حين انتهت الحرب العالمية الثالثة هيثم الكيلاني

حين انتهت الحرب العالمية الثالثة

لم يشهد التاريخ المعاصر انهيار دولة عظمى انهياراً ذاتياً مثل ما جرى لدى انهيار الاتحاد السوفييتي وتفككه إلى دول كثيرة مستقلة. ومن الطبيعي أن تكثر الاجتهادات المفسرة لأسباب هذا الانهيار، وتتنوع حسب كثرة المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية والتقانية وتنوعها.

كان أهم ما في المشروع الماركسي - اللينيني وعوده وأحلامه، خاصة ما يتعلق بتحول الكيان المجتمعي إلى كيان موحد متجانس، تغيب فيه الصراعات وتشبع الحاجات، وينتهي الاستلاب. وبذلك اجتذبت الماركسية أجيالا من المثقفين والسياسيين، والفقراء والمضطهدين. وارتبطت هذه الأجيال بالوعد بإمكان تغيير العالم، والانتصار على الرأسمالية الغربية، ونماذجها الليبرالية المتعددة. ولكن الفجوة بين الوعود والأحلام من جهة، وواقع الدولة والمجتمع السوفييتي من جهة أخرى، كانت تتسع باستمرار، مولدة إحساسا فاجعاً بتبدد الأحلام وضياع الوعود.

وإذا كانت شبكة العوامل التي أدت إلى انهيار الاتحاد السوفييتي تنطوي على عوامل وأسباب تمت بصلات إلى مختلف مجالات الحياة الإنسانية، مع اختلاف نوعية تلك الصلات وقوتها وتأثيرها، وكونها مباشرة وغير مباشرة، قريبة وبعيدة، سطحية وعميقة، ففي تصورنا أن الحقبة التي تلت الحرب العالمية الثانية، وانتهت في الأسبوع الأخير من العام 1991، جسدت نوعاً فريداً من "الصراع المسلح الصامت "، يمكن أن نسميه، مع بعض التجاوز "الحرب العالمية الثالثة"، وإن كان مصطلح "الحرب الباردة" هو الذي ساد وانتشر.

ولاشك في أن الاتحاد السوفييتي بلغ مرتبة من القوة أشعرت النظام الرأسمالي العالمي بأنه معرض لتهديد يمس صميم كيانه. وترتب على ذلك انقسام العالم إلى معسكرين متضادين. وكان العنف إحدى الوسائل المستخدمة في إطار استقطاب دولي حاد لسائر القوى المتاحة، وتركيز جد شديد على إطلاق تسابق في مجال التسلح النووي والفضائي وأسلحة الدمار الشامل. وعوضاً عن أن يكون النصر لمن يستخدم هذه الأسلحة ويدمر عدوه، على شاكلة ما انتهت إليه الحروب السابقة، فقد انعقد النصر لمن يسبق الخصم في مجال الإبداع والتطوير والإنتاج علمياً وتقانيا وصناعياً في تلك الأسلحة. ونظراً إلى أن قطبي النظامين الرأسمالي والشيوعي كانا على يقين بأن الحرب النووية التي قد تنشب بينهما لن تعني سوى الدمار المتبادل لكليهما معاً، فقد استعاضا عن الحرب النووية بنوع مستحدث من الصراع حمل عنوان "الحرب الباردة"، تلك الحرب التي خطط لها لتجسد حالة توتر دولي طويل الأمد، لا يبلغ حد استخدام الأسلحة النووية، أو المواجهة المسلحة المباشرة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. وحينما حدد رئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل عام 1946 هدف الحرب الباردة بالصراع ضد "الشيوعية العالمية التي تقودها روسيا السوفييتية"، بدأ مفهوم " الحرب الباردة " يسري في بنية العالم الرأسمالي، فظهر مضمون هذه الحرب في "مبدأ ترومان "، و"خطة مارشال "، ثم تجسد في مجموعة الأحلاف السياسية العسكرية، وفي إنشاء شبكة القواعد العسكرية في مختلف أنحاء العالم.

وقد رافق الحرب الباردة سباق في التسلح، وتهديد بالحرب النووية، وإشعال للحروب المحلية والإقليمية والأهلية في بلدان شتى، وبخاصة في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، حتى وصفت الحرب الباردة بأنها "سلام شبيه بالحرب " وأنها " حالة عدم الحرب "، وأنها " سلم محدود" و "سلم سلبي" تبدو فيها الحدود بين السلم والحرب غير واضحة. وعلى الرغم من أن الحرب الباردة قد احتوت في حدودها مظاهر الحرب النووية، ثابر المعسكران الرأسمالي والشيوعي على الاستعداد لمواجهة أسوأ الاحتمالات. وبذلك ظلت القوة العسكرية الدعامة الرئيسية التي استندت إليها واشنطن وموسكو لكي تحتلا مكانة القوتين العظميين على الساحة الدولية. وفي إطار نظرية الحرب الباردة وفكرها وممارساتها، نشطت الدراسات والبحوث الخاصة باحتمالات نشوب "الحرب العالمية الثالثة". وصدرت كتب كثيرة في هذا المجال، من أهمها الكتاب الذي أصدره الجنرال جوت هاكيت وستة جنرالات من ضباط حلف الأطلسي في العام 1970. وحينما حاول هؤلاء الضباط في كتابهم "الحرب العالمية الثالثة" أن يتخيلوا وقائع ما يسمى "حرب الفضاء"، والأشكال والأساليب والطرائق التي تجري بها تلك الحرب "المتخيّلة"، كان من الطبيعي أن يتحدثوا - تصوراً وتخيلاً أيضاً - عن " الحرب في الفضاء المحيط بالجو". ورأوا أن الولايات المتحدة تمكنت "بسرعة من التقدم على الاتحاد السوفييتي في المنافسة في المجالات الفضائية". وتصوروا الحرب في الفضاء على أنها "أشبه ما تكون بإجراء وإجراء مضاد، وكانت حصيلتها متوازنة". غير أنه لم يمض سوى عشرين عاماً على هذه النبوءة، حتى انهارت تلك "الحصيلة المتوازنة"، واختفى معها الاتحاد السوفييتي، بعد أن سقط في حلبة السباق الخاصة بحرب الفضاء وأسلحتها، سقوطاً كان السلاح فيه العلم والتقانة، وكان ميدانه خالياً من القتال وسفك الدماء.

الغاية والوسيلة

ولقد كان للحكمة القائلة إن الغاية تبرر الوسيلة معنى عملي في حروب ما قبل السلاح النووي. حتى إذا ظهر هذا السلاح تولد الخوف من تلك الحكمة، ذلك أن الوسيلة الجديدة للقتال ستكون وبالاً مدمراً للخصمين معاً. وبذلك أصبحت إرادة القتال "حتى لنهاية" كما في الحرب العالمية الأولى، وإرادة فرض الاستسلام دون قيد أو شرط " كما في الحرب العالمية الثانية، أموراً لا تتعامل معها الحرب النووية. وهكذا نشأ وضع استراتيجي جديد، من سماته أن يستطيع كل من الخصمين أن يردع الطرف الآخر عن المبادرة إلى الحرب، وأن يحاوره ويداوره بوسائل أخرى، غير السلاح النووي، وباستراتيجية غير مباشرة، حتى طوي الخصم أهدافه السياسية العسكرية في الصراع بين قطبي المعسكرين، أو ينهار معسكر الخصم، أو تتفكك بنيته السياسية الاقتصادية.

وهكذا أدى الردع المتبادل دوراً مهماً في الصبر والمصابرة، والمناورة والمداورة، واستطاع أن يقعد موسكو وواشنطن عن استخدام السلاح النووي. هذا ما أدى إلى إضعاف احتمالات الحرب الشاملة، وشجع على فتح أبواب أخرى للصدام، تنوعت وتعددت طوال حقبة الحرب الباردة، التي بدأت في إثر الحرب العالمية الثانية واستمرت في توترات وتصعيدات شتى حتى انهيار الاتحاد السوفييتي، القطب الثاني في الحرب الباردة.

والردع مجموعة من التدابير يتخذها أحد طرفي الصراع، وتهدف إلى إثناء الخصم عن خططه، بإقناعه بأنه سيخسر المعركة إن هو أقدم عليها، أو أن الهدف الذي يسعى إليه سيكلفه ثمناً يفوق بكثير قيمة الهدف نفسه. وعلى هذا يمكن إيجاز مفهوم الردع بمقصده العسكري بأنه إثناء العدو عن القيام بعمل عسكري، وبمقصده السياسي بأنه إثناء الخصم عن أن يقدم على عمل ما حتى لا يتعرض للعقاب.

يمكن القول إن الردع - بسلاحه النووي - أوقف الحرب الباردة عند عتبة معينة، فلم يمكنها من اجتياز تلك العتبة إلى "هوة الحرب الساخنة". نضيف إلى ذلك، أن نمو سلاح الردع الأمريكي وتطويره إلى حد الغلبة في السباق التسلحي الأمريكي - السوفييتي أديا، مع عوامل أخرى، إلى انهيار الاتحاد السوفييتي والقضاء على حلف وارسو.

وعلى أساس الردع المتبادل، نشأت نظرية إدارة الأزمات، التي تحركت في ممارساتها ضمن حدود مقبولة من المخاطرة، تؤدي إلى حل أزمة ناشبة دون بلوغ عتبة الحرب النووية. ذلك أن الأزمة - أية أزمة - في إطار الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي لم تكن تعني سوى درجة صاعدة في سلم الحرب، تختلط فيها احتمالات العنف باحتمالات الحل التفاوضي.

ولأن بعض أنواع الأزمات كانت تختزن في أسبابها ومحتواها وأهدافها احتمال تحويلها إلى صراع عسكري، نشأت نظرية إدارة الأزمات، وتأسست معها مراكز وآليات خاصة في بعض عواصم حلفي وارسو والأطلسي، تضع الخطط للإجراءات السياسية والاقتصادية والعسكرية التي يجب اتخاذها لمواجهة أزمة ما. ومع الردع المتبادل، وعلى خط مواز له، شهدت الاستراتيجية غير المباشرة عصر نموها وازدهارها وانتشارها. لقد أصبحت الاستراتيجية غير المباشرة الدواء الشافى من الحرب النووية. وإذ بلغ الردع المتبادل حدوداً قصوى، اشتدت الحاجة إلى تفادي استخدام الأسلحة النووية باستخدام الاستراتيجية غير المباشرة، التي لم تكن تعني - في عصر الردع النووي المتبادل - سوى العمل لتحقيق الهدف - بصورة أساسية - بوسائل غير وسيلة القتال المباشر. وليست الاستراتيجية غير المباشرة مفهوماً حديثاً، بل هي قديمة، إذا ما أخذت بمعنى الهجوم غير المباشر، واتباع الأساليب الملتوية، والطرائق غير المتوقعة. ولقد تطورت هذه الاستراتيجية في العصر النووي، حتى غدت بالغة التعقيد وشديدة الفعالية والتأثير وبخاصة في حقبة الحرب الباردة، حيث ضاق هامش حرية العمل، بسبب الانعكاسات التي يسببها تطور النزاعات المسلحة على الوضع الدولي. وعلى الرغم من ضيق هذا الهامش فقد نشبت حروب محدودة كثيرة. وهكذا أصبحت الاستراتيجية غير المباشرة فن استخدام هامش حرية العمل، وهو الهامش الذي أفلت من الردع النووي. وتبدو المهارة في ذلك الفن في الحفاظ على الهامش وتوسيع مداه، في مقابل تضييق الهامش الذي يتمتع به الخصم شيئاً فشيئاً حتى يفقده فينهار.

وهذا - بالضبط - ما فعلته الولايات المتحدة، حين استخدمت هامش حرية العمل في المجال العلمي / التقاني خير استخدام، وضيقت - في الوقت ذاته - الهامش نفسه الذي كان الاتحاد السوفييتي يتحرك فيه، حتى فقد الهامش السوفييتي أرضه وحدوده. ولقد تجسد ذلك كله في "مبادرة الدفاع الاستراتيجي - حرب الفضاء" الأمريكية.

