العزلة الأمريكية بين الرجاء والواقع سامي منصور

العزلة الأمريكية بين الرجاء والواقع

رغم أن الولايات المتحدة قد أصبحت الآن القطب الأوحد في السياسة الدولية، إلا أن شعارات العزلة لبناء الذات قد عادت للارتفاع من جديد.. بل إن الرئيس الأمريكي "كلينتون " قد دخل البيت الأبيض وهو يحمل هذا الشعار..

بداية لا بد من توضيح مسألة العزلة، إذ إن هناك خطأ شائعا وخاصة في الوطن العربي حول مفهوم ذلك الشعار، والخطأ ناتج عن عاملين أحدهما نتيجة اللغة حيث يعني التعبير الانعزالي عن الآخرين، وكأنه قطع أو إنهاء للدور الأمريكي العالمي، وهو أمر مستحيل على الأقل في المستقبل القريب. والعامل الثاني هو عدم المعرفة بخصوصية الشعارات الأمريكية ومدلولاتها السياسية، فقد جرى العرف أن كل رئيس أمريكي يضع لنفسه إطارا يتحرك من خلاله ويطلق عليه عادة "مبدأ الرئيس " وفي القرن الماضي، وبالتحديد في عام 1823 خرج هذا التعبير عن العزلة الأمريكية لوصف مبدأ الرئيس الأمريكي في ذلك الوقت مونرو.

وكان مونرو يقصدعزل القارتين الأمريكيتين وليس الولايات المتحدة وحدها في مواجهة الاستعمار الأوربي، وكان دافع ذلك هو تفكير الدول الأوربية الاستعمارية في مساندة إسبانيا لاستعادة مستعمراتها التي استقلت، واعتبر الرئيس مونرو أن التدخل الأوربي هو تهديد لأمن الولايات المتحدة.

ويتضح أن المقصود بالعزلة في مبدأ مونرو في القرن الماضي هو احتكار الولايات المتحدة للقارتين الأمريكيتين الشمالية والجنوبية معا، وهو ما تحول بعد ذلك إلى المعاهدة التي قامت عليها منظمة الوحدة الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية وتشمل دول أمريكا الجنوبية مع الولايات المتحدة.

هذا ما كان مقصودا بالعزلة في القرن الماضي، وواضح أن للتعبير دلالة تختلف بل تتناقض تماما مع التعبير العربي السائد عن هذه السياسة، وحين طرح كلينتون رؤيته للسياسة الأمريكية خلال حملته الانتخابية اعتبرها الإعلام الأمريكي بل والعالمي إحياء لسياسة العزلة القديمة ولكن في ثوب جديد.

الافتقار للفكر السياسي

وكلينتون رجل لا يدعي أنه مفكر سياسي كما لم يدع أحد عليه تلك الصفة، بل إن طاقم العمل معه يفتقد إلى وجود المفكر السياسي بالمعنى الصحيح والجميع من رجال السياسة الواقعية، ولذلك فإن ما طرح في الحملة الانتخابية كان نتيجة واقع التجربة الأمريكية، وهو شعار وجد قبولا واسعا لدى الناخب الأمريكي كانت ترجمته هي فوز كلينتون بالرئاسة رغم أن بوش كان يقود حملته من داخل البيت الأبيض وهو ما يعطيه فرصة أفضل للفوز.

وأظن أننا قبل أن نمضي مع ذلك الأمل الأمريكي أو الرجاء الشعبي بتحقيق سياسة عزلة جديدة بإطار جغرافي وسياسي مختلف فإنه لا بد من رؤية الواقع الأمريكي من خلال الأرقام الأمريكية بالدرجة الأولى.

فالأرقام الرسمية تقول إن الدخل القومي الأمريكي بلغ في العام الماضي 710 ر5 مليار دولار مع ثبات نسبي لمعدل زيادته عبر السنوات العشر الماضية وهو حوالي 2%، وإذا كانت الأرقام ضخمة مقارنة بالدول الصغيرة فذلك لا يشغل واشنطن التي تنظر فقط إلى الدول التي أصبحت منافسة لها، ففي اليابان يصل الدخل القومي إلى 430 ر2 مليار دولار، وفي نفس العام، ولكن معدل النمو السنوي يزيد على ضعف المعدل الأمريكي، إذ يصل إلى 4.4 % .

