إلى أن نلتقي

إلى أن نلتقي

فقدت حلماً جميلاً

أحببت اليمن منذ الزيارة الأولى لشمال البلاد عام 1987، والثانية للجنوب عام 1988 ثم توالت زياراتي بعد أن قامت الوحدة بحيث لم أعد أذكر عددها لكن حبي لليمن كان يتعمق. أنشأت صداقات حقيقية مع مثقفيه شعراء وروائيين ومؤرخين وعلماء اجتماع وفلاسفة ومحققي تراث نساءً ورجالاً، فتحوا لي بحب أبوابه الداخلية، وقادوني إلى عمق تاريخه الثري فنما لدي شعور أن هؤلاء المثقفين مظلومون، فلم تسلط عليهم الكتابات السيارة أضواءها على الرغم من مواهبهم، ولم يبرز من بينهم نجوم فضائيات، وعلى الرغم من غزارة ما ينتجون لم تقدمهم هذه الفضائيات للعالم العربي الواسع الذي عزلهم لأسباب معقدة بدءا من عزلة اليمن لقرون في ظلم نظام الإمامة البالي.

وعلى الرغم من أنني فقدت أحد أعز أصدقائي وهو «جارالله عمر» الأمين المساعد للحزب الاشتراكي الذي قتله متطرفون دينيون غيلة أثناء إلقائه خطابا سياسيا كان يدعو فيه للمصالحة بين التيارات المختلفة من أجل مشروع للنهوض الوطني، وربما قتلوه لأنه كان يبذل جهداً لبناء تحالف واسع يضم القوى الرئيسية في البلاد لإنجاز هذه المهمة، وعلى الرغم من ذلك ازداد حبي لليمن وأهله وارتباطي بهم.

كان قتل جارالله عمر عام 2002 فاتحة شؤم على اليمن وأهله وحتى على هؤلاء المتطرفين الذين لم يستمعوا لصوت العقل الذي أعلى جارالله من شأنه.

ولم تمض إلا سنوات قليلة حتى اندلعت الصراعات ذات الطابع الديني بين الحكم والحوثيين وبدا الأمر كأنما يواجه السنّةُ الشيعةَ، لأن الحوثيين شيعة وأخذت المعارك تتفاقم كل يوم حتى وصفت الأمم المتحدة الوضع بالكارثي، إذ تشرد عشرات الآلاف من سكان مناطق القتال في صعدة وعمران وأصبح البلد عرضة للتفكك، وهو البلد الذي يتسم شعبه بالتسامح ورحابة الأفق التي تغذيها ثقافة أصيلة ضاربة في عمق تاريخه الذي لم يعرف إلى الآن حروباً مذهبية أو دينية داخلية منذ دخول الإسلام إليه، وإن كان قد عرف أشكالاً مختلفة للاغتيال السياسي فإن الدين لم يكن أحد أسبابها حتى وقع اغتيال «جارالله» ثم اندلاع المعارك بين الحكم والحوثيين.

ولم يكن اغتيال جارالله بالنسبة إلي مجرد فقد صديق حميم على المستويين الشخصي والسياسي بل حال أيضا بيني وبين زيارة اليمن الذي أحببت ناسه وفتنتني عمارته الفريدة في الشمال والتي حملت حتى أفقر البيوت طابعها الجمالي الخاص بالمعشقات والمقرنصات ذات الألوان البهية وذلك اللون الأزرق السماوي المميز لأبواب الدكاكين. وأسواق الفضة القديمة التي لا شبيه لها في أي بلد آخر زرته.

كان المتطرفون قد وضعوني مع «مارسيل خليفة» على قائمة المستهدفين بالقتل بادعاء أننا من «المرتدين» من وجهة نظرهم، أنا لأنني أدنت جريمتهم الشنعاء بقتل سياسي ومفكر طالما لعب دوراً محورياً في السياسة اليمنية، ومارسيل خليفة لأنه غنى قصيدة محمود درويش «أنا يوسف يا أبي» التي عبّر فيها عن غضبنا جميعاً من لامبالاة العرب إزاء محنة الفلسطينيين.

وهكذا فقدت حلماً جميلاً.

 

 

 

فريدة النقاش