبية يزداد علينا. وعندما أشعلنا محرك الهبوط السلس اصطدم الجهاز بالأرض وسقط على جانبه، وانفتح الباب، ورأينا السماء ووجوها بشرية تنظر إلينا. ساعتها فقدت القدرة على التحكم في جسدي وأحسست كأن ذراعي وقدمي مكبلة بالحديد، آه أيتها الأرض العزيزة كم أنت ثقيلة على كاهلي ".

عزيزة هي الأرض، البيت، رغم الثقل ورغم أنها لا تمنح أحياناً للعائدين إلا حضنا من أعشاب رمادية وثلوج مثلما حدث مع " جيورجي شونين " ويحكيه لنا: " عدت. وهآنذا أقف على الأرض مرة أخرى، فأرتج قليلاً وتملأ بصري صورة الأعشاب الخريفية الرمادية. لم تكن هناك أي شجرة أو نبت أخضر. فقط كانت هناك حوامة رجال الإنقاذ التي تبدو كطائر كبير متعب يحط بعيداً، لكنني كنت سعيداً بملامسة الأرض المكسوة بطبقة رقيقة من ثلوج أول الشتاء كنت أريد الارتماء عليها واحتضانها، وكنت أود لو أوسد وجنتي عليها ".

وعزيزة هي الأرض، البيت، خاصة عندما يتلاشى بفعل الاتلاف والتأقلم ثقلها. وعندما يخضر الشجر، ويزهو العشب ويترقرق الماء.

فهل نعود بقلوبنا، قبل العيون إلى الأرض؟.

نظرة من قريب
إطلالة على البيئة
بقلم: الدكتور أحمد مدحت إسلام

لو أن للبيئة أصواتاً، لصكت أسماعنا صرخات الغابات الاستوائية التي تحرق عمداً في الأمازون، وأنين المياه التي تخنقها بقعة الزيت في الخليج، وحشرجة الهواء الذي يختنق بغازات الدفيئة والرصاص في مدن العالم الكبرى، ولأننا لن نسمع ذلك كله، يتوجب علينا أن نقترب من بيئة أرضنا- بيتنا، ونطل.

يمثل سوء استخدام الموارد الطبيعية واستنزافها إحدى المشكلات الرئيسية التي يواجهها عالمنا المعاصر اليوم.

ولاشك أن الثورة التكنولوجية التي حدثت في خلال هذا القرن، قد أدت إلى حدوث تطور هائل وتقدم في كثير من المجالات، ولكن ذلك التقدم كان مصحوباً بكثير من الأضرار التي حدثت للبيئة وللتوازن الطبيعي القائم بين عناصرها المختلفة.

وبجانب الاستنزاف الهائل للموارد الطبيعية ولكثير من الخامات، ظهرت هناك كثير من المشاكل الجانبية التي لم يكن يتوقعها أحد، مثل تلك المشاكل الناتجة عن الاستخدام العشوائي والمبالغ فيه أحيانا للمواد الكيميائية في مجالات المخصبات الزراعية ومكافحة الآفات والحشرات، الناتجة عن إهمال الزراعة وقطع الغابات، فزادت ظاهرة التصحر في كثير من الأماكن، وحدثت الفيضانات، وانتشرت النفايات البشرية في كل مكان، وتصاعدت بعض الغازات السامة في الهواء، وتلوثت مياه البحار، وتضاءلت الثروات البحرية، وتسربت السموم إلى باطن التربة وإلى المياه الجوفية والأنهار والبحيرات، ومنها إلى مياه الشرب في كثير من الأحيان.

الإخلال بالتوازن

الأرض هي البيت الذي نسكنه، وهي محور الحياة للإنسان، ففيها كل ما يحتاج إليه الإنسان، وتوجد مكوناتها وعناصرها في حالة توازن دقيق يسمح للإنسان بالاستفادة من عناصر البيئة المحيطة به على مر الزمان.

قد زاد استغلال الإنسان للموارد الطبيعية بشكل هائل في هذا القرن حتى أنه أضر كثيراً بقدرة بعض هذه الموارد على التجدد التلقائي. ولا تعتبر هذه الموارد ملكاً خاصاً للجيل الحالي من البشر الذي يعيش على سطح الأرض اليوم، ولكنها تعتبر ملكاً مستمراً لهذا الجيل وما يعقبه من أجيال بشرية في المستقبل، ولذلك يجب المحافظة على عناصر البيئة بأشكالها المختلفة في صورة أقرب ما تكون إلى طبيعتها الأصلية المتوازنة، وأن نحتفظ بنقاء الغلاف الجوي للأرض، وبصفاء غلافها المائي وما يحتويه من ثروات، وألا نفسد البيئة بدعوى تقدم الصناعة والتكنولوجيا، وأن نتلافى الأخطار والوسائل التي تؤدي إلى رفع درجة حرارة الأرض، والتي تهدد باتساع ثقب الأوزون، واتساع الصحاري التي تبتلع كثيراً من الأراضي الزراعية في بعض القارات.

وتشترك الدول الغنية والدول الفقيرة في الإخلال بتوازن عناصر البيئة، فالدول الغنية تستند في تقدمها الصناعي إلى استهلاك كميات متزايدة من المواد الخام ومن الطاقة، وتستخدم في عملياتها كثيرا من المواد الكيميائية الضارة، كما ينتج من كثير من عملياتها الصناعية مواد أخرى شديدة الضرر بالبيئة. كذلك فإن الدول الفقيرة تجهد بيئتها بطرق مختلفة، فيؤدي اعتمادها على الزراعة في التصدير إلى استنزاف التربة وإجهاد البيئة وقطع الغابات، وإنهاك ماشية المراعي، كما يحدث بها تزاحم هائل في المدن المكتظة بالسكان مما يزيد من حدة التلوث بالمخلفات الصلبة ومخلفات الصرف الصحي ويمثل ضغطاً هائلاً على كل المرافق، بجانب عدم توافر مياه الشرب النقية بالنسبة لعدد كبير من السكان.

التعرية، والمبيدات

وتشير الدراسات الحديثة إلى توقع زيادة سكان العالم إلى نحو 6.1 مليار في سنة 2000، وإلى نحو 8.2 مليار عام 2025، وأن 90% من هذه الزيادة ستكون في البلدان النامية. وقد أدت الحاجة إلى مزيد من الغذاء إلى الالتجاء إلى بعض السياسات قصيرة النظر مما أدى إلى تدهور الموارد الزراعية بدلا من زيادتها، فزرعت أراض هامشية قابلة للتعرية، وزادت الأراضي التي تعرت بها التربة في كثير من البلدان، ففي الولايات المتحدة حدث ذلك في نحو ثلث الأراضي الزراعية، وفي كندا يقدر أن تدهور التربة الزراعية يكلف الدولة نحو مليار دولار سنوياً، أما في بعض الدول الأخرى مثل الهند فقد حدثت التعرية في نحو 30% من الأراضي الزراعية بها.

وتحد التعرية كثيراً من قدرة التربة على الاحتفاظ بالمياه، كما أنها تستنزف ما بها من غذاء عضوي وفلزات، مما يؤدي إلى انخفاض إنتاجية الأرض وإلى الالتجاء إلى المخصبات الزراعية ومبيدات الحشرات، التي تضر كثيراً بالتربة في نهاية الأمر وبالمجاري المائية المحيطة بها، كما أنها تضر كثيراً بمن يعتمدون على هذه الأراضي الزراعية، فقد بينت إحدى الدراسات التي أجريت عام 1983 أن نحو عشرة آلاف إنسان قد لقوا حتفهم بهذه المبيدات، بالإضافة إلى إصابة نحو 400 ألف شخص آخر بإصابات بالغة.

إزالة الغابات

كذلك فإن الضغط على الغابات وإزالتها يحدث كثيراً من الضرر بالمناطق الجبلية وبالمسالك المائية، وقد ارتبط حدوث الفيضانات وأحياناً الجفاف في مناطق عديدة بإزالة الغابات.

ويقتضي الأمن الغذائي لكل هذا العدد الهائل من السكان، وضع سياسة جديدة لاستزراع الأراضي واستخدام المخصبات العضوية الطبيعية، مع مكافحة الآفات بأساليب جديدة تعتمد على وجود الأعداء الطبيعيين لهذه الآفات، كما يمكن استغلال أراضي الغابات في الزراعة بطريقة محسوبة مع تخصيص بعض منها كأماكن للوقاية وللمحافظة على أنواع الكائنات الحية الأخرى مع تطوير طرق الزراعة التقليدية.

الشمال يحرق أكثر

وتستهلك الدول الصناعية أو الدول الغنية كميات كبيرة جداً من الوقود الحفري، مثل الفحم والبترول والغاز الطبيعي، وهي مصادر غير متجددة للطاقة، وقد تضاعف حجم الوقود المستخرج إلى نحو 30 مرة منذ القرن الماضي. وتستخدم الدول الصناعية معظم الإنتاج العالمي من المعادن والوقود الحفري وحتى من منتجات الأغذية، وقد كان العالم لا ينتج إلا نحو 2% من السلع التي ينتجها اليوم قبل عام 1950، كما كان يستهلك نحو 35% من المعادن التي يستغلها اليوم مما يدل على الاستهلاك الهائل في الموارد الطبيعية وفي الطاقة، مع زيادة هائلة في توليد النفايات. ويدل دلالة واضحة على أن التوسع الصناعي قد حدث دون النظر إلى تأثيره على البيئة وعناصرها المختلفة.

ارتفاع البحر واضمحلال الأوزون

ويؤدي الاستهلاك اليومي الهائل للوقود في التجمعات الصناعية وفي وسائل النقل والسيارات إلى تصاعد ملايين الأطنان من غاز ثاني أكسيد الكربون، مما قد يؤدي إلى رفع درجة حرارة الأرض بمرور الوقت، وقد يؤدي إلى ارتفاع مستوى سطح مياه البحار وغمر المدن الساحلية ومصبات الأنهار. كذلك يتسبب غاز ثاني أكسيد الكبريت وأكاسيد النتروجين الناتجة عن حرق الوقود في تكوين الأمطار الحمضية التي تتساقط اليوم فوق أراضي كثير من الدول. ويقدر أن بعض المناطق في أوربا تتلقى نحو جرام من الكبريت على كل متر مربع منها في العام. ويضاف إلى ذلك بعض المواد الكيميائية الضارة التي تنتج في الصناعة مثل مركبات الكلوروفلوروكربون التي تستخدم في التبريد وفي عبوات مستحضرات التجميل والمبيدات، كما تستخدم في المواد الرغوية المستخدمة في إطفاء الحرائق، فهي تساعد على اضمحلال طبقة غاز الأوزون التي تمتص الأشعة فوق البنفسجية، مما يهدد الحياة على سطح هذا الكوكب.

وأغلب هذه الآثار الضارة ليست محلية، ولكنها ذات طبيعة شاملة، وتتوزع مخاطرها على جميع سكان الأرض، فقراء وأغنياء، وعلى من ينتفعون بها ومن لا ينتفعون.

وهناك حدود يجب ألا نتعداها حتى لا نهدد النظام الطبيعي المتوازن ونحن نقترب الآن كثيراً من هذه الحدود مما يهدد بقاء الجنس البشري ويؤدي إلى الاستهلاك السريع للموارد المختلفة، مما قد لا يسمح لنا بوقت كاف للتنبؤ بالآثار غير المتوقعة والحيلولة دون وقوعها.

وقد ازداد الوعي واهتمام الرأي العام بحماية البيئة في نهاية الستينيات، وتحركت حكومات الدول الصناعية وحكومات بعض الدول النامية للحفاظ على البيئة وعلى الموارد الطبيعية، وفرضت رسوماً خاصة على مسببات التلوث، وبدأت عمليات تستهدف تطوير تكنولوجيات جديدة، ومع ذلك فمازالت مستويات غازات ثاني أكسيد الكربون وثاني أكسيد الكبريت وأكاسيد النتروجين التي تتصاعد إلى الهواء عالية وكذلك مستويات الجسيمات العالقة والهيدروكربونات غير تامة الاحتراق.

الهواء والماء

وقد اعتبر الهواء والماء منذ زمن بعيد، سلعتين مجانيتين لتوافرهما في كل مكان، ولكن مجتمعنا الحالي يعاني كثيراً من تلوثهما، ويتكلف الكثير في سبيل القضاء على هذا التلوث، وتبين للجميع أخيراً أنهما ليسا سلعتين مجانيتين كما كان يظن.

وقد اتضح للجميع الآن أن النمو الاقتصادي والتقدم التكنولوجي، وهو شيء مرغوب فيه، يقترن دائماً ببعض المخاطر على البيئة، ولذلك يجب العمل على تأمين عملية التقدم بأسلوب علمي صحيح، يضمن الحفاظ على البيئة ويعمل على حمايتها من الأخطار الجانبية التي تصحب هذا التقدم.

نظرة إلى بعيد
هل يمكن إنقاذ الأرض؟
إعداد: مركز أبحاث العربي

" إنها فرصة لن تكون قابلة للتكرار في حياتنا"، هذا ما قاله "موريك سترونج " السكرتير العام لمؤتمر قمة الأرض المرتقب، وكان يشير بذلك إلى أن فرصة إنقاذ البيئة من الدمار الذي لا يمكن إصلاحه، قد تكون مواتية الآن، لكنها ستصير مستحيلة إذا أمعنا في التأخير.

وحتى لا تضيع الفرصة، أنفق الفنيون الذين يعدون للمؤتمر عامين كاملين في التحضير لجدول أعمال بيئي للقرن القادم، مع مسودة مقترحات لقرارات بتدابير تحد من تغير المناخ، وإزالة الغابات والتصحر، وغير ذلك مما يتعلق بتلوث البيئة واستراتيجيات إنقاذها من الدمار.

الجنوب والشمال

ومن بين بنود المقترحات نموذج للتعامل قدمه معهد واشنطن لتجديد الموارد تحت عنوان "اتفاقية لأجل عالم جديد" وفيه ينبغي على العالمين: الشمال الغني والجنوب الفقير، أن يتفقا على معاهدات لتبادل المنفعة في مجالي البيئة والتنمية حيث ارتبطت خطط التنمية في كثير من الأحيان باعتداءات فظة وقصيرة النظر على البيئة.

وفي لقاء بواشنطن داخل هذا الإطار تحددت المبادرات الواجب أتخاذها، والتي تتلخص في: محاصرة الانفجار السكاني، وتغيرات المناخ، والقضاء على الغابات. وفي هذا المجال أشير إلى وجوب أن تقدم الدول الغنية مساعدات مالية مباشرة وأخرى تقنية لجعل للدول الفقيرة تلعب دوراً إيجابياً في حل مشاكل البيئة التي لا تعرف الحدود. وكمثال ساطع على ذلك ما يثار حول غابات الأمازون.

غابات من هذه التي تحترق؟

فالمار بطائرة فوق ولاية بارا بالبرازيل سيرى النار تأكل غابات الأمازون وأعمدة الدخان تتصاعد منها نحو السماء. وبالرغم من أن الحكومة البرازيلية تقول بأن الحرائق قد قلت بنسبة 27% عام 1979 و 30% عام 1990، إلا أن مجزرة الغابات الاستوائية مازالت مستمرة، فأصحاب الأراضي الوطنيون مازالوا يخلون الغابات من أجل الرعي ويحرقونها للحصول على مساحات إضافية من الأرض للزراعة.

والمشكلة أن إزالة هذه الغابات هي كابوس يهدد بكارثة مناخ عالمية. فهذه الغابات المطيرة إضافة لكونها رئات هائلة تغترف منها الحياة على الأرض معظم أكسوجينها، ف!نها ميزان يحفظ ثبات المناخ ودوران المياه على كوكبنا كله.

وليست غابات الأمازون وحدها هي التي تتعرض للمجزرة وتوشك على الفناء خلال نصف قرن، ففي المكسيك تتعرض غابة (لاكاندون) المطيرة للإبادة على أيدي الفلاحين المحليين ويخشى من اندثارها في غضون عشر سنوات. كما ينتظر غابات شيلي والأرجنتين مصير مماثل.

وفي مجرى المحاولة لإنقاذ النظم البيئية لأمريكا اللاتينية يدق علماء البيئة في العالم نواقيس الخطر ويدعون إلى اتخاذ ما يكفي من إجراءات للإنقاذ.

أزمة ثقة قديمة.. وشكوك

لكن أبناء أمريكا اللاتينية- في معظمهم- ما زالوا يشكون في حسن هذه النوايا ويقولون إن قارتهم ظلت عرضة للنهب الأجنبي على مدى خمسة قرون بداية من الاستعمار التقليدي وانتهاء بالشركات عابرة القارات التي كونت أرباحاً عظيمة نتيجة لاستغلال موارد أمريكا اللاتينية الطبيعية، من مناجم ومزارع وغابات فلماذا عندما يجيء دورهم لكي يربحوا من أرضهم يريد الأجانب منعهم بحجة حماية البيئة. وهذا الاتجاه يؤيده الساسة وضباط الجيش، خاصة عندما يتحول ضغط البيئيين الأجانب إلى درجة تثير الشك لدى هؤلاء.

ففي عام 1989 شكا البيئيون الأوربيون والأمريكان من أن الحكومة البرازيلية تخطط لمد شبكة مواصلات داخل غابات الأمازون لتصل إلى شاطىء بيرو المواجه للمحيط الباسفيكي لشحن الأخشاب إلى اليابان. وطالبت واشنطن طوكيو بسحب تمويلها لهذا المشروع. وقد وصف رئيس البرازيل حينذاك، الحملة بأنها قاسية وغير عادلة وأعلن " إننا لن نقبل أي وصاية"، لكن المشروع توقف نتيجة لقلة التمويل.

ويزيد من إحساس هذا الفريق بالمرارة ويعزز شكوكهم في تلك "العالمية البيئية" أن حكومة البرازيل عندما تقدمت عام 1991 إلى الدول الصناعية السبع الكبرى تطلب 1.6 مليار دولار لإنقاذ الغابات المطيرة لم يرصد لها، وبعد لأي، غير خمسين مليوناً من الدولارات.

وطنيون وأجانب.. بيئيون عالميون

وعلى العكس من ذلك يأتي الرئيس الحالي للبرازيل ليعارض ريبة الرئيس الأسبق، ويدعمه " جوزيه لوتزبرجر" وزير البيئة الذي يقول: "ادعت الحكومة السابقة بأنها تطور الأمازون لمساعدة شعب البرازيل، ولكنها كانت في الحقيقة تساعد نفسها وشركاتها الخاصة ".

ومع هذا الفريق ذي التفكير البيئي العالمي تقف البرازيلية "ماري الجرتي " رئيسة معهد دراسات الأمازون التي تعتبر الاهتمام الأجنبي بحماية الأمازون نعمة للبرازيل وليس نقمة. فأهمية الأمازون للنظام البيئي العالمي قد تكون موضع نقاش كمقايضة لسداد ديون البرازيل الدولية، فالبرازيل- في رأيها- يمكن أن تناقش كدائن وليس كمدين.

ديون الطبيعة.. دولية

وبالفعل جاء ما يرجح صحة وجهة نظر رئيسة معهد دراسات الأمازون، ففي هذا العام أعلن بنك التنمية الأمريكي أنه رصد مبلغ 300 مليون دولار سنوياً لشراء ديون دول أمريكا اللاتينية في مقابل إنشاء محميات وبرامج لحماية الطبيعة. ففي المكسيك قدم البنك 150 مليون دولار مقابل إحياء غابات "سيرادو" و "جوادلوب " التي كانت تكون حزاماً أخضر حول إحدى ضواحي المكسيك، مع نقل السكان الذين كانوا يقيمون في موضع هذا الحزام الأخضر المندثر إلى مساكن ملائمة في أماكن أخرى.

ولم تتوقف مثل هذه التبادلات عند حدود المكسيك، فمثلها يتم في بوليفيا وكوستاريكا والدومينيكان.

إغاثة طبقة الأوزون

طبقة الأوزون في خطر، وتتجاوز حدود الخطر كل تصورات العلماء حتى أن ثقبا آخر يوشك على الظهور في الشمال ليناظر سابقه الجنوبي ويهدد الحياة في نصف الكرة الأرضية الشمالي الذي يمكن أن ينصب عليه فيضان من الأشعة فوق البنفسجية يلهب الجلود بالسرطان ويقتل خصوبة التربة.

ولكن، هل يمكن عمل أي شيء؟ يصرخ " وليام ريلي" أحد مسئولي الوكالة الأمريكية لحماية البيئة، رغم أن الوكالة استطاعت إقناع الصين باستخدام بدائل لغاز الفريون المدمر للأوزون في مشروع ضخم لإنتاج ثلاثمائة مليون ثلاجة.

وينادي "ريلي" بإعادة التفكير في جميع الجهود المبذولة لمواجهة تآكل طبقة الأوزون. وهذا يعني منع إنتاج مادة الكلوروفلوروكاربون " CFC " المسئولة عن تدمير طبقة الأوزون قبل نهاية القرن.

ومع ارتفاع الأصوات الصارخة لإغاثة الأوزون الموشك على التآكل، تبرز مشكلة لم تكن في الحسبان، لأنه إذا تمكنت البشرية من سد ثقب الأوزون فستزداد درجة حرارة كوكب الأرض بشدة لأن ذلك سيؤدي إلى تعزيز مفعول ظاهرة الصوبة Green House " " Effect ، ويفاقمها ومع ذلك تزداد موجات الحرارة والجفاف. وهذا الاكتشاف يحسم جدلا ظل دائراً في أوساط العلماء، فبكميات ثاني أكسيد الكربون والغازات الأخرى الحابسة للحرارة والتي نتجت عن محطات الطاقة وعوادم السيارات خلال المائة عام الماضية، كان يجب أن تكون الأرض أدفأ بكثير مما هي عليه الآن. وكان هذا يشكك في مفعول ظاهرة الصوبة. لكن ما حدث لطبقة الأوزون يقدم تفسيرا لعدم ارتفاع حرارة الأرض إلى الدرجة المتناسبة مع تراكم هذه الكميات الضخمة من غازات الدفيئة الحابسة للحرارة في جو الأرض.

وأمام هذا المأزق صار واجباً البحث عن حل آخر حتى لا تؤدي محاولات زيادة سمك طبقة الأوزون ورتق خروقها إلى مزيد من التهاب الأرض. لهذا صرح العالم العربي الدكتور مصطفى طلبة مدير برنامج الأمم المتحدة لحماية البيئة بأن الهدف ينبغي أن يكون محاصرة ثاني أكسيد الكربون.

وهنا تصطدم رؤية العلماء بمصالح الصناعيين، لأن تقليل تصاعد غاز ثاني أكسيد الكربون يتطلب التحول إلى استخدام أنواع من الطاقة البديلة للوقود الأحفوري دانتاج سيارات وآلات تعتمد على هذه الطاقة النظيفة أو تكون أقل نهما لإحراق الوقود. وهذا يتطلب تكاليف عالية وانقلاباً في نمط الحياة الاستهلاكية السائدة في الغرب. لا مفر من الاتفاق السياسي والتعاون الدولي وهو ما ستتوجه إليه الأنظار في مؤتمر قمة الأرض وإن كانت " باربارا برامبل " ممثلة الفيدرالية الوطنية للحياة البرية " NWF " ترى أبعد من ذلك فتقول: حتى لو أنجز مؤتمر قمة الأرض قواعد بلا أسنان، فسيظل هناك جدول أعمال بيئي للجميع ابتداء من الأمم المتحدة حتى الجماعات العادية من الناس. فهل هذا ممكن؟

ترميم.. وإحياء

هل يمكن إحياء الطبيعة الخلابة التي انقرضت بفعل نهم الإنسان المعاصر ونظرته القاصرة؟ هل يمكن استعادة بكارة الطبيعة الأولى بغاباتها ومستنقعاتها وشعابها المرجانية وكأننا نرمم مزهرية ثمينة محطمة؟

يقول البيئيون الحالمون: نعم يمكن.

وعلى مستوى الفعل بدأت تجمعات من علماء البيئة ومحبيها تحاول- بصبر وحب وبأدوات بسيطة- إعادة البيئات المدمرة إلى سيرتها الزاهية الأولى. وامتدت تجمعاتهم ومحاولاتهم الخيرة من الخليج وحتى كوستاريكا.

في الكويت تقوم مجموعة من شباب " النادي العلمي الكويتي "- بلا ضوضاء وبما هو متاح لديهم من أدوات- بانتشال أجزاء من مخلفات الحرب التي تلوث شاطئ الخليج.

وفي كوستاريكا وبمساعدة عالم الأحياء "دانيال جينز " من جامعة بنسلفانيا، قامت مجموعة من محبي البيئة بإحياء غابة استوائية مساحتها 110.000 هكتار في منطقة كانت حتى خمسة أعوام مضت تدهس تحت أقدام الماشية وتحرق بأيادي المزارعين المحليين.

وتتنوع محاولات إحياء البيئة وترميمها ونتائجها المدهشة: استعادة غابات دارسة، وإعادة أسماك اختفت إلى بيئاتها الطبيعية: ويلخص أحد أعضاء هذه الجمعيات فلسفة عملها بقوله: يمكننا أن نكون جزءاً من الطبيعة دون أن نفسدها، وكل ما نحتاج إليه هو النظام والتواضع والمعرفة.

نعم.. الإنقاذ ممكن

هل يتوجب علينا أن نأخذ الحكمة أحيانا من أفواه المجانين؟.. ربما، خاصة في مواجهة جنون أكبر وأخطر يكاد يودي بمادة الحياة على كوكبنا: البيئة.

ففي الهملايا قام رجل يسمونه " مجنون القرية" بزراعة غابة كاملة مكان غابة منقرضة، كان ذلك منذ أربعين عاماً، وما أن نمت الغابة وتكاثفت أشجارها حتى عادت إلى التفجر من جديد: ينابيع وجداول حسبها الناس جفت إلى الأبد، وصارت ذكرى تفجر هذه الينابيع والجداول عيداً يحتفل به القرويون هناك.

فأي حكمة كان ينطوي عليها تصرف مجنون القرية؟ إننا في حاجة، حقا، لأخذ الحكمة من أفواه مجانين على هذا النحو الجميل والنبيل، لعلنا نتمكن من إنقاذ بيتنا: الأرض.