والمشكلة ليست في انخفاض معدل نمو الدخل القومي بالمقارنة مع الدول المنافسة بل في ارتباط ذلك بعدد من الظواهر.

فالأرقام الأمريكية تقول إن البطالة تكاد تبلغ حوالي 9.3% وهو معدل مرتفع جدا حتى بالنسبة للولايات المتحدة نفسها، دون مقارنة بغيرها، والأخطر أن بعض الدراسات تضيف عليه البطالة الموسمية مما يرفع النسبة إلى 16.1 % بينما لا تزيد نسبة البطالة في اليابان على 2.5% فقط.

وقد أوضح تقرير للمركز القومي الأمريكي للإحصاءات التعليمية - تابع لوزارة التعليم - أن هناك 90 مليون أمريكي من بين البالغين وعددهم 191 مليون نسمة يفتقرون إلى مهارات القراءة والكتابة، ويلاحظ أن وزير التعليم الأمريكي في تقديمه التقرير لم يستعمل تعبير "أميين " وهو ما يعني 47% من إجمالي البالغين الأمريكيين.

ونجد أن 40 مليونا من هذا الرقم - 90 مليونا - لديهم الحد الأدنى من المهارات التعليمية.

ويقول تقرير مجلس رؤساء بلديات 28 مدينة أمريكية إن عدد المشردين يتراوح بين 600 ألف وحوالي ثلاثة ملايين. ويرجع الاختلاف الكبير في النسبة إلى اختلاف المعايير بين كل مدينة وأخرى في تعريف التشرد، علما بأن 48% من المشردين من السود بينما تصل نسبتهم بين البيض إلى 34%، والخطير فعلا في هذه الأرقام هو أن 7% من المشردين من مرضى الإيدز..!

أكثر من هذا وفق نفس التقرير فإن حوالي 24 مليون أمريكي حصلوا على معونات غذائية.

يضاف إلى ذلك انخفاض إنتاجية العامل الأمريكي مقارنة بغيره، فمعدل نمو هذه الإنتاجية خلال فترة التسعينيات كان 1.5%، بينما يرتفع إلى 2.5% في ألمانيا ويصل إلى 3.5% في اليابان.

نزيف الدولار

وأخطر ما ترتب على هذا الوضع الاقتصادي المريض هو اندفاع أصحاب الاستثمارات الأمريكية للاستثمار في الخارج، ففي الوقت الذي بلغ فيه الاستثمار الأمريكي في العالم 421 مليار دولار، كان الاستثمار الأجنبي داخل الولايات المتحدة 404 مليارات، أي أن نزيف الدولار للخارج أكبر، والغريب أن هناك دعوات متزايدة لوضع قيود على الاستثمارات الأجنبية في داخل الولايات المتحدة بعد شراء الاستثمارات اليابانية عددا من المشروعات الحيوية مثل شركات السينما الأمريكية مما أثار القلق الأمريكي.

ويتضح هذا الموقف أكثر من خلال أرقام الواردات الأمريكية وصادراتها، ففي الوقت الذي تصدر فيه بحوالي 448.2 مليار دولار تستورد بحوالي 554 مليارا، وأكبر عجز مع اليابان والذي يصل الي 41 مليار دولار مما دفع إلى بوادر حرب تجارية بين الدولتين أمام إصرار واشنطن على ضرورة عمل اليابان لتخفيض هذا الفارق. وقد فشلت كل محاولات تنشيط الاقتصاد الأمريكي والخروج من الأزمة نتيجة الفشل في رفع معدلات الاستثمار، إذ لا يتجاوز معدل الاستثمار في الولايات المتحدة 7%، وإن كان قد وصل في بعض الفترات إلى 8.5%، بينما يبلغ في اليابان 19.5%، وفي ألمانيا 13%.

وأخذت نغمة تزداد ارتفاعا في الولايات المتحدة لحنها الأساسي شعور بعدم الوفاء من الحلفاء والأصدقاء.

فالولايات المتحدة تحملت كل أعباء إعادة بناء الاقتصاد الأوربي الذي دمرته الحرب العالمية الثانية وذلك من خلال مشروع مارشال، والولايات المتحدة تحملت أعباء مساعدة اليابان على إعادة البناء والتجديد.

والأهم من ذلك وأكبر أنها تحملت أعباء الدفاع عن العالم الرأسمالي في مواجهة الشيوعية لمدة تقترب من نصف قرن.

ففي الوقت الذي كانت توجه فيه حوالي 5% من دخلها القومي للدفاع لم تكن دولة مثل اليابان أو ألمانيا تنفق أكثر من 1% فقط من دخلها القومي على الدفاع، بينما قدراتها كلها توجه للبناء الاقتصادي.

وفي بداية الثمانينيات ارتفعت الأصوات من واشنطن تطالب الحلفاء بتحمل جزء من أعباء الدفاع عن العالم الرأسمالي، أو على الأقل جزء من تكاليف القوات الأمريكية التي في بلادهم!..

وفي نفس الوقت أصبح هناك تيار قوي داخل المجتمع الأمريكي وله ممثلوه ورموزه يطالب بإلحاح بتخفيض ميزانية الدفاع الأمريكية، ويعتبر كلينتون واحدا من هؤلاء، وبحكم منصبه فهو أعلى من يطالب بذلك في الإدارة الأمريكية.

فقد رفع التخفيض المقترح مثلا للعام القادم وحده إلى ضعف ما كان يخطط له بوش، وهو أربعة مليارات، وإن كانت الميزانية ما زالت ضخمة حيث تبلغ 264 مليار دولار.

تصفية القواعد العسكرية

وتواجه محاولات التخفيض مقاومة من أصحاب المصالح والشركات ولكنها مقاومة يمكن أن تقلل من معدل التخفيض ولكنها يستحيل أن تنجح في تحقيق أي زيادة بعدما كانت الميزانية تزيد عاما بعد آخر. ومنطق المقاومة للتخفيض قائم على أن ذلك يرفع من معدلات البطالة ويزيد من حدة الأزمة الاقتصادية باعتبار أن الإنفاق الحربي كان دائما هو أكثر عناصر تنشيط حركة الاقتصاد الأمريكي، ويكفي أن نعرف أن تخفيض كلينتون المقترح سوف يؤدي إلى تسريح 181 ألف وظيفة مدنية وعسكرية منهم 85 ألفا من القوات العاملة بنسبة 5.2 % من تلك القوات. وبدأت عملية تصفية الكثير من القواعد العسكرية الأمريكية في الخارج وفي الداخل على السواء. وامتد تيار التخفيض في الميزانية العسكرية إلى المساعدات الخارجية التي انخفضت من 18 مليارا في منتصف الثمانينيات إلى 11 مليارا في العام الحالي، على أن يتزايد التخفيض عاما بعد آخر حتى يتم تقليص هذا البرنامج ليصبح للضرورات الاستراتيجية فقط! وأضحت الولايات المتحدة تطالب حلفاءها بتحمل أعباء أي عمل عسكري يحتاجه المجتمع الدولي من القوات الأمريكية. وإذا كان تيار العزلة بمفهومها الجديد وإطارها الجديد أيضا يجد دعما وتأييدا من الواقع الأمريكي إلا أنه ما زال حتى الآن مجرد أمل في ان يكون ذلك أسلوبا لعلاج أزمة الاقتصاد الأمريكي وليس طريقا دائما للسياسة الأمريكية.

الانتحار السياسى

ورغم كل مبررات وأسباب هذا الرجاء الأمريكي، إلا أنه يواجه مأزقا حقيقيا ليس فقط من خصومه الذين يرون فيه نوعا من الانتحار السياسي، بل ومن داخل التيار نفسه، ويكفي نموذجا لهذه الحالة التي يخلفها ذلك المأزق أن الرئيس الأمريكي قد تنازل عن كثير من شعارات حملته الانتخابية في هذا المجال، وهو تنازل ربما كان تكتيكيا حتى لا يواجه بتحديات تحول دون تجديد رئاسته، وربما كان تراجعا طبيعيا مثلما حدث مع كل الرؤساء تقريبا باستثناءات محدودة في التاريخ الأمريكي، حيث يطرح المرشح آماله على الشعب الأمريكي، ولكنه حين يدخل البيت الأبيض يمضي على طريق الذين سبقوه مع قدر من التعديل يتناسب وشخصية كل رئيس وجهازه الإداري.

فالعزلة الأمريكية الجديدة تقوم على :

1 - تحميل الحلفاء وخاصة الأغنياء بأعباء الدفاع عن العالم الرأسمالي دون أن تتحمل واشنطن أية أعباء مالية جديدة لهذه المهمة.

2 - فتح أسواق العالم أمام السلع الأمريكية، وتحريم أي دعم للإنتاج الأجنبي حتى تصبح المنافسة لصالح الإنتاج الأمريكي، وبالتالي يتغير الميزان التجاري الأمريكي مع العالم من العجز إلى الفائض لحساب الولايات المتحدة.

3 - جعل الأمريكتين سوقا أمريكية لا تقبل السلع الأخرى تحت صياغات لا تتعارض مع اتفاقية التجارة الحرة التي خططت لها واشنطن لسنوات وانتهت بتوقيع العالم عليها بالموافقة.

4 - عدم إرسال القوات الأمريكية إلى خارج الولايات المتحدة إلا في حالات استثنائية تفرضها ضرورات استراتيجية.

5 - ترك الحلفاء يتحملون مسئوليات الدفاع عن مناطق محددة لكل منهم، مثل ترك البوسنة لدول أوربا، ومناطق آسيوية لليابان، وإن كان التحديد لكل طرف ما زال في مرحلة التخطيط والتحديد.

6 - إشراك الدول الحليفة في مسئولية الأمم المتحدة، وذلك من خلال مشروع توسيع عضوية مجلس الأمن وخاصة الدول صاحبة المقاعد الدائمة، والدول صاحبة حق الفيتو، وكان الوضع السائد حتى الآن هو التطابق بين الدول الدائمة وحق الفيتو.

وإذا كانت هذه الأركان لتيار العزلة الأمريكية الجديد، تبدو مطالب مشروعة ومنطقية أمام الشعب الأمريكي، إلا أن المأزق الذي يواجهه يأتي من مجموعة تناقضات.

أبرز هذه التناقضات هو أنه في الوقت الذي لم تعد فيه الاقتصاديات الأمريكية قادرة على تحمل اعباء دور رجل البوليس العالمي فإنها بعواطفها غير راغبة عن التنازل عن القمة لغيرها، بل حتى المشاركة التي يطالب بها الحلفاء هي مشاركة في الأعباء وليست في القرار ولا في القمة على الأقل حتى الآن.

والمأزق الآخر أنها في الوقت الذي تطالب فيه الحلفاء بالمشاركة في الأعباء الدولية، فإن هؤلاء الحلفاء أكثر تحفظا في قبول هذه المسئولية الدولية ليس فقط لتناقضها مع مصالحهم الاقتصادية بل ولأن ذلك غير مقبول من شعوبها.

ومثال على ذلك تلك المقاومة الشعبية الواسعة في اليابان لاشتراك أي قوات يابانية في مهمات خارج اليابان، وخصوصا أن ذلك الرفض الشعبي يدعمه الدستور والقانون، بينما المعارضة في ألمانيا أخف، ولكن تضع كل حالة موضع الدراسة والمناقشة قبل اتخاذ أي قرار بخروج جندي ألماني في مهمة خارج الحدود.

فهذه الدول وجدت نفسها في ذلك الدور العملاق اقتصاديا والقزم سياسيا على الأقل حتى الآن، ولا ظل الأوضاع الدولية القائمة.

والمأزق الثالث هو أن هناك ضغوطا عالمية على الولايات المتحدة نفسها تحاول أن تفرض عليها الاستمرار الالتزامات الدولية والقيام بدور العملاق الأوحد، وهي أصوات لها وزنها وثقلها ليس عالميا ولكن في داخل المصالح الأمريكية نفسها، وهي تحاول دفع الولايات المتحدة إلى اتخاذ مواقف حتى ولو بتوريطها للاستمرار في دورها العالمي.

وتكون النتيجة أن تيار العزلة الجديد في الولايات المتحدة ظل يتأرجح بين الرجاء في تحقيق العزلة على حساب العالم كله لإنقاذ الاقتصاد الأمريكى وبين الواقع الذي يحول دون تقليص الدور الاميركي العالمي، والعامل الفاصل سوف يبقى خلال السنوات القادمة في مدى التقدم على طريق حل أزمة الاقتصاد الأمريكي.

 

سامي منصور

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات