جمال العربية.. وجوهُ الأصدقاء في مرايا عبد العزيز المقالح

جمال العربية.. وجوهُ الأصدقاء في مرايا عبد العزيز المقالح

في ديوانه «كتاب الأصدقاء» يقدم الشاعر اليمني الكبير عبدالعزيز المقالح صفحات إبداعية من طراز فريد، وهو يرسم بالكلمات الشعرية لوحات حوت رؤية فذة لسبعة وسبعين من أصدقائه: الشعراء والنقاد والروائيين قدامى ومحدثين -، كل لوحة تضيء في نصفها الأول رؤية المقالح، وفي نصفها الثاني استدعاء لبعض ما أبدعه الصديق، موضوع اللوحة.

وهو يقدم لديوانه المتفرّد بسطور لأوكتافيو باث من كتابه «اللهب المزدوج» عن الحب والصداقة، يقول فيها إن الصداقة لا تولد من النظرة كالحب، بل من شعور أكثر تعقيداً: التشابه في الأفكار والمشاعر والميول، كما يقدم لديوانه أيضاً بأبيات أبي تمام الذائعة التي يقول فيها:

إن يُكْد مُطّرف الإخاء، فإننا
نغدو ونسري في إخاء تالدِ
أو يختلف ماء الوصال، فماؤنا
عذبٌ، تحدّر من غمامٍ واحدِ
أو يفترقْ نسبٌ يؤلف بيننا
أدبٌ أقمناهُ مقام الوالدِ

والذين أتيح لهم أن يعرفوا المقالح عن كثب، يدركون حجم امتلائه الإنساني بالحب والصداقة، كما يعرفون سعة عالمه الجميل للعديد من الوجوه والكتابات والمواقف والرؤى، تنبجس عنها نفسه الثرية ووجدانه الخصب ووعيه الشديد القدرة على التجاوز، وحساسيته لكل ما هو أصيل وجديد معاً، أو فلنقل أصيل متجدد، ومنفتح على الكون كله في معناه الأشمل. من هنا، كان قراء هذا الديوان على حق وهم يرون في اختيار سبعة وسبعين وجهاً أو صديقاً في زمن تسوده الجهامة، وتتصف علاقاته بالهشاشة والانقطاع، ويلجأ فيه الكثيرون إلى كهوفهم المعتمة منسحبين لائذين يرون في هذا الاختيار دلالة على الصدر السمح، والقلب الرحب، والكيان الإنساني المسكون بالمحبة والغفران معاً.

نحن هنا مع شاعر استوعب موروث البيئة اليمنية، بزخمها وتنوّعها، ووجهها البدويّ والحضريّ، وعناق القديم والجديد في كلّ زواياها، وفلسفة رجل الصحراء العميق التأمل في صمت، النافذ النظرة في إطراق، المستوعب لكل ما حوله من مستحدثات مَنْ يظنون أنهم أكثر مهارة وشطارة، لكنهم يظلّون دون أفقه العالي، وبصيرته التي تفرز وتميز.

نحن في هذا الديوان، مع المقالح: الشاعر الرسام المصوّر، تكفيه ضربات قليلة بطرف ريشته حتى يتحقق المعنى، وتتكشّف الرؤية. لا فضول ولا ذيول ولا استطراد. وإنما هي اللمسة التي تنقل شخصيته بكينونتها وحيويتها واصطخابها إلى الورق، في كلمات تتوهج بحنوّ الاقتراب والتناول، ومحبة من يعفّ عن لمس النتوءات الواخزة. مؤثراً مناطق الصفو والرضا والجمال، ومساحات اللقاء التي مهما صغُرت فهي لا تُفرّق، وإنما تُعزّز وتُقوّي، وتبني جسور مودات، وتُثمر عناقيد محبات.

ترى، ما الذي جعل المقالح، في وقت بذاته، يفتح مخزون الذاكرة، ويُقلّب صفحات الواقع واليوميّ، ويجمع بين الغياب والحضور، ليعيش لحظاتٍ مكتنزة ومتخمة، حصادها هذه اللوحات البديعة، وهذه الإضافة الحقيقية لمنجزه الشعريّ والإبداعي، وهو منجز جعل من صاحبه صوت اليمن في الحاضر الشعري العربي، وشيخ قبيلة الشعراء في أرض بلقيس، والعباءة الروحية التي أوى إليها كثيرون، يستظلّون ويحتمون، وعندما تنمو لهم أنيابٌ وأظافر، يتفرقون في شعاب الأرض، بعد أن نهلوا وعلّوا، وشربوا وطعموا، وقرأوا وتعلّموا، ولايزال شيخ القبيلة في مكانه وفي سَمْته، لا يردُّ قاصداً، ولا يتعالى على أحد، شأن الكبار الحقيقيين الذين يصبحون مثله رموزاً.

يبدأ المقالح من المتنبي أمير شعراء العربية في كلِّ زمان ومكان وهل بغيره تبدأ رحلة الحب والصداقة؟ والمتنبي في مرآة المقالح:

شاعرٌ،
أم نبيٌّ تُحاوره الجِنُّ؟
تأوي إليه العواصفُ
تأكل من زادهِ
تشرب النارُ من مقلتيْه المُعذَّبتيْنِ
وتحنو على قلبهِ
صادق في هوى نفْسِه
والبكاء على الحُلُمِ العربيِّ
الذي كانَ
لا شيء أبهى من الشعر
والانخطاف
بأفْق القصيدةِ
يُحزنهُ أن يرى
أمَّة الضاد تضوي
وأطرافها تتناقصُ
«يا أمةً ضحكتْ..
و«الأرانبُ» تمرح خلْف القصورْ

ثم يختار المقالح للنصف الثاني من لوحته الشعرية عن المتنبي مقطعاً من قصيدته البكائية:

مالنا كلَّنا جَوٍ يا رسولُ
أنا أهوى، وقلبُكَ المتبولُ
كلّما عاد من بعثتُ إليها
غار مني، وخان فيما يقولُ
أفسدتْ بيننا الأماناتِ عيْنا
ها، وخانت قُلوبهنَّ العقولُ
تشتكي ما اشتكيتُ من ألم الشوْ
قِ إليها، والشوق حيث النُّحولُ!

عُبوراً بشوقي شاعر العصر الحديث، والمقالح عاكفٌ يفتنُّ في لوحته عنه، لتصبح بدورها لؤلؤة بديعة من لآلئه، وهو يقول:

بين عينيْه،
جسرٌ من اللؤلؤ القمريِّ
وضوءٌ يطوفُ بأكواب سيدة الكلماتِ
إذا ما غفا أورق الحُلْمُ
شادت غوايتُه زمناً وقبابا
وأيقظتِ الميِّتينَ
لمجنون ليلى مقاصيرُ مشمسةٌ
في قصائده
ولقمبيزَ والآخرينَ
مصابيح من ذهبٍ ونَدامَى
اخرجوا أيها النائمونَ
اخلعوا الموت عن جسد الأمسِ
بالشعرِ،
لا شيءَ يفصلُ
ما بين أيامكم
والزمانِ الجديدِ
سوى قشرة من غمامِ البدنْ

ولا تنتهي لوحة المقالح حتى يُزيّنها بمقطع من إحدى غنائيات شوقي، فياضة اللوعة والحنين، يقول فيها:

هل تيّم البانُ فُؤادَ الحمامْ
فناح، فاستبكى جُفونَ الغمامْ
أم شفَّه ما شفَّني، فانثنى
مُبلبل البال، شريدَ المنامْ
يهزُّهُ الأيْكُ إلى إِلْفهِ
هزًّ الفِراش المدْنفَ المستهام
وتوقدُ الذكرى بأحشائهِ
جمْراً من الشوق شديد الضرامْ
كذلك العاشقُ، عند الدجى
يا لَلهوى، مما يثيرُ الظلام!

هذا المزْج الشعري الجامع بين دَفْقة الشاعر وبوْح الصديق الذي يقتنص الشاعر ملامحه وسمْته، هو سرّ الكيمياء التي تتوهّج بها اللوحة الشعرية التصويرية في قِسميْها، توهجاً اعتبره البعض تداخلاً للنصوص أو تناصَّا (الشاعر محمد علي شمس الدين)، وآخرون نظروا إليه في ضوء رؤيتهم لشعر المقالح في مجموعه وتكامله، باعتباره إنطاقاً للصامت ومجيئاً بالحيّ، بالمعيش والمقموع إلى الكتابة (د.يمنى العيد)، ومهما كان التفسير والتأويل، لما صنعه المقالح في «كتاب الأصدقاء»، يظلُّ في جوهره استنطاقاً لخلاصة نادرة من القيم والعلاقات والإشارات، يحتاج استخلاصها من أوشاب الحياة وأوضارها إلى جهد جهيد وصبر طويل، ومن ثمَّ يسلكها في سلك واحد، ينتظم بهاء الصفوة في الموروث الإنساني بماضيه وحاضره، هؤلاء الذين يبدعون الحرف ويصنعون التاريخ ويكسبون الحياة معناها الحقيقي.