مبادرة الدفاع الاستراتيجي

أعلن الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان في شهر مارس 1983، عزم الولايات المتحدة على إقامة درع إلكتروني، هدفه اعتراض وتدمير الصواريخ البالستيكية المعادية قبل أن تتمكن من بلوغ أهدافها. واعتبر الرئيس الأمريكي مشروعه هذا أسلوبا جديداً لدعم الأمن الوطني للشعب الأمريكي والشعوب الحليفة والصديقة. وأشار إلى أن الأبحاث الجادة والمعمقة والطويلة الأمد قد بدأت وفق برنامج شامل للبحث والتطوير يهدف إلى بلوغ الغرض النهائي من هذا المشروع، وهو إبطال مفعول الصواريخ البالستيكية النووية السوفييتية.

ويتمثل هيكل المشروع في إقامة نحو 50 محطة ليزر فضائية، منها 15 محطة تحلق فوق الاتحاد السوفييتي تحليقاً دائماً، لتلتقط ما قد يطلقه السوفييت من صواريخ، فتسرع محطات الليزر إلى تدميرها قبل أن تتمكن من بلوغ أهدافها. ولقد بني المشروع الأمريكي على أساس تدمير أكبر عدد من الصواريخ النووية المعادية خلال الدقائق الخمس التي تعقب إطلاقها من منصاتها، وقبل أن تتاح لها العودة إلى الغلاف الجوي الأرضي متجهة إلى أهدافها.

وخصصت الإدارة الأمريكية موازنة ضخمة تبلغ - عند إنجاز نشر الشبكات الدفاعية في الفضاء وتشغيلها - مئات المليارات من الدولارات.

وهكذا يبدو لنا اليوم أن المبدأ الذي وجه الإدارة الأمريكية في مغامرتها السلاحية التقانية هذه، ينبع في الأساس من الرغبة في التخلي عن استراتيجيتي "الرعب النووي "، و "الردع المتبادل " والاستعاضة عنهما باستراتيجية "السبق السلاحي التقاني " التي تهدف إلى إنهاك الخصم السوفييتي وإيصاله إلى حد الإفلاس العلمي والتقاني، ومن ثم الإنهاك الاقتصادي حتى يبلغ حد الاقتناع بالتخلي عن سياساته المعادية. وكان لدى الإدارة الأمريكية اقتناع بأن الاتحاد السوفييتي سيقبل التحدي، ولن يرضى باختلال التوازن الاستراتيجي بينه وبين الولايات المتحدة، وأنه سيعمل كل ما في طاقته إما لتعطيل تنفيذ المشروع أو اللحاق به، ومن ثم سبقه.

لقد بدا السلاح الرادع الأمريكي وكأنه سلاح مطلق. ففي حين تهدف الأسلحة النسبية إلى إحداث الخوف لدى الخصم، يهدف السلاح المطلق إلى إحداث الشلل التام. ذلك أن الشك بأن الخصم يملك سلاحاً مطلقاً، ينشر الشلل في صفوف القوات المسلحة، ويقعد القيادات السياسية عن التحرك ويصيبها بالعجز. وهكذا تنتهي الحرب دون معارك أو إراقة دماء.

ومنذ ذلك الحين، أخذت واشنطن وموسكو تتسابقان في ميدان اختراع سلاح وقائي فعال ضد الصاروخ حامل السلاح النووي، وبخاصة أن وسائل حمل السلاح قد تعددت، من صاروخ ينطلق من مكان محصن لا يتأثر بالضربة النووية المعادية، إلى صاروخ يشق عباب البحر من غواصة تمخر في الأعماق، إلى قاذفة مزودة بأجهزة لتفادي شبكات الرصد والرادار. وفي حين استطاعت الولايات المتحدة أن تخطط وتعمل لكي تنصب في الفضاء درعاً يقيها وحلفاءها من السلاح النووي السوفييتي، عجز الاتحاد السوفييتي عن منافسة خصمه الأمريكي، وظلت الأهداف العسكرية المدنية في الاتحاد السوفييتي ودول حلفاء وارسو مكشوفة أمام الهجمات النووية الأمريكية.

موسكو في المصيدة

ولم يكن أمام الاتحاد السوفييتي مناص من قبول التحدي الذي فرضته الخطة التي وضعتها الولايات المتحدة، وجوهرها جر الاتحاد السوفييتي إلى حلبة سباق التسلح النووي ووسائل الدفاع ضد الحرب النووية، حتى يضطر إلى تعديل سلم أولوياته، فيجعل سباق التسلح في المرتبة الأولى بدلاً من خطط البناء الاقتصادي الاجتماعي وبرامج التطوير الهادفة إلى تحقيق التلاؤم مع عصر الذرة والفضاء. وكانت الخطة الأمريكية تهدف إلى إيصال الاتحاد السوفييتي إلى مرحلة يضطر فيها إلى إعلان عجزه وهزيمته العلمية التقانية أمام الولايات المتحدة. وهذا ما يدفع الاتحاد السوفييتي إلى النزول من مرتبة دولة عظمى أولى إلى دولة كبيرة في النسق العالمي، كما يعرضه إلى احتمالات الضعف والتحلل. ولقد أخذ الاتحاد السوفييتي منذ أواسط السبعينيات يشعر بأهداف الخطة الأمريكية ورفعها وتأثر سباق التسلح، بغية إرهاق البنية الاقتصادية السوفييتية. حتى إذا أعلن الرئيس الأمريكي ريغان في العام 1983 "مبادرة الدفاع الاستراتيجي "، بعد أن رفض التوقيع على معاهدة "سالت- 2 "، بدأت علامات الإرهاق والاستنزاف تظهر على الاقتصاد السوفييتي، وبخاصة أن معدلات النمو الاقتصادي أخذت بالتقلص، وبالتأثير على قدرة موسكو على مواصلة سباق التسلح.

وعلى الرغم من ذلك، وحتى يحافظ الاتحاد السوفييتي على موقعه في المنافسة ضد الولايات المتحدة، وعلى مكانته كدولة عظمى تشكل القطب الند للقطب الأمريكي، أخذ يزيد إنفاقه العسكري بتصاعد مطرد، حتى بلغ حوالي 30% من إجمالي ناتجه القومي. وانهمك في سباق التسلح على أساس التصدي للمشروع الأمريكي، فناء بحمل الإنفاق العسكري الضخم ثم وقع تحت ثقله. فلقد استنزف مشروع السباق والمنافسة، الموارد المادية والمعنوية والعلمية للدولة السوفييتية، من خلال تعبئة الطاقات الصناعية والاقتصادية والعلمية والتقانية والعسكرية، وشحن روح الشعوب السوفييتية الجماعية بزخم الإبداع في تقانة السلاح المتطورة بأنساقها المختلفة.

ولقد أدى ذلك إلى القصور والتقصير في عدم قدرة الدولة على الإنفاق على البحث العلمي والتقاني في القطاعات غير العسكرية، وإلى ضعف العناية بالصناعات المتوسطة والغذائية والاستهلاكية لتلبية الحاجات الإنسانية للناس. وارتبط ذلك بغياب تصور للعلاقة بين هذه الحاجات وبين التطور التقاني المرتبط إشباع الحاجات الإنسانية المتجددة. كما ارتبط بالضغوط والقيود التي فرضها التصعيد والتوتر الدائمان اللذان لازما سباق التسلح في المجالات النووية والصواريخ والصواريخ المضادة ومحطات الفضاء وغير ذلك مما يتطلبه الدفاع ضد البرنامج النووي والفضائي الأمريكي.

وفي مطلع التسعينيات ظهر الاتحاد السوفييتي عاجزاً عن مواصلة توظيف عوامل قوته ومقومات بنيته كدولة في شئون حياة المجتمع السوفييتي اليومية. فتفاقمت الأزمات والمشكلات، وفي مقدمتها المشكلة الاقتصادية، ومشكلة القوميات، والصراعات السياسية والأيديولوجية، حتى برز شبح المجاعة دليلاً على بدء انهيار بنية الاقتصاد السوفييتي. وما أن حلت الأيام الأخيرة من العام 1991، حتى تفكك الاتحاد السوفييتي إلى دول كثيرة مستقلة، وزال كقوة عظمى، وتلاشى المعسكر الاشتراكي بسوقه الاقتصادية (الكوميكون) تنظيمه العسكري (حلف وارسو). وبذلك انتهت "الحرب العالمية الثالثة"، التي استخدم فيها سلاح الردع، والاستراتيجية غير المباشرة، القائمان على تقدم علمي تقاني حازته الولايات المتحدة فانتصرت، وعجز عنه الاتحاد السوفييتي فانهزم.

 

هيثم الكيلاني

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات