الكمبيوتر وسباق الذكاء بيهس فرعون

أبحاث الذكاء الاصطناعي هي تذكرة سفر العلماء إلى المستقبل، فهي تدخل الكمبيوتر في ذلك المجال الغامض الذي احتار العلماء كثيراً في فهم إمكاناته، أي الذكاء الإنساني. هل يستطيع الكمبيوتر أن يكتسب قبسا من هذا الذكاء؟.

لا يوجد تعريف محدد للذكاء الاصطناعي،لكن التعريف الشائع له هو أنه شعبة من شعب علوم الكمبيوتر، تبحث في طرق برمجة الكمبيوتر لإنجاز مهمات تحتاج إلى الذكاء البشري، فيما لو أنجزها الإنسان بنفسه، أو تبحث في طرق تقليد النشاط الفكري البشري بشكل عام. والسبب الرئيسي لعدم وجود تعريف محدد للذكاء الاصطناعي هو غموض مفهوم الذكاء، فقد حار فيه العلماء والفلاسفة منذ القدم، كما قامت دراسات وأبحاث اتعدو لاتحصى حوله، لكن لم يتمكن العلم حتى الآن من وضع تعريف واحد واضح ومتفق عليه للذكاء، أو تحديد كنهه وماهيته بالضبط.

لقد ظهر الذكاء الاصطناعي إلى الوجود نتيجة للثورة التي حدثت في نظريتي المعلومات والتحكم الآلي، في الخمسينيات من القرن الحالي وكانت الولايات المتحدة الأمريكية هي أول دولة شرعت في القيام بأبحاثه، أما اليوم فقد انتشرت أبحاث الذكاء الاصطناعي لتشمل عدداً من دول العالم، فضلاً عن الولايات المتحدة الأمريكية، مثل اليابان وبعض دول أوربا.

وترمي أبحاث الذكاء الاصطناعي إلى تحقيق هدفين رئيسيين. الأول هو الوصول إلى فهم أفضل وأعمق للذكاء الإنساني، عن طريق محاولة محاكاته، أما الهدف الثاني فهو الاستثمار الأفضل للكمبيوتر، واستغلال إمكاناته كافة، وقد ثبت أن تحقيق هذين الهدفين ليس بالسهولة التي تصورها الرواد الأوائل في حقل الذكاء الاصطناعي، غير أن العلماء لم ييأسوا، وقد بدأت بعض النتائج المشجعة تظهر فعلاً في الآونة الأخيرة.

الذكاء الاصطناعي وعناصره

الكمبيوتر هو جهاز قادر على إنجاز العمليات المطلوبة منه، باتباع تسلسل ما لخطوات معينة يسمى بالبرنامج، ولا يستطيع الكمبيوتر أن يحيد قيد شعرة عن البرنامج الموضوع له، أو أن يتصرف تصرفاً ذاتياً من تلقاء نفسه، لذا فهو غير قادر على أن يبدي أي نوع من أنواع الذكاء أو الإبداع، وقد حل العلماء جزءاً كبيراً من هذه المشكلة، إذ وجدوا أنهم لكي يستطيعوا محاكاة الذكاء البشري، يجب عليهم أن يبرمجوا بعض النشاطات الفكرية البشرية الأساسية التي يمكن أن تكون نواة لتطبيقات الذكاء الاصطناعي المختلفة، وهذا ما حدا بأغلب العلماء إلى أن يطلقوا اسم (عناصر الذكاء الاصطناعي الأساسية) على مجالات البحث التالية:

1 - البحث الموجه

يمكن تمثيل أي مشكلة يراد حلها بشجرة تبدأ بالجذع، الذي يعبر عن المشكلة الأساسية أو الحالة الابتدائية للمشكلة، ثم تتفرع المشكلة الأساسية إلى عدد من الحالات الجديدة الجزئية، كلما اتخذنا قراراً معيناً في اتجاه حل المشكلة، وتتشعب الحالات الجديدة بدورها إلى حالات أخرى لدى اتخاذ قرارات جديدة تماما، كما يتفرع جذع الشجرة إلى فروع، والفروع إلى أغصان، وهكذا دواليك حتى نصل إلى الحل أو إلى حالة لا يمكن التفرع منها إلى حالة أخرى. ويمكن أن يصل عدد هذه التفرعات في النهاية، في المشاكل المعقدة، إلى أعداد خيالية، فمثلاً في لعبة الشطرنج يوجد:

- 10120 أو واحد إلى يمينه 120 صفراً - تسلسلاً محتملاً لنقل أحجار اللعبة، ويحتاج الكمبيوتر إلى ساعات وأيام وربما سنين لكي يستطيع دراسة هذه الاحتمالات كلها، حتى يصل إلى الحل الأمثل للمشكلة، لذا تستخدم برامج الذكاء الاصطناعي ما يسمى بالقواعد التجريبية Rules Of thumb لتوجيه البحث عن الحل الأمثل للمشكلة إلى الوجهة الصحيحة، والوصول إليه بأقل وقت وأقصر طريق ممكن.

2 - تمثيل المعرفة

اكتشف باحثو الذكاء الاصطناعي أن السلوك الذكي للإنسان لا ينتج عن طرق الاستنتج التي يتبعها بقدر ما ينتج عن المعرفة والخبرة المختزنة في ذاكرته، إذ يكتسب الإنسان طيلة حياته كميات هائلة من المعرفة التي تختزن في ذاكرته، ليستعملها وقت الحاجة، لذلك فقد ابتكر عدداً من الطرق والتقنيات لتمثيل المعرفة وفق نماذج يفهمها الكمبيوتر، ليتسنى له الاستفادة منها واستخدامها استخداماً فعالا، يحاكي الذكاء البشري قدر الإمكان، ويعتبر تمثيل المعرفة في الوقت الحالي أحد أهم المجالات التي تجرى عليها أبحاث الذكاء الاصطناعي.

3 - الاستنتاج الحدثي والمنطق

الحدس Common Sense هو دروس وخبرات يتعلمها الإنسان في حياته اليومية، وتكون هذه الدروس والخبرات أساساً لنوع من الاستنتاج يدعى بالاستنتاج الحدلصي، يعتمد عليه الإنسان اعتمادا كبيراً في كل لحظة من حياته. فالاستنتاج الحدسي، مثلا، هو سبب إدراك الإنسان بأنه إذا رمى حجراً، فإنه سوف يسقط على الأرض، والاستنتاج الحدسي، أيضاً، هو ما يدفع الإنسان لأن يعي ما هي التصرفات الاجتماعية اللائقة التي يجب أن يسلكها في حياته اليومية، وما هي التصرفات المستهجنة أو الممنوعة، ورغم أن الاستنتاج الحدسي هو أبسط أنواع الاستنتاج وأدناها مرتبة، فإن محاكاته على أجهزة الكمبيوتر تعتبر من أصعب الأمور في العصر الحالي.

أما المنطق فهو يتناول طرق محاكاة الكمبيوتر للإنسان في استنتاجه لشيء معين بالاستناد إلى مجموعة حقائق أو مقدمات. ويستعمل المنطق في العديد من تطبيقات الذكاء الاصطناعي.

4 - لغات الذكاء الاصطناعي وأدواته

أوجد العلماء عدداً من لغات البرمجة الجديدة الخاصة بتطبيقات الذكاء الاصطناعي، من هذه اللغات نذكر لغة معالجة اللائحات List Processing Language، وتدعى اختصاراً Lisp وهي لغة الذكاء الاصطناعي الرئيسية في الولايات المتحدة الأمريكية. ونذكر أيضاً لغة البرمجة بالمنطق Programming In Logic أو اختصارا Prolog ، وهي لغة الذكاء الاصطناعي الشائعة في أوربا واليابان، وتمتاز مثل هذه اللغات الجديدة عن غيرها من لغات البرمجة الأخرى بأنها تتيح للمبرمج تسهيلات كبيرة في كتابة برامج الذكاء الاصطناعي.

تطبيقات الذكاء الاصطناعي الأساسية

للذكاء الاصطناعي العديد من التطبيقات المرتكزة على العناصر الأساسية الآنفة الذكر.ويعتبر الكثير من الباحثين أن تطبيقات الذكاء الاصطناعي الأساسية هي:

1 - معالجة اللغات الطبيعية

تهدف معالجة اللغات الطبيعية إلى تأمين التخاطب المباشر بين الإنسان والكمبيوتر، طباعة أو كلاماً، بلغة الإنسان الطبيعية، بدلاً من لغة البرمجة الجامدة والصعبة الفهم، ولاشك أن هذا يسهل على الإنسان العادي استثمار الكمبيوتر، ويزيل الحواجز القائمة بين أغلب الناس والكمبيوتر. وتستعمل تقنيات معالجة اللغات الطبيعية في العديد من المجالات، مثل نظم الاستفادة من بنوك المعلومات التي تختزن الموسوعات والكتب القيمة، ونظم الإجابة عن الاسئلة، ونظم فهم الكلام وتوليده، ونظم قراءة النصوص وفهمها، ونظم تأليف النصوص.

إن التخاطب بين الإنسان والكمبيوتر باستعمال لغة الإنسان الطبيعية هو عملية معقدة، يتداخل فيها العديد من العوامل، مثل الحدس والملاحظة والمعرفة والتفكير وغيرها، ومحاولة محاكاة هذه العوامل هي عملية معقدة للغاية، بل تكاد تكون مستحيلة، لذا استعيض عنها بتمثيل اللغة وفق نماذج للمعرفة وقواعد تجريبية يستطيع الكمبيوتر أن يتعامل معها. وتواجه أبحاث معالجة اللغات الطبيعية صعوبات عدة، فمثلاً للمفردات في أية لغة من لغات العالم عدد من المعاني، تختلف تبعاً لسياق وموضوع الكلام. وعادة لا يتنبه أغلب الناس إلى هذه الفروق في المعاني، لكن الكمبيوتر يشوش بها.

غير أن العلماء في الفترة الأخيرة أحرزوا تقدماً ملحوظا في مجال معالجة اللغات الطبيعية، بالرغم من الصعوبات التي تواجههم، إذ ابتكر الباحثون في جامعة ييل Yale في ولاية كونتيكوت الأمريكية نظاماً يمتلك القدرة على ترجمة الصحف الإسبانية إلى اللغة الإنجليزية، بأقل قدر من الأخطاء، وآخر يستطيع قراءة المقالات واستيعادها، ثم الإجابة عن أسئلة تتعلق بمضمونها.

2 - تزويد الكمبيوتر بالقدرة على الرؤية

يعتبر هذا التطبيق من أهم تطبيقات الذكاء الاصطناعي في الوقت الحاضر. وقد أجري الكثير من الأبحاث لتمكين الكمبيوتر من أن يرى ما حوله، ويحدد أماكن الأجسام التي يبحث عنها، وما إلى ذلك. وعلى الرغم من أن هذا المجال لا يزال في مراحل تطوره الأولى، فإن العديد من الأنظمة التي تستطيع أن ترى وتحلل ما تراه، قد ظهرت فعلاً في الأسواق التجارية، وبدأت تستخدم على نطاق واسع في الكثير من المجالات، مثل التطبيقات العسكرية، وأنظمة الرجال الآليين التي تستخدم في التصنيع، وأنظمة رسم الخرائط، وأنظمة ملاحقة الأجسام المتحركة، وأنظمة توجيه المكفوفين وضعاف البصر في أثناء مشيهم ومساعدتهم على القراءة وغيرها من المجالات التي لا تعد ولا تحصى.

3 - الأنظمة الخبرة

وهي أحدث وأهم تطبيق للذكاء الاصطناعي. والأنظمة الخبيرة هي برامج كمبيوتر تقلد الخبراء البشر في تعاملهم مع مشاكل تتعلق بمجال تخصصي معين، كتشخيص الأمراض وتصميم الدارات وصيانة الأجهزة الإلكترونية والميكانيكية والبحث عن الثروات الباطنية والاستشارات القانونية والمالية والتحليل الكيميائي، وغير ذلك. وتختزن هذه الأنظمة في ذاكرة الكمبيوتر خبرات ومعلومات عميقة وغزيرة في مجال التخصص المطلوب على شكل قواعد تجريبية، كالقاعدة التجريبية البسيطة (إذا كان المريض مصابا بارتفاع في درجة الحرارة وأوجاع وسيلان الأنف، فمن المحتمل أنه مصاب بالإنفلونزا)، لكي تستطيع محاكاة الخبراء البشر. ويمكن للأنظمة الخبيرة في أغلب الأحيان أن تحل محل الخبير البشري، لكن معظم الباحثين يتفقون على أن أفضل استثمار للأنظمة الخبيرة يكمن في مساعدة الخبير في عمله، وتذكيره بنواح معينة قد تكون غائبة عن ذهنه، وليس في استبدال العنصر البشري المختص بالأنظمة الخبيرة.

4 - حل المشاكل والتخطيط

بعض الباحثين يرون أن الذكاء الاصطناعي هو حلال للمشاكل بالدرجة الأولى، إذ تستخدم تقنيات حل المشاكل في أغلب تطبيقات الذكاء الاصطناعي، مثل برهان النظريات وأنظمة فهم اللغات الطبيعية وأنظمة تزويد الكمبيوتر بالقدرة على الرؤية والأنظمة الخبيرة.

إن أية مشكلة يمكن أن تصاغ على شكل السؤال التالي: بمعرفة الهدف المطلوب، كيف يمكن الوصول إليه؟ ويقوم نظام حل المشاكل بالبحث عن الطريق الأكثر فاعلية للوصول إلى الهدف. وعملية البحث هذه، واختيار تسلسل العمليات اللازمة للوصول إلى الهدف المطلوب، هي ما يسمى بالتخطيط. وتستخدم أنظمة التخطيط في العديد من المجالات، مثل أنظمة استنباط مخطط حركة الرجال الآليين اللازم لجعلها تقوم بمهمة نقل أجسام معينة من مكان إلى آخر.

تعليم الآلة

تمتاز الأنظمة الخبيرة بفوائدها العديدة - كما أسلفنا - لكن من مساوئها أنها جامدة، وغير قادرة على تحسين أدائها مع الزمن، بتعليم نفسها، وزيادة وتحديث معلوماتها، لذا تعتبر مشكلة ابتكار آلة قابلة للتعلم إحدى القضايا الأساسية التي يوليها الباحثون اهتمامهم المتزايد. وقد رجع العلماء إلى الدماغ البشري- معجزة الله سبحانه وتعالى الخالدة- في محاولة لفهم الطريقة التي يتعلم بها الإنسان، فظهرت عدة نظريات حول التعلم. إحدى هذه النظريات تقول إن التعلم هو عملية بناء شبكة من مفاهيم معينة في الذاكرة. وطبقاً لهذه النظرية فإن الدماغ هو شبكة متماسكة بالغة التعقيد، مؤلفة من عقد ووصلات متغيرة بصورة مستمرة. فعندما يمر الإنسان بتجربة جديدة، مثل رؤية حيوان غريب الشكل، فإنه يختزن في عقله معلومات تتعلق بشكل الحيوان ولونه ورائحته وطباعه، وترتبط هذه المعلومات مع ما هو مخزون مسبقاً في الدماغ من معلومات وذكريات، وهذه الشبكة المعقدة والغنية بالمعلومات هي ما يسمى بالحدس.

لقد واجهت العلماء في أثناء محاولاتهم لابتكار آلة قابلة للتعلم صعوبات كثيرة، مردها إلى عدم كفاية المعلومات المعروفة حتى الآن عن الدماغ البشري، فالدماغ البشري جهاز بالغ التعقيد، وما زال الكثير من جوانب عمله مجهولاً إلى الآن.

آفاق المستقبل

لا أحد يدري ما يخبئه لنا المستقبل من تطورات في حقل الذكاء الاصطناعي، لكن من المؤكد أن العلماء يعتبرون الذكاء الاصطناعي تذكرة إلى المستقبل، بدليل الآمال الكبار التي يعلقونها على الجيل الخامس للكمبيوتر.وتجرى حاليا أبحاث هذا الجيل من الكمبيوتر في مختبرات اليابان والولايات المتحدة الأمريكية وبعض دول أوربا.وسوف يزود كمبيوتر الجيل الخامس القادم بالذكاء الاصطناعي، وسيصبح بمقدوره أن يتخاطب مع الإنسان عن طريق لوحة المفاتيح أو الصور أو كتابة اليد أو حتى بالكلام بلغة الإنسان الطبيعية.كما أن أي شخص سوف يستطيع استعماله مهما كانت معرفته بالبرمجة ضئيلة، لأن الكمبيوتر سوف يسأله عن رغبته ويفهم طلبه ويجيبه إليه.

ومهما يكن الأمل، فمما لاشك فيه أن الذكاء الاصطناعي لا يزال في بداياته، وأن العقبات التي تعترض تقدمه لا يمكن أن تذلل إلا بعد الاستيعاب الكامل للدماغ البشري، وكشف ما أمكن من أسراره بإذن الله سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق صدق الله العظيم.