وصولاً إلى صلاح عبدالصبور في مرآة المقالح:

لم يكن شاعراً
بل ملاكا يطيرُ بأجنحة الشعرِ
كيفَ؟
ومن أين تدخل آفاقَهُ الكلماتُ؟
وماذا ستُمسكُ من ضوئهِ،
فنِّه، أم بساطتهِ
حُبِّهِ الناس في شوقهم
وبساطتهم؟
يا صديقي:
لماذا تعجَّلْتَ موتَكَ
واخترْتَ أن تشربَ الكأسَ
منفرداً؟
أنتَ من كان يُؤثرُ أصحابَهُ
ويقاسمهم في الموّدةِ
ورْدَ الحياة!

وفي الشطر الثاني من اللوحة ينطلق صوتُ «الصديق»، إنه الشاعر صلاح عبدالصبور وهو يقول:

«أصحو أحياناً لا أدري لي اسْماً
أو وطناً أو أهلا،
أتمهّلُ في باب الحجرةِ
حتى يُدركني وجداني
فيثيبَ إليَّ بداهةَ عرفاني
مُتمهّلةً في رأسي
تهوي في أطرافي ثقلا
تُلقى مرساها في قلبي
هذا يوم مكرورٌ من أيامي
يوم مكرور من أيام العالمِ
تُلقيني فيه أبوابٌ في أبواب
ويُغلّلني عرقي ثوباً نسجْتهُ الشمسُ
الملتهبة
ثوباً من إعياءٍ وعذابْ
وأعود إلى بيتي مقهوراً
لا أدري لي اسماً،
أو وطناً، أو أهلا!»

وصولاً إلى محمود درويش، الشاعر الذي أصبح رمزاً، وشعرُه بديلاً لوطن، نراه على هذه الصورة في مرآة المقالح وهو يقول عنه:

كان شيخي
وكنت أحاولُ قبل اللقاء الأليفِ
بأشعارهِ
أن أهاجرَ من لغةٍ
جفَّف الوزنُ أمطارَها
فانتهتْ عنده لذة العشقِ
للكلماتِ
تفشَّى الصراخُ الصهيلُ،
ولكنّه جاءَ
يغسلُ بالوزن آذاننا
والحواسَّ
حقولُ سكينتنا انتعشتْ
وارتوتْ قارة الشعرِ
وانطلق الصوتُ
من نقطة البدء (إني أُحبُّكِ)
حتى صهيل (الحصانْ).

ثم تلفحنا كلمات محمود درويش بعد أن أوقد المقالح نيرانه، وأشعاره بصولجانه الشعري، ورتَّل أوراده. يقول درويش:

مرَّ القطار سريعاً
كنتُ أنتظرُ
على الرصيف قطاراً مرَّ،
وانصرف المسافرونَ إلى أيامهم
وأنا مازلتُ أنتظرُ
تبكي الكمنجاتُ عن بُعدٍ
فتحملني سحابةٌ
من نواحيها
وتنكسرُ!

***

كان الحنينُ إلى أشياءَ
غامضةٍ
ينأى، ويدنو
فلا النسيانُ
يُبعدني
ولا التذكُّر يُدنيني من امرأةٍ
إن مسّها قمرٌ
صاحت: أنا القمرُ!

***

أخرج من كتاب الأصدقاء ولوحاته الشعرية التي أبدعها عبدالعزيز المقالح، وأتلفت حولي إلى وزارات ثقافة، ومؤسسات عربية أقامها رجال المال العرب، من أجل الشعر والشعراء، ومنْح الجوائز لمن ترى اللجان المعنية تكريمهم. أتلفَّت شرقاً وغرباً، وشمالاً وجنوباً، فلا أجد ذكراً لاسْم عبدالعزيز المقالح في سيْل الجوائز المنهمر، الذي أصبح يتلقَّفه من بين الشعراء من ليسوا بشعراء. وأقول لنفسي: حسْبُه جائزة أصدقائه ومُحبّيه، والألوف المؤلّفة من قرائه وعارفي شعره. هؤلاء أكبر من كلِّ الجوائز، وأبقى من كلّ العابرين في الوزارات والمؤسسات.

 

 

فاروق شوشة