تخطي الموانع الطريق الدولي السرى للمعلومات محمد الرميحي

تخطي الموانع الطريق الدولي السرى للمعلومات

حديث الشهر

خبران يبدوان للوهلة الأولى أن ليس بينهما رابط، إلا أن التدقيق فيهما يقدم للمراقب زادا للتفكير العميق في مناخ مفارقات العصر الذي نعيشه. الخبر الأول نصه غير المباشر يقول:

"هاجمت مجموعة من (المواطنين) منازل ومتاجر بل حتى مكاتب حكومية بالفئوس والمطاوي لتدمير أطباق هوائيات استقبال البث التلفزيوني عبر الأقمار الصناعية وهم يهتفون: (الموت للأقمار الصناعية)!! ومن المعروف أن بيع وحيازة واستعمال الأطباق الهوائية هي (جريمة) يعاقب عليها القانون لمدة عشرين عاما". انتهى الخبر الذي تناقلته وكالات الأنباء العالمية منذ أشهر عديدة.

أما الخبر الثاني فمكان وقوعه - وهنا لا بأس من تحديد المكان وتحديد مصدر الخبر- في بريطانيا، ومن جريدة (الصنداي تايمز) ذائعة الصيت، فقد قررت الصحيفة أن تختبر- كسلطة رابعة - السلطة الأولى (البرلمان)، فأوعزت لبعض محرريها أن يقدموا مالاً لبعض النواب من أجل أن يوجهوا أسئلة معينة في البرلمان!! وهكذا كان.. وافتضح الأمر.. ويبدو أن عملية الاستدراج تلك كان الهدف منها البرهنة على أن ثمة مرضا قاتلا يتغلغل في المؤسسة الديمقراطية العريقة يتيح لشركات وأفراد أن يدفعوا بمصالحهم - بواسطة المال - إلى الأمام!

الخبران أحدهما من العالم الثالث، لا يعتبر مشاهدة البرامج التلفزيونية المنقولة عبر الأقمار الصناعية مجرد جريمة بل إثما كبيرا، والآخر من العالم المتقدم. وما يجمع بين الخبرين هو سلطة الإعلام، أو ما يسميه البعض بالسلطة الرابعة. فهناك في العالم الثالث "مقاومة" حكومية أو شعبية أو ثقافية لانتشار الإعلام بحقه وباطله، إيجابياته وسلبياته، وهناك في العالم الأول سباق حول التطور الإعلامي واتساع نشاطه، وتمكينه من أداء الدور المطلوب منه.

إن قاعدة هذا التنافس ثنائية ومتعارضة في بعض الأوقات. الأولى هي أن من يملك زمام وسائل الإعلام أو وسائل الاتصال الأكثر شمولا واتساعا يملك السيطرة والسلطة والقوة والتأثير، لأنها ببساطة تحقق التأثير ولو على مدى طويل ولو بتدرج، إلا أنه تأثير في الرأي العام المحلي أو الدولي يقود في النهاية إلى عمل يقوم به الناس عن اقتناع، سواء كان هذا العمل محليا أو اجتماعيا أو سياسيا أو دوليا أو مدنيا أو عسكريا.

أما القاعدة الثانية فهي حرية تدفق المعلومات، وهي قاعدة سياسية وأخلاقية وإنسانية، لأن حق التمتع بحياة أفضل للإنسان مرتبط ارتباطا وثيقا بتوافر فرص الاطلاع على المعلومات وحق حرية تدفق المعلومات، إنك لا تستطيع أن يكون لديك مجتمع معاصر ومعافى دون حرية تدفق المعلومات في أرجائه.

معضلة المنح والمنع

إن الديمقراطية هي المصطلح الذي تسربت نتائجه في كل مكان بعد سقوط التجربة السوفييتية، والتي أخذت الشعوب تلتحق به - بأشكال مختلفة- الواحد بعد الآخر على أساس أنه الصيحة الجديدة للخلاص، ولكن الديمقراطية في جانب منها - كما يقول الخبير الصحفي الفرنسي دومنيك فيدال رئيس الجمعية الأوربية لتعليم الصحافة - ليست فقط صناديق الاقتراع، بل هي أيضا الحريات الصحفية.

إذن .. نحن أمام معضلة في العالم الثالث، فإلى أي حد يمكن أن "نمنع " هذا التدفق الإعلامي من الداخل والخارج، وإلى أي حد "نمنح " هذا التدفق مسارات للوصول إلينا؟.

أمام الثورة، بكل معنى الكلمة - وهي ليست كلمة جافة على أية حال كما سنرى لاحقا - أمام الثورة في وسائل الاتصال واستخداماتها المذهلة الآن ينبهر العقل، على الرغم من أن الخبراء يصرون على أن ما نراه منها هو مجرد مقدمة، أو مجرد الجزء الظاهر من جبل الجليد العائم في المحيط، ما خفي منه سيكون أعظم. أي أن ما هو آت في السنوات الأولى من القرن القادم سيكون أعظم وأكبر، أمام هذه الثورة الاتصالية، فإن معركة "المنع " معركة خاسرة منذ بدايتها لعدة أسباب أساسية: السبب الأول أن منع الاستقبال- التلفزيوني أو غيره- ممكن اليوم لأن أطباق الهوائيات بارزة ومشاهدة، ولكن خلال سنوات قلائل سوف يصبح بالإمكان المشاهدة بآلة التقاط أصغر من ذلك بكثير لا تتعدى حجم رغيف الخبز المتوسط! ويمكن أن يوضع في أي مكان داخل المنزل! فأمام السلطات في العالم "المانع " إما تفتيش كل المنازل أو التغاضي عن ذلك! أما السبب الثاني فإن تكاليف التشويش على الالتقاط هي الآن تكاليف فلكية لا تستطيع دولة أن تقوم بها إلا اذا كانت ذات قدرة مالية فائقة، وحتى لو تم ذلك فإن تأثيرها محدود. أما السبب الثالث وليس الأخير فهو أن الناس يحبون ما يُمنع عنهم قسرا، وهذا نزوع إنساني طبيعي.

لذلك فإن الدراسات المتوافرة تؤكد لنا أن الدول التي تمنع الالتقاط الدولي - ولنسمه بهذا الاسم الشامل - يميل معظم مواطنيها على الحدود لمشاهدة البث من محطات أخرى قريبة!! هذه بعض الأسباب وليست كلها، والمؤكد أننا أمام ثورة اتصال كاسحة لا يقف أمامها حاجز أو عثرة.

البعض يناقش - وليس لديّ اعتراض على فكرته - أن هناك برامج مستهجنة تبث من بعض المحطات، لسنا مجبرين على مشاهدتها، وهو قول حق، لكنه ليس مقصورا على العالم الثالث (المانع)، ولكنه يتردد في بعض دول العالم الأول (المانح).

وهي معضلة ليس لها دواء إلا الانفتاح وتقوية البناء العقلي والنفسي والروحي للمتلقي ليقيم هو عن طريق فهمه ما يريد وما لا يريد، حيث إن الأصل هو عدم فرض جماعة ذوقها أو رأيها أو حتى قيمها على الاخرين، ولا أرى طريقا غير ذلك.

البرامج المستهجنة أحد وجوه ثورة الاتصال الحديثة، سلبية نعم، ولكنها ليست الوجه الوحيد، فهناك وجوه أخرى حسنة، إلى درجة أن البعض يعتقد أن التلفزيون سوف يقود المعارضة .. حتى خارج البرلمان، وليس بالضرورة أن يكون هذا التلفزيون محليا، فيكفي أن تحصل على ترخيص في فلوريدا مثلا في الولايات المتحدة كي تبث عبر الأقمار الصناعية إلى المتحدثين بالإسبانية في أمريكا الجنوبية كل ما تريد. ويمكن بالمناسبة أن تبث بأية لغة تريد وإلى أي ركن من أركان العالم.

الطريق الدولي السريع

تحول التلفزيون اليوم إلى نوع من الراديو المرئي وأكثر أنواعه يبث خلال قنوات يصل عددها إلى العشرات، ويمكن أن يشاهد ويسمع في أي مكان من العالم، ويختار المشاهد القناة التي تعجبه، إن التطور الهائل الذي تشهده التكنولوجيا وعلم الإلكترونات، يصعب على الشخص المتوسط، في رأي، استيعابه، وعندما كنت أبحث في هذا الموضوع تعمدت ألا أقرأ في بعض تفاصيل هذه الثورة التقنية لأنها ببساطة فيما لو كتبت عنها لقال كثير من القراء إن كاتبنا يهذي!! فليس ذلك بحقيقة، وإنما مجرد خيال، ولكنه مع الأسف أو من حسن الحظ هو حقيقة لا يريد البعض منا أن يعترف بها الآن للنأي عن المشاكل والمنغصات!

لنأخذ مثلا واحدا فقط على ما أقوله، هو ما يعرف بشبكة الكمبيوتر الداخلية في الولايات المتحدة، وهي شبكة ليست مقصورة على أمريكا، ولكن كل من لديه جهاز كمبيوتر شخصي وخط تليفوني يمكن له أن يتصل بها ويدخل ضمنها! من المفارقات العجيبة أوالإيجابية أن ما يسمى الطريق العظيم للمعلومات، أو ما سميته أنا بالطريق الدولي السريع للمعلومات، بدأت فكرته قبل ثلاثين سنة. في الولايات المتحدة لأسباب أمنية - خوفا من أن حرباً نووية مفاجئة سوف تعطل الاتصال من بين أمور أخرى بين المراكز الحيوية والأمنية الأمريكية - صمموا شبكة كمبيوتر قادرة على الوصول إلى محطات طرفية بعيدة لتمكينهم من نقل المعلومات، وعندما بدىء في إنشاء مثل هذه الشبكة في عام 1969 تفرعت - وهنا مفارقة أخرى - لخدمة أغراض أخرى بسرعة، أحد هذه الأغراض سمي وقتها بالبريد الإلكتروني، وتطورت هذه الشبكة مع تطور أجهزة الكمبيوتر الصغيرة وبرامجها، حتى أصبحت ما يعرف اليوم بالشبكة الداخلية، وهي أكبر شبكة للمعلومات السريعة والخدمات المتنوعة، وقد استحوذت هذه الشبكة في أكثر من مرة على مانشيتات الصحف والأخبار الأولى للتلفزيون بسبب هذا الخبر أو ذاك، كان آخرها ما تناقلته وسائل الإعلام الأمريكية وقصته كالتالي:

قامت شركة صغيرة تعمل بالاستشارات القانونية - مكونة من زوج وزوجته - بوضع إعلان صغير في هذه الشبكة يقول إن الشركة على استعداد لاستخراج "بطاقة خضراء" (البطاقة التي تتيح للمهاجرين البقاء في الولايات المتحدة) على أساس دفع مبلغ من المال. هذا الإعلان الصغير أثار مشكلة دولية بدأت ولم تنته حتى الان، لأن هذه الشبكة الدولية كما أسلفنا تتصل بشبكات كمبيوتر أخرى في العالم، ويقدّر مستخدموها بحوالي خمسة وعشرين مليونا من أصحاب الكمبيوتر الشخصي، أي ليس أقل كثيرا من كل سكان كندا!

إشارة البطاقة الخضراء استدرجت رسائل استجابة من أطراف العالم المختلفة، أولا بالعشرات ثم بالمئات ثم بالالاف، مستخدمو الشبكة في استراليا أخذوا يرسلون ألف طلب معلومات عن الموضوع في اليوم الواحد! هذه الإشارات القادمة بعشرات الآلاف أثارت المستخدمين الأمريكيين، إلى درجة أن أحدهم هدد بأنه سيأتي إلى هذه الشركة "القانونية" ويحرقها عن بكرة أبيها! وبعد ثلاثة أيام قامت الشركة التي أشركت شركة الاستشارات القانونية في الشبكة بقطع الاتصال عنها، لكن بعد أن حصل صاحبا الشركة على مائة ألف دولار من الراغبين في الحصول على خدمات شركتهما.

هذه الشبكة التي تقدم الخدمات والإعلانات وفرص التسوق والتعارف ومواعيد الغرام، بجانب عشرات الخدمات الأخرى، تثور حولها مناقشة عارمة.. البعض يريد أن يوسعها ويحميها والبعض الآخر يريد أن (ينظمها) إلا أنها قبل وبعد ذلك كله حقيقة واقعة، وهي حقيقة مدهشة يستطيع المشترك فيها أن يحقق الكثير، وها هي ذي بعض الأمثلة:

في التحدث مع الآخرين: أساس الشبكة هو الحديث مع آخرين عن طريق الكمبيوتر خلال خط تليفوني، ومن ثم تستطيع أن تحصل على معلومات تريدها أو ترسل بريدا إلكترونيا للعاملين في مجالك على المستوى العالمي، حتى الآن هناك أكثر من مليونين ونصف مليون مستخدم كمبيوتر على اتصال ببعضهم عالميا من خلال هذه الشبكة، والرقم يتضاعف كل عام، الاتصالات للحديث فقط أو البريد أو تبادل المعلومات، إنه مكان صغير كبير يمكن أن نتبادل فيه المنافع ونلتقي بأصدقاء.

العمل: تستطيع الإدارة في أي عمل أن تتبادل المعلومات مع نظيراتها في نفس العمل في مواقع أخرى بعيدة، فإدارة لمصنع إنتاج في هونج كونج مثلا تستطيع أن تتصل بمكان المصنع في الفلبين أو أي مكان آخر تتوافر فيه أيد عاملة رخيصة عن طريق هذه الشبكة، كما يستطيع بعض العاملين أن يخفضوا الوقت ويزيدوا الإنتاج عن طريق العمل وهم في المنزل، بالنسبة للأعمال التي يمكن إنجازها في البيت.

التسوق: لا تحتاج إلى أن تركب سيارتك أو المواصلات العامة وتصحب أم العيال والأبناء للطواف بالمحلات، ففي الولايات المتحدة مثلا هناك قناة للتسوق تصل إلى 50 مليون منزل من خلال تلفزيون الكابل، المشتري يستطيع أن يختار السلعة ويقرأ حتى محتوياتها والتحذيرات الطبية عنها ثم يضعها- إلكترونيا- في سلة مشترياته.

اللعب: الترفيه المنزلي صناعة تتطور وبسرعة، ومن خلال الاتصال تستطيع أن تحدد الفيديو (الشريط) الذي تريد أن تراه والساعة المحددة لذلك من خلال كمبيوتر مركزي، وعبر الشبكة التي تعطيك الخيارات المتعددة مشفوعة بنصائح الخبراء في السينما وغيرها.

هذه بعض الاستخدامات المتوافرة حاليا ضمن شبكة المعلومات الدولية، وهي متوافرة في كثير من بلدان العالم بما فيها بعض البلدان العربية، فبعض شركات النفط العاملة في الخليج وكذلك بعض البنوك وشركات أخرى أصغر ومؤسسات خاصة في بلدان عربية عديدة مشتركة في هذه الشبكة، إضافة إلى بعض مؤسسات البحث العلمي والجامعات.

الثورة المعلوماتية ليست قادمة ولكنها موجودة اليوم معنا، ويجري تطويرها بسرعة في ثلاث مناطق دولية: في اليابان حيث تجرى التجارب على النظام الدولي الأول للاتصال، وفي أوربا حيث تتجه جهود دول العرب - العدد 30،- سبتمبر 1994 م + ! ص السوق الأوربية المشتركة ماليا وفنيا لتطوير نظام اتصال يحاول التفوق نظام الاتصال الذي بني في الولايات المتحدة وهي الطرف الثالث صئاعة تفود لحاهذا السباق.

اقتصادياته اقتصاديات نظام الإتصال الجديد

من الصعب أن نتصور الان كم كان مدهشا اختراع التليفون، وقليل هي التي تفود من الناس عرفوا- في الربع الأخيرمن القرن التاسع عشر- أن الاتصال بين الناس قد تغير بشكل جذري والى الأبد، الأمر الذي يعرفه معظم الناس اليوم. في سنة 1884 بعد ثماني سنوات من حصول الكسندر جراهام بل على براءة اختراع لآله تتيح له نقل الصوت من خلال سلك إلكتروني، كتبت إحدى صحف كاليفورنيا عن فلاح شاهد هذه الآلة الغريبة لأول مرة: دخل مكتب التليفون، وكتب بعض كلمات على ورقة ولفها ثم أدخلها عنوة في فوهة الآلة وضغط عليها بقلم رصاص وكسر بذلك صحن الذبذبات .. ثم جلس الرجل لانتظار الرد!! ولما لم يأت الرد شكا محتدا لعاملة المكتب، فلما يئست من الأمر أخرجت الورقة، فإذا مكتوب بها: ابعثوا لي سلسلة لربط القرد!! فسألته العاملة: أي قرد تعني؟ لكنها لم تحصل على إجابة، فكأنها حالة شاملة من الدهشة!! ربما تكون، هذه القصة مصطنعة لإظهار دهشة الناس وقتها من هذه الآلة العجيبة، ويبدو أن بعضنا- كمن يتظاهرون بالسكاكين والعصي ضد أطباق الالتقاط الهوائية - هم بموقع ذلك الفلاح الأمريكي. ما نعرفه الآن أن طريق المعلومات الدولي السريع في إحدى تسمياته يشير إليه المختصون بأنه طريق ما زال متربا وضيقا! وذلك يعني أن ما وصلنا إليه فقط هو البداية، إنها مرحلة العربات التي تجرها الخيول، فلم يعرف أحد بعد ماذا تعني السيارة!

اقتصاديات نظام الاتصال الجديد، هي التي تقود الاقتصاد اليوم، ففي كل عصر هناك مجموعة من (الصناعات) تقود الاقتصاد. قبل قرن كان الفحم والسكة الحديد هما ما قادا النمو في أوربا والولايات المتحدة على التوالي، بعد الحرب العالمية الثانية كانت (الموضة) هي التصنيع والصناعات التحويلية، ثم جاءت السبعينيات والثمانينيات بقطاع جديد سمي (قطاع الخدمات) كالخدمات الصحية والخدمات القانونية والتوزيع.. وغير ذلك..

هذا القطاع هو الذي حقق زيادة في فرص العمل للعاملين، وحقق أرباحا ضخمة للشركات، محرك الاقتصاد في التسعينيات ليس التصنيع ولا الخدمات إنما هو (صناعة الاتصال)، أجهزة الكمبيوتر وبرامجها حققت 38% من النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة سنة 1990.

اقتصاد صناعة الاتصال هو القطاع المتوسع والنامي سواء في خلق فرص للعمل أو في تحقيق الأرباح، إنه تصنيف وتوزيع المعلومات، من المعلومات المالية إلى الترفيهية، وهو اقتصاد منتعش، وتدخل صناعة الاتصال في معظم مجالات الإنتاج، فشركات كثيرة في كل القطاعات الإنتاجية تستخدم تقنية الاتصال الحديثة حتى تصبح أكثر قدرة على المنافسة.

باختصار.. فإن دور الاتصال الجديد يغير طبيعة الاقتصاد إلى غير رجعة، كما يقول كنث آرو من جامعة ستانفورد، وهو الحاصل على جائزة نوبل للاقتصاد.

قانون مور

التطور في اختراعات أسلاك توصيل الرسائل أو الألياف الضوئية "أوبتك فايبر"، والكمبيوتر وسرعة توصيلها ودقتها واتساع استخدامها في مجالات الحياة من العمليات الطبية إلى صناعات السيارات، تطور يغير المجتمع، وهذا التطور يخضع اليوم إلى ما يعرف ب " قانون مور Moor's Law"، والقائل بأن كثافة استيعاب الشرائح في الكمبيوتر تتضاعف سنويا! هذه القدرة الهائلة على التطور تضع الإنسان أمام إمكانات تبدو غير محدودة.

روسيا بدأت خطة لتحديث شبكة اتصالاتها عن طريق رصد 40 بليون دولار لهذا التحديث، والصين وضعت خطة بـ 100 بليون دولار لإضافة 80 مليون خط هاتفي إلى سنة 2000 (أربع مرات ما لديها اليوم). بلاد مثل تايلاند والمجر، ضمن بلاد أخرى، تستثمر بكثافة في اقتصاد الاتصال، في محاولة للقفز إلى الانتعاش الاقتصادي. اقتصاد الاتصال- أو سلعة الاتصال- ليست مثل السلع الأخرى، فبرامج الكمبيوتر والترفيه ونقل المعلومات يمكن أن تصدر ببساطة، كما أن العمل في هذا القطاع يدر دخلا أكبر، فأجور المبرمجين مثلا في الولايات المتحدة تزيد 12% على أجور العاملين في أعمال مشابهة. كانت صناعة الطائرات في الولايات المتحدة هي "سفينة القيادة" في أسبقيتها في عملية التصدير إلى الخارج، ولم تعد كذلك، فقد صدرت أمريكا من أجهزة المعلومات والكمبيوتر والبرامج في سنة 1993 ماقيمته 62 بليون دولار تقريبا، أي ضعف الـ 33 بليون دولار التي كانت حصيلة مبيعات الطائرات إلى الخارج ! فالتطور السريع، وإلى الأحسن، في شبكة الاتصالات الدولية سوف يجعل إرسال معلومات من قارة إلى أخرى في سهولة إرسالها من حجرة إلى أخرى في نفس الطابق، وبالتالي سيكون من السهل تصدير خدمات إعلامية وترفيهية بل وحتى خدمات قانونية ورعاية صحية وتعليمية، ففي الصيف الماضي - على سبيل المثال - تمكن أطباء في جنوب ولاية داكوتا - قليلة الكثافة السكانية - من استخدام شبكة اتصالات الولاية للاستفادة من استشارات طبية مباشرة من متخصصين يبعدون عنهم مئات الآلاف من الكيلومترات.

مثل هذه الخدمات يمكن أن تصل إلى أية بقعة في أي مكان من آسيا إلى أوربا أو أمريكا الجنوبية أو غيرهما.

عن طريق قنوات الاتصال السريعة هذه أصبح بإمكان بعض المستشفيات أن تقرر ما إذا كان بها علاج لهذا المريض أو ذاك من خلال الاطلاع على ملفه الطبي ودون أن ينتقل هو من مكانه! في معظم عقد الثمانينيات كان الاقتصاديون ينتابهم بعض الشك في فاعلية اقتصاد الاتصال، فحتى ذلك الوقت لم يجدوا أي تأثير إيجابي في العلاقة بين استخدام الكمبيوتر والإنتاجية، إلا أن نتائج دراسات أخيرة أثبتت العلاقة الإيجابية - دون شك - فكلما استثمر أكثر في الكمبيوتر ودرب الناس عليه تدريبا جيدا فإن العائد الاستثماري من نظم المعلومات يزيد على 50%، ومعظم هذه الفائدة ترد إلى المستهلك في صورة خدمات أفضل وأسعار أرخص.

تقول لنا شبكة الـ AT & T الأمريكية للتليفونات إن الناس لا يزالون يتحدثون مع بعضهم من خلال التليفون، ولكن نسبة (المعلومات) المارة (دون حديث) في شبكاتها الدولية، إما من خلال كمبيوتر إلى كمبيوتر، أو بالفاكس، تصل إلى 50% من الوقت، وتعلل مصادر إليه أو اختلاف اللغات.

العاملون في الاستثمار يعرفون جيدا أهمية الاستثمار في قطاع الاتصال، فهناك اختلاف جذري بين اقتصاد الاتصال وأشكال الاقتصاديات التي سبقته، ففي السابق كان (تطوير) التقنية في السكة الحديد أو مصانع السيارات أو مصانع صهر الحديد، كان هذا التطوير التقني يحتاج إلى مبالغ طائلة من رأس المال، أما الآن ولأن أسعار تصنيع الاتصال تقل بسرعة، فإن الشركات والمؤسسات تدفع مبالغ أقل للحصول على تقنية أسرع وأفضل تضاف إلى الإنتاج كما وكيفاً.

فشركات التليفونات يمكن أن تزيد من قدرتها الاستيعابية مثلا عن طريق تطوير إلكتروني في نهاية شبكاتها فقط، بمعنى أنها لا تستطيع أن تزيد من استيعابها دون اللجوء إلى عملية مكلفة بالحفر لكي تستبدل بالأسلاك القديمة أسلاكا جديدة!

أصداء اجتماعية

التقدم التقني الذي وصفت بعضا منه في السابق سوف يؤثر بالطبع على النسيج الاجتماعي لشعوب مختلفة، نوع هذا التأثير وعمقه سوف يختلف من بلد إلى آخر، وهناك مظاهر أولية يمكن رصدها بهذا الخصوص منها أن المدينة لن تعود - في إطار هذا التطور- مركزاً يسعى إليه الناس، فالقرى والريف يمكن أن تستوعب أماكن العمل الجديدة في الخدمات وغيرها، مع العيش في أحضان الريف البعيد عن التلوث والقيام بنفس العمل ما دام هناك خط تليفوني وكمبيوتر شخصي!

سوف تنشأ وظائف جديدة في اقتصاد الاتصال لم تكن معروفة من قبل، ضمنها البرامج، فشركات البرمجة اليوم هي التي تكسب الأموال الطائلة في الوقت الذي تبيع فيه قوة أفكار العاملين فيها لا غير، كما أن أنظمة التعليم سوف تطرق أبواباً جديدة لم تكن معروفة من قبل .. فوق ذلك كله لن يظل مجتمع صغير أو قرية نائية بمعزل عن العالم مهما قامت حكومات أو جماعات بمحاولة العزل هذه.

من المفارقات العجيبة في بلادنا العربية أننا نريد أن نستخدم هذا التطور في الاتصال لنقل وجهة نظرنا ورأينا- مهما كان رأي الآخرين- بينما نقيم الحواجز أو نريد إقامتها في طريق القادم!! وهي مفارقة تنضم إلى مجموعة المفارقات التي نعيشها.

كلمة أخيرة بشأن النمو الانفجاري في قضية المعلومات التي ألمحنا إلى بعضها، ولعلها تكون كلمة تحذير، فقطار الاتصالات السريع قد بدأ انطلاقه.. ولا عزاء للمتخلفين.

 

محمد الرميحي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات