جامعة الدول العربية .. والتحديات الراهنة حسن نافعة

جامعة الدول العربية .. والتحديات الراهنة

على مدى نصف قرن والنظام العرب يسلك دروبا متعرجة، صعودا وهبوطا، انتصارا وانكسارا، أملا وإحباطا. لم تأخذ المسيرة العربية أبدا شكل الخط المستقيم، ولم تكن النتائج تتسق أبدآ مع المقدمات.

إن سنوات الأمل التي أعقبت إنشاء جامعة الدولي العربية لم تكن توحي أبدآ بأن هزيمة قاسية تنتظر الوطن العربي عام 1948. وسنوات الإحباط التي أعقبت هذه الهزيمة النكراء لم تكن أبدا توحي بأن الوطن العربي سيبعث من جديد على يد ثورة يوليو المصرية عام 1952 ويصل إلى ذرى عالية عام 1956. ولم يتوقع أحد قط ممن شهـد أعظم لحظات المد القومي في مرحلة ما بعد السويس أن تلحق بالوطن العربي عام 1967 هزيمة أشد وأقسى من تلك التي لحقت به من قبل عام 1948، ولا كان بوسعه أن يتنبأ في ظل سنوات الهوان التي عاشها بعد تلك الهزيمة أن فرحة الانتصار تنتظره عام 1973. والذين عاشوا سنوات الفخار التي أعقبت حرب أكتوبر العظيمة يصعب عليهم أن يصدقوا ما جرى للوطن العربي بعدها.

هل معنى ذلك أن الوطن العربي محكوم بقانون أبدي للتعاقب بين الهزيمة والانتصار. لو كان الأمر كذلك لأصبح من المحتم أن ينهض الوطن العربي من جديد ولتولد لدينا اقتناع يصل إلى درجة اليقين بأن مرحلة الانحطاط والتفكك التي يشهدها الوطن العربي حاليا ليست إلا مرحلة انتقالية وطارئة. لكن مع الأسف فإن دلائل كثيرة تشير إلى أن الوضع العربي يتردى بشكل مطرد منذ عشرين عاما وأن اللحظات القليلة التي حاول فيها الوطن العربي خلال هذه الفترة أن يستجمع قواه لينطلق سرعان ما أجهضت قبل أن يتحرك.

والواقع أن الوطن العربي لم يكن في يوم من الأيام في وضع أسوأ مما هو عليه الآن. فحتى في مرحلة الاستعمار المباشر كانت هناك حركات وطنية وشعبية تجسد الأمل في الخلاص. أما الآن فإن الحركات الجماهيرية في كل أرجاء الوطن العربي تعيش بدورها حالة أزمة إما بسبب تناقضاتها الداخلية وعدم وضوح الرؤية الفكرية أمامها وإما بسبب الحصار الرسمي المضروب حولها. لذلك يبدو الوطن العربي وكأنه يتجه حتما نحو مزيد من التدهور. ويكفي أن نلقي نظرة سريعة على أحواله لكي نصل إلى هذه النتيجة. فالوطن العربي كله يبدو وكأنه في حالة حرب أهلية ولكن بدرجات مختلفة وبأشكال مختلفة أيضا: في الصومال والسودان وجيبوتي وبعض الدول الأخرى. والاختراق الخارجي وصل إلى عظام الوطن العربي. فلم تكتف الجيوش والأساطيل باستباحة الأرض والمياه الإقليمية العربية ولكن أدوات الاختراق الحقيقية وصلت إلى المصانع والمزارع والمنازل ثم العقول.

حتى دول "الجوار" لم تعد تخفي أطماعها السافرة في الأرض العربية. وليت الأمر يقتصر على إسرائيل ، التي لا تزال تحتل الجولان السورية، و" شريطا حدوديا " في لبنان، بل تعداها إلى إيران وتركيا. فإيران لم تكتف باحتلال الجزر الإماراتية بل تصر على ضمها ومازالت تطالب بالبحرين وتتحين الفرصة لاحتلال جنوب العراق. وتركيا تستبيح الأراضي العراقية في الشمال وتريد أن يكون لها أيضا " شريط " حدودي أو "منطقة آمنة " في قلب الأرض العراقية، أما عن الثروة النفطية فحدث ولا حرج، فالأرصدة المتراكمة تم استنزافها، والموارد المالية لا تكفي لسد الاحتياجات وخصوصا من مشتريات السلاح والغذاء.

وسوف نكرس جهدنا في هذا المقال لمناقشة بعض المقولات الشائعة في الأوساط الفكرية والسياسية في محاولة لضبط المصطلحات لعل ذلك يكون بداية لجهـد جماعي لتوضيح الأهداف وتحديد الآليات الصحيحة القادرة على تحقيقها.

المصارحة والمصالحة

الشعار المطروح الآن للخروج بالنظام العربي من مأزقه الراهن هو شعار " المصارحة قبل المصالحة" وبرغم ما ينطوي عليه الشعار من بريق، إلا أنه يحتاج إلى وقفة وإلى توضيح، فالمصارحة مطلوبة دائما وفي كل الأوقات وخصوصا في فترة الأزمات، لكن السؤال هو: من يصارح من؟ وبماذا؟. فأزمة الخليج الثانية ليست هي السبب الوحيد أو حتى الرئيسى لما يعانيه الجسد العربي من علل وأمراض، ولم تكن أزمة الخليج في واقع الأمر سوى أزمة "كاشفة" لمدى ما وصلت إليه حالة المريض من تدهور ولحجم العلل والأمراض المزمنة التي ألمت به أو التي تسبب إهمالها لفترات طويلة في إضعاف قدرة النظام العربي على المقاومة، من هنا فإننا نعتقد أن مسئولية ما حدث للنظام العربي لا تقع على عاتق حاكم بعينه أو نظام بعينه وإنما تقع ليس فقط على كل النخبة الحاكمة وإنما أيضا على كل النخبة المثقفة والمفكرة في العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه، فالأزمة التي يمر بها النظام العربي هي أزمة مجتمعية شاملة وليست أزمة نظم حاكمة فقط، ومن هذا السياق فإننا نفهم الدعوة إلى المصارحة على أنها دعوة لنقد الذات موجهة إلى الحكام والمفكرين العرب على السواء لكن يتأملوا ماذا صنعوا بأمتهم ليس بهدف جلد الذات وإنما لاستخراج الدروس والعبر مما حدث بحثا عن طوق للنجاة.

أما مفهـوم "المصالحة" فنحن نرفضه أصلا لأنه ينطوي ضمنا على تصوير الحالة العربية الراهنة على أنها نوع من "الخصام" يكفي للخروج منها "مصالحة" بين الحكام العرب على طريقة "بوس اللحى"، وقد تصلح هذه الطريقة لحل المنازعات بين أشخاص أو عائلات أو قبائل لكنها لا تصلح أبدا وسيلة لإدارة العلاقات بين الدول، وقد يقول قائل إن الدول العربية ليست غريبة عن بعضها البعض وإنها تنتمي إلى أسرة واحدة، ومن ثم فقد يكون هذا الأسلوب هو الأنسب للتعامل من الحالة العربية، والواقع أن هذا النوع من التفكير هو بالضبط ما يتعين أن ننبذه ونتخلى عنه إلى الأبد. فالتاريخ العربي القريب والبعيد يؤكد أن المصالحات على طريقة "بؤس اللحى" لم تؤد إلى أي نتيجة فعالة أو دائمة، وكان تأثيرها مؤقتا ومرتبطا بحالة نفسية أو مزاجية سرعان ما تزول لتعود الأوضاع من جديد إلى ما كانت عليه قبل المصالحة وأسوأ.

في هذا السياق يجب أن نفهم "المصالحة" على أنها دعوة لوضع صيغة صحيحة قادرة على ضبط وتحقيق استمرار التفاعلات بين القوى والتيارات الحية والفعالة في العالم العربي وعلى النحو الذي يمكنها من التعبير عن مصالحها وأفكارها بحرية وإزالة ما قد ينشأ بينها من خلافات أو تصادم في الرؤى والمصالح. بعبارة أخرى فإن المطلوب باختصار شديد وبساطة متناهية هو إسقاط الحواجز المفروضة أمام التفاعل الحر بين التجمعات الشعبية العربية بكل فئاتها وتياراتها لكي تحدد هي حول أي شيء تختلف وحول أي شيء تتفق وتتحاور بهدف العثور على قواعد وأشكال وأطر مؤسسية مقبولة لحل هذه الخلافات في المستقبل. فذلك هو الضمان الوحيد لتجنب كارثة القطيعة أو "الخصام" في المستقبل.

العروبة والإسلام

درج الفكر العربي طوال نصف القرن الماضي على طرح عدد من المقولات صاغها في شكل ثنائيات تعين على العقل العربي أن يختار من بينها باعتبارها بدائل تقف على طرفي نقيض ولا تقبل التمازج أو التزاوج: القومية أو القطرية، العروبة أو الإسلام.. الخ. وفي هذا السياق بدت العروبة وكأنها مشروع مهدد دائما إما بالتفكك، تحت تأثير منطق الدولة والهويات المحلية، بالتجاوز والذوبان في إطار أوسع تحت تأثير منطق الدين الإسلامي الذي ينظر إلى كل المنتمين إليه على أنهم يشكلون أمة واحدة.

والواقع أن الرافضين للعروبة تحت ستار القطرية يتجاهلون عمدا حقيقة أن الأساس الذي قامت عليه الدولة في الوطن العربي هو أساس هش جدا وأنه يختلف اختلافا تاما عن الأساس الذي قامت عليه الدولة القومية في أوربا، وفى اعتقادنا أن تنامي الحركة القومية العربية في مرحلة ما بعد "استقلال" ، الأقطار العربية هو الذى أدى، إلى جانب عوامل أخرى، إلى تماسك هذه الأقطار ربما خوفا من الذوبان في هوية أكبر، ولذلك فالأرجح إذا ما قدر للحركة القومية العربية أن تندثر وللجامعة العربية أن تتفكك وتنهار، أن تعجز العديد من الدول العربية الحالية عن المحافظة على تماسكها الداخلي وتصبح مهددة بالانفجار من الداخل.

من ناحية أخرى فان الرافضين للعروبة تحت ستار الإسلام يتجاهلون عمدا حقيقة أن وحدة "الشعوب الإسلامية" أو وحدة " العالم الإسلامي" أو "الأمة الإسلامية" يستحيل أن تتجسد عملا إلا عبر وحدة "الشعوب العربية" أو "الوطن العربي" أو " الأمة العربية" لأن شعوب الدول العربية هي شعوب إسلامية بل هي التي حملت وحمت الدعوة الإسلامية، ولذلك فإن هدم الفكرة العربية يحيل الفكرة الإسلامية إلى حلم مستحيل، لأن المنطق يقول إنه إذا لم تتمكن الشعوب العربية الإسلامية من تحقيق وحدتها وتماسكها فكيف يمكن أن يكون باستطاعة الشعوب الإسلامية (عربية وغير عربية) أن تحقق وحدتها؟ وفي هذا السياق يتعين أن يكون هناك حد أدنى من العروبة من وجهة نظر المصالح القطرية نفسها للمحافظة على تماسك الدولة القطرية والحيلولة دون انهيارها، وأن يكون هناك حد أقصى من العروبة نفسها من وجهة نظر المصالح الحقيقية للعالم الإسلامي، لأنه إذا ما تحققت الوحدة العربية فعلا، تحت أي شعار، فلا بد أن تشكل هذه الوحدة أساسا استراتيجيا صلبا في اتجاه وحدة العالم الإسلامي، إن لم يكن على مستوى وحدة الصف فعلى الأقل على مستوى وحدة الهدف.

من هنا يتصور أن أي طريق للنهوض ولضمان التقدم المطرد وعدم النكوص يبدأ بوضع حد للصراع المفتعل بين الهويات من خلال بلورة صيغة فكرية تجسد العروبة في إطارها الصحيح ليس باعتبارها نهاية أو إلغاء للدولة أو للخصوصية النظرية أو بديلا لوحدة أو تضامن العالم الإسلامي وإنما باعتبارها صيغة لعمل مشترك هدفه الرقى الاجتماعي والحضاري للعرب والمسلمين قاطبة ودون أي مصادرة على خصوصيات شعوبهم التاريخية أو أي تقييد لحرياتهم وسيادتهم.

يرتبط بالإشكالية السابقة، في أحد جوانبها على الأقل، ما ثار من جدل حول ما إذا كانت الجامعة العربية هي منظمة إقليمية تضم دولا مستقلة ذات سيادة، ومن ثم فهدفها المستتر حينئذ لن يكون سوى تكريس التجزئة العربية، أم، أنها تجمع قومي هدفه النهائي وغايته القصوى هو تحقيق الوحدة العربية.

وفي تقديري أن هذا النوع من الجدل كان ولايزال جدلا عقيما وينطوي على خلط واضح، وغير منزه الهوى، دين الأوراق.

الجامعة العربية.. منظمة أم تجمع؟

لم تكن الجامعة العربية - بحكم ظروف نشأتها وما استقر عليه رأي الحكام العرب وتبلور في ميثاق - سوى منظمة إقليمية تقليدية تقوم على أساس السيادة والمساواة بين الدول الأعضاء وعدم جواز التدخل في الشئون الداخلية. وهذا الوضع لا يبرر على الإطلاق اعتبار أن الجامعة، بهذه الصورة، يمكن أن تكون عقبة في سبيل الوحدة أو تكريسا للتجزئة. لكن الهجوم الصاري الذي شته بعض فصائل التيار القومي المتطرف على الجامعة باعتبارها تكريسا للتجزئة لم يكن له ما يبرره على الإطلاق وأضر بالعمل العربي المشترك ضررا بليغا ولم يدفع بقضية الوحدة خطوة واحدة إلى الأمام.

وإذا كان التطرف "القومي " قد أسهم عملا في إضعاف جامعة الدول العربية تحت شعار محاولة تجاوزها نحو صيغة وحدوية أرقى، فإن التطرف "القطري" قد عمل على شلها تماما متعللا بالسيادة وعدم جواز التدخل في الشئون الداخلية. هذا الموقف ينطوي أيضا على خلط واضح، وغير منزه عن الهوى، للأوراق. فلا يجوز الاحتماء وراء هذه المبادئ المهمة" والضرورية جدا من مبادئ التنظيم الدولي للقضاء على التنظيم الدولي نفسه. فالسيادة لا يمكن أن تكون مطلقة ولا تخول للدولة العضو أن تفعل ما يحلو لها أو تحطيها حرية حركة كاملة في مواجهة المنظمة التي هي عضو فيها وإلا انتفى الغرض أساسا من قيام المنظمة.

والغريب أن الدول العربية الأعضاء في جامعة الدول العربية هي في ذات الوقت أعضاء في الأمم المتحدة. وقد استند ميثاق الأمم المتحدة أيضا إلى مبدأي السيادة والمساواة وعدم التدخل في الشئون الداخلية. لكن ذلك. لم يحل دون قيام جهاز بوليس دولي ممثل في مجلس الأمن يتمتع بسلطات وصلاحيات ضخمة وتلتزم جميع الدول الأعضاء بقراراته بل وتتمتع فيه بعض الدول الكبرى، دون غيرها، بالعضوية الدائمة وبحق الفيتو الذي يكفل لها القدرة على الحيلولة دون صدور القرارات التي لا ترغب فيها أو لا تحقق مصلحتها. فهل الأمم المتحدة هي منظمة قومية؟ ولماذا تقبل جميع الدول العربية كبيرها وصغيرها أن تنصاع إلى سلطة جهاز لا تملك فيه حتى مجرد القدرة على المشاركة الفعالة وترفض خلق جهاز قويما مماثل في إطار جامعة الدول العربية وتقبل الانصياع لقراراته؟

ليست القضية إذن ما إذا كانت جامعة الدول العربية هي منظمة قومية أم إقليمية، ولكن القضية الرئيسية هي: ما هي مساحة العمل العربي المشترك الذي تقبل الدول العربية أن يصبح من صلاحيات جامعة الدول العربية، وما هو شكل الأجهزة وأسلوب اتخاذ القرارات الذي يكفل لها الفاعلية لتحقيق الأهداف المشتركة؟ هذا هو ما يتعين أن يتجه إليه البحث أو التفكير.

طموحات الوحدة

تصاعدت على الساحة الفكرية العربية منذ سنوات دعوة تطالب، باسم الواعية السياسية، بالتخلي عن الطموحات الوحدوية أو الفيدرالية العربية وتركيز العمل العربي المشترك على القضايا الاقتصادية والفنية أي استخدام المنهج الوظيفي بدلا من المنهـج السياسي أو الفيدرالي في التعامل مع موضوع التكامل أو الوحدة أو الاندماج العربي. واعتبر هذا الاتجاه أن التركيز على الأبعاد السياسية أدى إلى تحميل الجامعة العربية بأكثر مما تطيق وبدد طاقتها التي كان يجب أن توجه أساسا إلى العمل الوحدوي الحقيقي وهو تحقيق التكامل في المجالات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية. كما رأى في التجربة الأوربية نموذجا يحتذى ويتعين الاقتداء به والسير على خطاه ضمانا للنجاح وتلافيا للفشل العربي المتكرر.

ومع أن الدعوة إلى تكثيف التعاون العربي في المجالات الاقتصادية والفنية وإلى التخلي عن المشروعات السياسية الوحدوية الطموح بأكثر مما يحتمل الواقع العربي تعتبر دعوة صحيحة في توجهها إجمالا، إلا أن الولع التقليدي للفكر العربي بالثنائيات أصابها في مقتل وحكم عليها مقدما بالتحجر. فقد تم تصوير الدعوة وكأن على العمل العربي المشترك أن يختار بين الاقتصاد أو السياسة فيما هذا وإما ذاك، وبين نموذج الجامعة العربية أو نموذج التجربة الأوربية: فإما هذه أو تلك. والواقع أن تصوير الأمر على هذا النحو يقطع الطريق أمام أي محاولة إبداعية للاستفادة من تجارب الآخرين وتطويعها على الواقع العربي كما أنه ينطوي على خلط للأوراق ينم عن سوء فهم.

عوامل الوحدة الأوربية

وفي مديري أن هناك عوامل ثلاثة توافرت وتضافرت لإنجاح تجربة التكامل الأوربي ولا يتوافر أي منها في الواقع العربي. وهذه العوامل هي:

العامل الأول: توافر ظروف خارجية ملائمة تماما لانطلاق تجربة التكامل في أوربا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية. فلأول مرة في تاريخ أوربا تواجه أوربا الغربية خطرا مشتركا هو الاتحاد السوفييتي الذي تحول إلى قوة عظمى بعد الحرب وهو ما أفسد تماما لعبة توازن القوى التقليدية في أوربا. وأصبح على أوربا الغربية كلها أن تعتمد في أمنها، ولأول مرة في تاريخها، على المظلة النووية الأمريكية. وهكذا حلت أوربا معضلة الأمن الجماعي في إطار حلف الأطلنطي. على صعيد آخر فإن الدعم الاقتصادي الهائل الذي قررت الولايات المتحدة تقديمه لأوربا من خلال مشروع مارشال اقتضى تنسيقا أوربيا مؤسسيا كان هو بداية التفكير العملي في خلق مؤسسات أوربية مشتركة قادرة على تحويل نمط العلاقات الأوربية من النمط الصراعي التقليدي إلى النمط التعاوني. هذا العامل الخارجي المواتي تماما لانطلاق العمل الأوربي المشترك لا يتوافر على الإطلاق ولم يتوافر في التجربة العربية. فقد كان العامل الخارجي سواء في النظام الدولي الثنائي القطبية أو حتى بعد انتهـاء الحرب الباردة هو عاملا معاكسا للوحدة العربية ولأي تكامل اقتصادي عربي حقيقي .

العامل الثاني: يتعلق بعبقرية اختيار القطاع الرائد في عملية التكامل الأوربية. فقد تم اختيار قطاع الفحم والصلب لكي يكون بمثابة القطاع الذي تبدأ به ويقود عملية التكامل. ويدل هذا الاختيار على عبقرية جون مونيه، العقل المبدع والمفكر وراء التجربة الأوربية، لأنه ساعد على حل معضلتين: الأولى سياسية - أمنية، والثانية فنية. ولأن قطاع الفحم والصلب هو الذي يشكل العمود الفقري للصناعة العسكرية فقد كان من شأن عزل هذا القطاع ووضعه تحت سلطة أوربية مشتركة حل معضلة المخاوف أو العقدة الفرنسية الأمنية حول احتمالات التسلح الألماني. ولأن هذا القطاع هو في الوقت نفسه قطاع مهم وضخم وترتبط له قطاعات أخرى كثيرة فقد كان من شأن نجاح التكامل الأوربي في هذا القطاع أن يغري بتوسيع ومد عملية التكامل إلى قطاعات أخرى تدريجيا.

والواقع أننا إذا حاولنا أن نطبق هذا المنهج حرفيا على الواقع العربي فإن القطاع الوحيد الذي يمكن أن تتوافر فيه نفس شروط النجاح التي تحققت للتجربة الأوربية هو قطاع البترول في العالم العربي. ومن الصعب جدا ولأسباب سياسية واضحة تماما؟ وضع هذا القطاع تحت سلطة عربية عليا مشتركة.

العامل الثالث: يتعلق بسمات وخصائص الشعوب ونظم الحكم في الدول الأوربية الغربية التي قررت بدء العملية التكاملية. صحيح أن ما يجمع بين الشعوب العربية من لغة وثقافة واحدة وتاريخ طويل مشترك أكبر وأقوى بكثير مما يربط الشعوب الأوربية التي تختلف ثقافاتها وأصولها العرقية وتاريخها ودخلت فيما بينها في حروف وصراعات طاحنة وطويلة وممتدة، إلا أن الدول الأوربية اشتركت معا في شيء كان له تأثير حاسم في نجاح العملية التكاملية، ألا وهو تماثل القيم بين النخب الحاكمة وآليات ومؤسسات صنع القرار المستندة إلى قواعد الديمقراطية. فقد أدى توافر هذا. العامل إلى ضبط إيقاع وحركة التجربة التكاملية في أوربا مع إيقاع وحركة القوى الاجتماعية الفاعلة داخل المجتمعات الأوربية. ولذلك فعندما كانت تظهر المشاكل والعقبات كان يتم حسمها من خلال أوسع مشاركة شعبية ممكنة وباللجوء إلى الاستفتاءات وبمشاركة الأجهزة الفنية والتمثيلية المختلفة على جميع المستويات الحكومية وغير الحكومية. وضمن هذا الأسلوب تتمتع الحركة التكاملية بأوسع تأييد نخبوي وجماهيري ممكن وبزخم قادر على التكيف مع مصالح أغلب الفئات.

والواقع أن أي علاقة تكاملية أو اندماجية بين الدول، حتى مع افتراض إمكان فصل الأبعاد السياسية عن الأبعاد الأخرى وقصر العملية التكاملية على الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية، تحتاج إلى تنظيم وشكل مؤسسي معقد. لذلك لم يكن مصادفة أن تتضمن التجربة الأوربية منذ البداية وحتى عندما كانت محصورة في نطاق "الجماعة الأوربية للفحم والصلب"، على مجلس وزاري ، ولجنة، وبرلمان ومحكمة عدل أوربية.. الخ.

ولذلك من الصعب جدا أن تنجح أي عملية للتكامل بين دول لا توجد بها أصلا مؤسسات داخلية فاعلة تقوم على فصل واضح بين السلطات وتتركز كل السلطات في يد شخص واحد أو نخبة حاكمة محدودة العدد. ففاقد الشيء لا يعطيه. وصانع القرار الذي لا يريد ولا يطيق أن يشاركه أحد من الداخل في عملية صنع القرار من الصعب عليه جدا أن يلزم نفسه بقواعد وأطر مؤسسية تعطي لنظرائه الآخرين في المنظمة حق المشاركة في صنع قرار يلتزم به.

في هذا السياق يصعب أن نتصور أن تتمكن الدول العربية عن العثور على أسلوب فعال يضمن عدم تأثر مشروعات التكامل الاقتصادي أو التعاون الثقافي والاجتماعي بالخلافات السياسية بين الزعماء العرب مادامت النظم السياسية العربية كما هي.

حد أدنى من العمل التكاملي

نخلص مما سبق إلى ما يلي:

1- أنه لا يوجد في الواقع أي تناقض حقيقي بين المصالح الوطنية على مستوى كل قطر عربي على حدة وبين المصالح القومية العليا. لكن ليس معنى ذلك أن مصالح الدول العربية تتطابق دائما وبالضرورة في كل وقت وفي جميع الظروف. فالتباين في المصالح بين الأقطار العربية المختلفة وارد جدا. المهم هو وجود آلية تضمن تطابق القرار المتخذ على المستوى القطري مع المصالح الوطنية العليا لهذا القطر ولا تعبر عن مصالح فئة أو جماعة محدودة أو شخص الحاكم. فإذا ما وجدت هذه الآلية يسهل بعد ذلك حصر طبيعة الخلافات أو الاختلافات في المصالح بين الدول العربية ومعالجتها.

2 - أن الواقع السياسي - الاجتماعي وقابلية وسهولة اختراق المجتمعات العربية يجعلان من العسير جدا فصل عملية التكامل الاقتصادي والاجتماعي عن المؤثرات السياسية. ومع تسليمنا بأن التركيز يجب أن يتجه في هذه المرحلة نحو تكثيف التعاون في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، إلا أن حماية الجهود التكاملية في هذه الميادين تتطلب توافر حد أدنى من التعاون السياسي بين الدول العربية وإرادة سياسية واضحة يتعين بلورتها في شكل التزامات محددة متبادلة.

3 - أن توافر الحد الأدنى اللازم من الحماية السياسية للعمل التكاملي في الميادين الاقتصادية والاجتماعية يستلزم أولا وقبل كل شيء الاتفاق على صيغة محددة للسلوك الخارجي لكل دولة عربية تضمن ألا يلحق هذا السلوك أي ضرر بالمصالح القومية العليا. ومن ثم فهناك حاجة ماسة لتعريف ماهية هذه المصالح وطبيعة وحدود السلوك الذي لا يشكل ضررا بهذه المصالح وكيفية وأسلوب تعبير الجامعة العربية عن كيفية الدفاع عنها.

4 - ليس من الضروري أن تكون أهداف العمل العربي المشترك طموحا جدا ولكن عندما تحدد هذه الأهداف بدقة فمن الضروري بمكان أن تحدد بدقة أكبر أساليب وآليات تحقيق هذه الأهداف.

ومع تسليمنا بأنه يستحيل نقل التجربة الأوربية إلى الواقع العربي إلا أنه يمكن الاستفادة من دروسها وابتكار صيغة تلائم الواقع العربي. وأهم دروس هذه التجربة أنه يستحيل ضمان فاعلية عملية التكامل دوق جهـاز تشريعي وجهاز تنفيذي وجهاز قضائي ومشاركة فعالة من جانب المنظمات غير الحكومية.

 

حسن نافعة

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات