المتنبي ليس شاعرا راشد المبارك

المتنبي ليس شاعرا

"وقفة بين كتابين"

نال المتنبي شهرة لم ينلها سواه على مدى قرون. والبحث هنا عن سبب هذه الشهرة في امتدادها الزمني والمكاني .. أهو مصادفة أم قدرة الذات؟، وكيف يمكن الوصول إلى معرفة النبوغ الذي بلغ به إلى مكانته؟.

لم يقصد بهذا العنوان وما سيندرج تحته من حديث الاستثارة لما يبدو فيه من مخالفة لما ألف كثير من الناس أو عرف، ولا الاستنفار للدفاع عن حرم أحل أو مقدس وضع موضع النقد أو التجريح. كما أن كاتبه لا يرضى لنفسه أن ينحدر إلى نوع من فجاجة يمليها مرض حب الظهور للذات بطلب المبارزة، ولكن ذلك كله لا يجيز عنده أن يكف نفسه عن التعبير عن فهم ظهر له، أو رأي تراءى له حقيقة، أو منطويا على قدر منها.

على أن إغفال مشاعر الانفعال والاستنفار- أو الاستغراب في أقل الحالات- لما يثيره ما يقرأ على أنه تقليل من مكانة المتنبي شاعرا، وهو ذلك الشامخ الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، ينطوي على قدر من غفلة هي في أحسن حالاتها إفراط يبلغ السذاجة في حسن الظن بطبائع النفوس.

فالحديث عن المتنبي تقليلا لمكانته الشعرية أو نفيا لها، وقد بلغت حدا يقرب من الإجماع على مدى قرون، يصبح نوعا من السباحة في اتجاه اندفاع التيار، أو حركة شراع في اتجاه الريح، ولكن هل إسلام النفس لحركة التيار، موصل في كل الحا لات إلى الغاية المقصودة، ألا يؤدي بذلك المستسلم إلى المحيط الذي يتصل بالبحر أو يصب فيه النهر، وليس إلى المأمن الذي يبحث عنه السابح؟.

من الصعوبات التي تواجه الباحث ما ألفت بعض الأوساط من طبقية في المعرفة تقيم سياجا على كل فرع من فروعها لا يجوز اجتيازه إلا لمن يحمل جوازا بالاختصاص فيه، وهذا الأمر طبيعي ومنطقي متى كان يعني أنه لا يجوز خوض المرء في أمر يجهله، وأن المعرفة بالشيء والاطلاع على مفرداته وقواعده من أوليات الضرورة والآلة لمن يريد التعرض لذلك الشيء بالنقد تحليلا وتعليلا، ولكن الشيء الذي ليس مقبولا هو تلك الطبقية في المعرفة التي تخرج من دائرة المؤهل لها كل من لم يتلق هذه المعرفة بطريق معين، فتجعل العبرة بالوسيلة لا بالغاية، ويكون المهم كيف عرفت وليس ماذا عرفت. وإذا كان من المسلم أن هناك مجالات من المعرفة لا يتأتى تحصيلها ولا العمل في حقلها إلا بالدراسة والدربة المنهجيتين، حيث تكون التجربة والمزاولة جزءا لا يتجزأ من المعرفة التي ينبغي تحصيلها كما هو الحال في الطب، والهندسة، والزراعة، والعلوم التطبيقية، وما يماثل هذه الفروع، فإن الأمر ليس كذلك في مجالات المعرفة النظرية. ومن ناحية أخرى هل يجوز أن يكون اختصاص فرد ما في فرع من فروع المعرفة، ملغيا للجانب الإنساني فيه، القادر على الإدراك والتحصيل لجوانب أخرى من المعرفة؟ ماذا كان الأمر كذلك فيما يتعلق بالتبريز والتفوق في مجال من المجالات فإن الأمر يكون أشد وضوحا عندما لا يعدو مشاركة، أو إبداء رأي، أو اعتراض، أو استشكال. وعندما يكون الأمر كذلك يصبح التردد عما تقدم أمرا لا تمليه سوى المبالغة في الحذر الذي تنعدم الحدود بينه وبين مساحة الضعف الإنساني الذي يعاب ولا يحمد.

هذه المقدمة أمر لا داعي له لولا ما ألفت فئة من الناس من رد كل قول وإسقاط كل حجة ورفض كل دليل، بدعوى أن صاحب القول أو الحجة ليس من ذوي الاختصاص. فيكون النظر للقائل لا للقول، وللذات لا للموضوع. وهذا أمر لم يعرف في تاريخنا الأدبي والمعرفي، ولعله جاء في الوقت الحاضر لسبب لا يخفى على فطنة القارىء.

لكتابة هذا البحث قصة، وهي أن كاتبه ممن قرأ المتنبي فعرفه وألفه، وحفظ شيئا من شعره، وأعجب بجانب النبوغ عنده، وكون لنفسه رأيا عن نبع العبقرية لديه الصانع لمكانته وذيوع شهرته، وهو راي رآه منذ زمن طويل، ثم بدا له طرح هذا الرأي في حديث من أحاديث "ندوة الأحد" التي تعقد بداره بمدينة الرياض كل أسبوع. فاقتضاه ذلك الرجوع إلى بعض قراءاته عن المتنبي، والعودة إلى شعره وقراءة بعض ما يقف عليه مما كتب المتأخرون عنه. ومع أن من كتبوا عن المتنبي في القديم والحديث كثر فإن من أشهر من كتب ممن عرفوا بالمتنبي واقترن ذكر المتنبي بهم هما الأستاذ محمود محمد شاكر في كتابه "المتنبي " من المعاصرين، والقاضي علي بن عبدالعزيز الجرجاني من الأقدمين في كتابه "الوساطة بين المتنبي وخصومه".

والأستاذ شاكر علم من أعلام اللغة والأدب، عرف باطلاعه وتدقيقه فيما يندب نفسه إليه هـالزامه لها بما لا يلتزم به كثير من الناس، وقد أفرد لكتابه عدد كامل من مجلة المقتطف، وصار له صدى في وقته، قرضه الرافعي وسكت عنه العقاد، وأطراه طه حسين مشافهة، كما ذكر المؤلف. ثم عزف عن إعادة طبعه أربعين عاما أو نحوها، توارى الكتاب فيها أو توارى الحديث عنه، حتى قدر له أن يطبع طبعته هذه بإلحاح على المؤلف من أصحابه- كل يذكر- ثم بعث الكتاب مرة ثالثة وعاد إلى دائرة الضوء عندما رأت لجنة الأدب لا جائزة الملك فيصل الخيرية في هذا الكتاب عملا مسوغا لنيل جائزتها. لذلك أقبلت متعطشا إلى قراءته آملا أن يدلني على ما خفي من العبقرية!ا شعر المتنبي لم أعطها حقها من النظر، أو قصر بي الفهم عن إدراكها، فأزداد معرفة لم أحصلها، أو أرجع عن خطأ ظننته صوابا.

جاء هذا الكتاب في جزأين- أو سفرين كما أسماهما المؤلف (طبعة المدني القاهرة عام 1977) - خصص الثاني منهما لمقالات كتبها تحت عنوان: بيني وبين طه حسين، نشرتها جريدة "البلاغ " في حينها بعد ظهور كتابه وكتاب طه حسين عن المتنبي، وحوار بينه وبين الأستاذ سعيد الأفغاني عن نبوة المتنبي المدعاة. فليس في هذا الجزء ما يعنينا كثيرا.

أما السفر الأول وهو موضوع البحث فقد احتوى على 454 صفحة منها 165 مقدمة ضمن القليل منها منهجه في الكتابة، وإيجاز ما وصل إليه من كشوف، وجاء الكثير من هذه المقدمة عن موقفه من آراء د. طه حسين عندما كان الأول طالبا في كلية الآداب والثاني أستاذا فيها، ثم نقده لكل من د. طه (1) ص 54 وما بعدها من مقدمة الكتاب. (2) ص 49 من المقدمة. حسين، ود. عبدالوهاب عزام- رحمهما الله- فيما كتباه عن المتنبي بعد صدور كتاب الأستاذ شاكر، وما استفاداه من هذا الكتاب من استنتاجات لم ينسباها إلى صاحبه، وجاء صلب الكتاب في 289 صفحة كتبه بعد أن قام - كما يذكر - بجمع كل ما يمكن أن يقع في يده من تراجم أبي الطيب التي كتبها الأولون وما كتبه المحدثون وانه قرأ الديوان خمس مرات. وفي عمله المضني- كما يقول- تكشفت له جوانب في حياة المتنبي وبواعثه في شعره رآها جليلة القيمة لم تعط حقها فيما كتمه عنه، ووصل إلى استنتاجات عظيمة لم يسبق إليها. (أ)

قرأت الكتاب منتظرا- كما ذكرت- ما كنت أتطلع إليه من معرفة السر الذي بوأ المتنبي هذه المكانة وأعطاه هذه المساحة الكبرى في أدب عصره وما تلاه من العصور، وأنا أحسب الأستاذ شاكر من أقدر الناس على هذا الصنيع، وزاد هذا الاحتمال عندي عندما وقفت على قوله في وصف منهجه في إعداد كتابه وهو "تذوق الألفاظ والجمل، وتذوق دلالاتها على معاني أصحابها".

"... كنت أتذوق البيان الصادر عن أصحابه فيما يريد أن يقوله كل منهم.... " (2)، ولكنني صدمت عندما وجدت الأستاذ اتجه باهتمامه إلى المتنبي الشخص وليس المتنبي الشاعر، اهتم به شخصا له ظروف وشطحات ومطامح وأشواق، ولم يبحثه شاعرا ملأ الدنيا وشغل الناس. لقد جعل المؤلف شغله الشاغل إثبات ثلاث قضايا رآها المنبع والمصب، والتبرير والتفسير للمتنبي وشعره ! غضبه ورضاه، ومدحه وهجاه، ورقته وخشونته. هذه القضايا هي ما توهمه من نسبه العلوي، ونفي ادعاء النبوة عنه، وإثبات تدلهه بخولة أخت سيف الدولة، وقد رأى في هذه القضايا الثلاث التي دلته عليها طريقته في استجلاء البيان كشوفا بالغ في الاحتفاء بها والاعتزاز بنسبتها إليه، وزاد من قيمتها أن أفرد لها صاحب المقتطف عددا كاملا في مجلته، ولم يكن مما خطرلي ببال عند التفكير في كتابة هذا البحث نقد كتاب الأستاذ شاكر أو سواه. إلا أننى - وقد قرأت الكتاب - لم أر مما يجوز إغفال ما قرأت وقول كلمة فيه، وماذا أضاف إلى المعرفة عن المتنبي، وقيمة هذه الإضافة، إذ إن إهمال ذلك لا يتفق مع حق العلم وأمانته.

وقفة مع الأستاذ شاكر

أحسب أن ما للمتنبي من حظ حالفه وقتا طويلا ومنحه هذه المكانة في قلوب الناس واهتمامهم، لم يحالفه فيما كتب عنه الأستاذ شاكر. لقد خالفه - أي المتنبي- الحظ مرتين، مرة عندما فقد في بحث الأستاذ شاكر تناولا لشعره تناولا يجلي سر عبقريته، وخالفه أخرى حين جعل المؤلف كل اهتمامه ثلاث قضايا لا علاقة لأي منها بمكانة المتنبي لا نفوس الناس، وظني أنه لو بعث المتنبى حيا لما رأى فيما كشف عنه الأستاذ شاكر ما يسعد به او يتزّيد.

القضية الأولى: النسب العلوي

إن كون المتنبي علوي النسب - لو ثبت- ليس من العوامل التي رفعت المتنبي عند الأقدمين أو المحدثين، فإعجاب الناس بالمتنبي لا بنسبه، وبموهبته لا بأرومته، والعلويون في عهد المتنبي وبعده آلاف مات أكثرهم نكرات. ولا عصر المتنبي أو قريب منه علم من الأعلام مورق المشاعر مرهف الإحساس جياش العاطفة، له من روائع الشعر شيء كثير، ذلك العلم هو الشريف الرضي نقيب الطالبيين، وهو صريح النسب متعدد المواهب ومنها الشعر، ومع ذلك لم يؤت من الحظوة والشهرة ما أوتي المتنبي. ومع افتراض أن بحث هذه المسألة من باب كونها بعض بواعث شعره بسبب ذوده عن هذا النسب، فليس في ذلك قيمة تذكر، إذ إن العبرة في قيمة الشعر هي بالنتائج لا بالمقدمات. ولست أدري بأي مقياس تحقيق يثبت هذا النسب وأن يكون هو المفسر لكل أو جل شعره قبل اتصاله بسيف الدولة وليس هناك سوى أنه - أي المتنبى - "اختلف إلى كتّاب فيه أولاد أشراف الكوفة" أو الرضاعة من امرأة علوية - على فرض صحة هذه الرواية - وإنه لم يقم لرجل من الأشراف دخل مجلسا فيه المتنبي ". (3) لست أدري كيف وجد المؤلف في ذلك حجة قاطعة مؤيدة لما استنتجه هو من شعره وكيف غفل المعاصرون للمتنبي ومن جاء بعده ممن اهتموا به وشرحوا ديوانه وترجموا له عشرات المرات عن هذا الجانب وكيف بقي سرا مختوما كما بقي اكتشاف تشامبليون الذي "أفضى إلى ختم الزمان ففضه ". ولست أدري أي عار لاصق بالمتنبي أو نقيصة تجعل العلويين ينكرون نسبته - إذا كان منهم - ويعادونه لذلك ويحبسونه عليها، بل ويدبرون مقتله؟!.. ثم لماذا لم يحدثنا الأستاذ شاكر حديثا مقنعا عن سبب انصراف المتنبي عن هذا الهم الذي كان أكبر لواعجه، بعد اتصاله بسيف الدولة - كما بدا للمؤلف - والناس تعرف أن النسب لا يسقط بالتقادم وليس مما يذهب به النسيان، على أن ما عرف عن المتنبي من ضيقه بالحديث عن نسبه وضعف تعليله لذلك بتنقله بين الأعراب، وخفاء حالته الأسرية خفاء يكاد يكون تاما، وغياب أمه من حياته الاجتماعية والشعرية مع ما أبدى من شدة عاطفة نحو جدته، كل ذلك يبقى أمرا لم يكشف عنه بعد. ولعل ما ظنه د. محمد محمد حسين (4) تعليلا لذلك أمر جائز الحدوث، وسواء كان ذلك أم لم يكن فقد اكتفى الناس من المتنبي شعره عن أمر نسبه بل سبقهم هو إلى هذا الاكتفاء.

القضية الثانية: ادعاء النبوة

حاول المؤلف الفاضل نفي ادعاء المتنبي للنبوة، وقد كتب الأستاذ سعيد الأفغاني أكثر من رد على ذلك بعد صدور كتاب المؤلف، نشر هذا الرد، ورد المؤلف في مجلة الرسالة في عام 1936 وأثبته الأستاذ شاكر - مشكورا - في السفر الثاني من كتابه، فتكرار الحديث عن ذلك - وقد بلغ به الأستاذ الأفغاني إلى غايته - لا يفيد سوى اللجج لا الدعوى أو المدافعة. ولست أدري لماذا يستحيل على فتى لم يتجاوز العشرين يعصف به طموح جامح يحمله على مثل قوله:

أي محل أرتقي

أي عظيم أتقي

وكل ما قد خلق الله

وما لم يخلق

محتقر في همتي

كشعرة في مفرقي

أن تطوف به طائفة حب البروز وهو في أهل بادية يرى أن هذه الدعوى مما يصدقون، ثم عاد عنها. سواء ثبت ادعاؤه للنبوة أم سقط فليس لذلك أثر كثير أو قليل في مكانة المتنبي الشعرية، وإقبال الناس عليه، ولا نحسب ما كشف عنه الأستاذ شاكر من نفي ادعاء النبوة عنه- لو ثبت - سيزيد من مبيعات ديوانه أو ما يكتب عنه نسخة واحدة.

القضية الثالثة: حب خولة

هذه القضية التي صرف المؤلف إليها جل اهتمامه وجعل ذلك كشفا احتفى به احتفاء جعله عن نفسه أنه عاد - بعد هذا الكشف ولقائه من رأى رأيه فيه - وبين جنبيه "نفس تموج كبحر تلاطمت اثباجه.. " (5). فهو عشق المتنبي لخولة أخت سيف الدولة. "حبا بلغ به شفا الهاوية، وبلغ منه هواها ذروة شامخة محلقة يضيق بها صدره كأنما يصعد في السماء.. " (6).

وللتدليل على هذا الكشف دخل المؤلف في مقدمة طويلة عن نفسية المتنبي وفلسفة الحب والجمال، ترى في هذه المقدمة لوحة بارزة المعالم من بيان الرافعي وفلسفة الحب والجمال عنده. ثم انتقل إلى الحجة القاطعة لإثبات ما اكتشفه. أما هذه الحجة فهي قصيدتان قالهما المتنبي في رثاء أختي سيف الدولة، صغرى توفيت عام 344 هـ بعد صحبة المتنبي لسيف الدولة بسبعة أعوام وكبرى هي خولة- المعشوقة- توفيت عام 352 هـ، بعد فراق المتنبي لسيف الدولة بوقت غير قصير.

ومع الرغبة في تحاشي نقل النصوص لتفادي الإطالة - إلا لضرورة- فإنه يجدر إدراج موضع الحاجة من أبيات القصيدة الثانية التي قالها في رثاء خولة- وهي وثيقة الحب- لتجنيب القارىء عناء الرجوع إليها وليرى رأيه فيما توصل إليه المؤلف من اكتشاف.

يا أخت خير أخ يا بنت خير أب

كناية بهما عن أشرف النسب

أجل قدرك أن تسمي مؤبنة

ومن يصفك فقد سماك للعرب

غدرت يا موت كم أفنيت من عدد

بمن أصبت وكم أسكت من لجب

طوى الجزيرة حتى جاءني خبر

فزعت فيه بآمالي إلى الكذب

حتى إذا لم يدع لي صدقه أملا

شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي

تعثرت به في الأفواه ألسنها

والبرد في الطرق والأقلام فى الكتب

كأن فعلة لم تملأ مواكبها

ديار بكر ولم تخلع ولم تهب

ولم ترد حياة بعد تولية

ولم تغث داعيا بالويل والحرب

أرى العراق طويل الليل مذ نعيت

فكيف ليل فتى الفتيان في حلب

يظن أن فؤادي غير ملتهب

وأن دمع جفوني غير منسكب

بلى وحرمة من كانت مراعية

لحرمة المجد والقصاد والأدب

ومن مضت غير موروث خلائقها

وإن مضت يدها موروثة النشب

وهمها في العلى والمجد ناشئة

وهم أترابها في اللهو واللعب

يعلمن حين تحيا حسن مبسمها

وليس يعلم إلا الله بالشنب

وإن تكن خلقت أنثى لقد خلقت

كريمة غير أنثى العقل والحسب

فليت طالعة الشمسين غائبة

وليت غائبة الشمسين لم تغب

ولا ذكرت جميلا من صنائعها

إلا بكيت ولا ود بلا سبب

قد كان كل حجاب دون رؤيتها

فما قنعت لها يا أرض بالحجب

ولا رأيت عيون الإنس تدركها

فهل حسدت عليها أعين الشهب

وهل سمعت سلاما لي ألم بها

فهل أطلت وما سلمت من كثب

أظن أن أي قارىء يقف بالألفاظ عند دلالتها ولا يحمل المعنى أكثر مما يحتمل، ولا يقدم على قراءة نص برأي سابق يتلمس الحجة له، لن يرى في هذه القصيدة شيئا يختلف عن طبيعة المتنبي في انفعاله بطيب الشمائل وكرم الخلال، وهذا ما جعل شعره في سيف الدولة شعر المعجب بخلال لا شعر المادح للعطاء فقط، وقد وقف هذا الموقف شعراء المعتمد بن عباد منه، ومنهم ابن اللبانة، وابن حمديس، ولسنا نرى ما يمنع- في العقل ولا في العادة - أن يكون لخولة هذه من الخلال ما يحبب فيها ويشعر بعظم الرزء بفقدها. إن التي يجل قدرها عن التسمية، وأفنى الموت بموتها عددا من الناس، وطوى خبر موتها الجزيرة، وتعثرت به الألسن في أفواهها، والتي ملأت مواكبها ديار بكر، وردت على خلق حياتهم.. إلى آخر هذه السلسلة الطويلة من الصفات، أيستغرب أن يكون قول المتنبي فيها رثاء خلال لا تدله عاشق؟!.. كيف ذهب عن فطنة المؤلف ذلك الاعتراض الذي أحسبه يعترض لكل قارىء لرأي المؤلف، وهو لماذا لم يوجد في ديوان المتنبي كله قصيدة واحدة أفردها للحديث عن سطوة الحب وغلبة الهوى، وعن خفقات القلب ولواعجه، وهو ذلك الشامخ الفياض بالمشاعر الزاخر بعنفوان الإحساس، وقد وصل به عشق خولة حدا بلغ به شفا الهاوية. وهل يقنع في الجواب على ذلك قول المؤلف- وقد فطن إلى هذه الورطة - فقال:

" فلهذا حين أحب أبوالطيب الرجل الثائر المتكبر الحكيم، البياني الفكر واللسان، كان امتداد نفسه وتراميها إلى آفاق بعينها من الرجولة والثورة والكبرياء والحكمة والفكر، ولم يستطع أن يكون بعد أن غلب الحب قلبه وتفاسح به شاعرا غزلا رقيق البيان، وهذا هو السر عندنا في ضعف مادة الغزل عند أبي الطيب.. " (7).

تقرأ هذا النص وكنت قرأت قبله بسطور فقط وفي نفس الصفحة قوله "... كان صاحب الحكمة أبوالطيب يصنع حكمته بالتدبر في معرفة نفسه، واستبطان أسرارها، فلما جاءت المرأة وأرادت كبرياءه على الخضوع لها، والتصرف بأمرها، وقعت نفس هذه المرأة بأسرارها وأحداثها بين نظرات أي الطيب النافذة المتولجة إلى ما وراء الواقع والحس والملموس، وبين نفسه بأحداثها وأصرارها، وما انطوت عليه وما تجللت به، ولما كانت نفس المرأة المحبوبة هي تمام نفس الرجل المحب وتكملتها، كانت دراسة الحكيم المحب لنفسه المكملة التامة بالمرأة المحبوبة، إنما هي دراسة للكون كله، فإن العاشق لا يرى الدنيا بأسرها إلا بعين من يعشق... ". وتقرأ في موضع لاحق (8) في تعليل المؤلف المعتذر لبدء المتنبي أول قصيدة له في كافور بقوله:

كفى بك داء أن ترى الموت شافيا

وحسب المنايا أن يكن أمانيا

تقرأ ما يلي: "... وكان أبوالطيب حين فارق سيف الدولة يتلفت قلبه إلى التي خلفها وراءه وخلف عندها قلبه وعواطفه، فأثار ذلك في قلبه ذكرى وآلاما جعلت الدنيا تضيق بها نفسه، فكان أول ما لقي كافورا لقيه بالبيت الذي عده الأدباء والنقاد من سوء أدب المتنبي، وليس الأمر على ذلك، فإن الرجل لم يكن سيىء الأدب ولا ضعيف البيان ولكنه كان كما حدثناك مرهف الحس تغلبه العاطفة على أمره فلا يملك لبيانه تصريفا، بل تصرف عاطفته هذا البيان، كما شاءت... ". وهذا كما لا يخفى على القارىء نوع منفرد من التحليل والانسجام!!.. وفي سبيل تأصيل هذا الاكتشاف لا بأس أن يجد المؤلف في قول المتنبي:

يعلمن حين تحيي حسن مبسمها

وليس يعلم إلا الله بالشنب

حجة كافية "في الدلالة على معرفة خولة معرفة صحيحة عن خبرة ولقاء" (9). هل يحتاج الأستاذ شاكر إلى من يذكره بقول الأول:

وما نطفة من ماء مزن تقاذفت

بها جنبتا الجودي والليل دامس

فلما أقرتها اللصاف تنفست

شمال بأعلى مائها فهو قارس

بأعذب من فيها وما ذقت طعمه

ولكنني فيما ترى العين فارس

وهذه الخبرة واللقاء لا يكفي لنفيها في نظر المؤلف أن يقول المتهم بها:

ولا رأيت عيون الإنس تدركها

فهل حسدت عليها أعين الشهب

قد كان كل حجاب دون رؤيتها

فما قنعت لها يا أرض بالحجب

إن رؤية المؤلف لا تصدمها ظاهرة ألا يجد لهذا الشاعر المشحون بالعاطفة قصيدة واحدة تدل على هذه الدعوى إلا يتيمة قالها بعد موت المعشوقة، وبعد فراقه لها ولأخيها بأعوام، وحقيقة أن أكثر غزله رقة - لم يقله إلا ابتداء لمدح وخلوصا إليه - قاله قبل اتصاله بسيف الدولة وتدلهه بخولة. وأنه بعد اتصاله بسيف الدولة يبقى حنينه - إن وجد - لأيامه الأولى:

سقى الله أيام الصبا ما يسرها

ويفعل فعل البابلي المعتق

عشية يعدونا عن النظر البكا

وعن لذة التوديع خوف التفرق

وإن العاشق يقول في حياة المعشوقة وبعد فراقه لأرضها بزمن غير بعيد:

وللخلود مني ساعة ثم بيننا

فلاة إلى غير اللقاء تجاب

وغير فؤادي للغوان رمية

وغير بناني للزجاج ركاب

تركنا لأطراف القنا كل شهوة

فليس لنا إلا بهن لعاب

إن قصيدة واحر قلباه تأتي وكأنها رسالة مكتوبة من المتنبي ترد على المؤلف وتسقط حجته لو استقامت ولم تكن حجة بلغت من الرقة مبلغ مدام ابن المعتز التي وصفها بقوله:

وقد خفيت من لطفها فكأنها

بقايا يقين كاد يدركها الشك

ذلك أنك تجد في هذه القصيدة من اللوعة والمعاتبة والحنين ما لا تجده في رثاء خولة.

وأعجب من ذلك أنك لا تجد فيها إشارة واحدة إلى هذه المعشوقة التي بلغ حبها حدا يضيق به صدره كأنما يصعد في السماء.

لا غرو إذن - أن جاء استنتاج المؤلف يحمل الابتسامة إلى شفة الحزين فهو نمط جديد من عشق القبور لا يظهر في حياة المعشوق!!..، على أننا لا نقطع بنفي أن يكون المتنبي وقع في حب خولة وأن يكون هذا الحب من طرف واحد أو من طرفين، إذ ليس في العقل ولا العادة ما يمنع تعلق رجل بامرأة أو تعلقها به، ولكن الذي ننفيه أن تكون دلة الأستاذ شاكر التي استنتج منها هذه الصلة كافية في إثباتها وإذاثبتت فسيكون من العسيرتفسير قدرة المتنبي على كبت جماح عاطفته عن الإشارة إلى هذا الحب الذي بلغ به شفا الهاوية، وأنه لم يجد منفذا للتعبير عن هذا الحب والإشارة إليه إلا بعد فراق الحبيبة وموتها، وعلى عكس ما ذهب إليه المؤلف يرى كاتب هذه السطور، أن الشعر العربي رزىء رزيتين، الأولى أن المتنبي لم يعشق عشقا يشعل جذوة في داخله، والثانية أن شوقي لم يظلم ظلما يهيض جناحه، وظني أنه لو قدر للمتنبي مثل ذلك العشق الذي شرفه به - أو اتهمه - المؤلف لجاء منه في الغزل والحب والحنين شوارد من الشعر تتفق وهذه النفس القوية في انفعالاتها ومشاعرها. على أن هذا لا يعني أن قلب المتنبي لم يخفق لحور عين أو إشراقة محيا وعذوبة قسمات، ولكن هذه الخفقة - إن وجدت - تقع في ظل طائر عبر عنه بقوله "وللخلود مني ساعة... ".

وبعد، فلم يكن هذا الاستطراد مقصودا ولم يكن التعرض لكتاب الأستاذ شاكر مما خطر لي على بال، ولعله رجع عن اجتهاد وصل إليه في سن الصبا، وقد هجر هذا الكتاب منذ سنين. ولكن الشيء الذي لا ينتهي العجب منه أن يبعث هذا الكتاب من جديد على يد هيئة تضم أعلاما في اللغة والأدب هم أعضاء لجنة الأدب في جائزة الملك فيصل لكي تمنحه جائزتها العالمية، لا لأي عمل من أعمال الأستاذ شاكر يتناسب مع مكانة هذه الجائزة ولكن تقديرا منها لهذه الكشوف. ولست أدري كيف خفي على أعضاء هذه اللجنة أن في هذا الأمر، الذي اعتبرته تكريما للأستاذ شاكر، ما يعني الهجاء له، ذلك أنها لم تر في أي عمل عمله في عمره المديد إن شاء الله وعلى مدى خمسين عاما ما يستحق أن يقدر سوى هذه الكشوف. وأنني لأرجو صادقا ألا يكون هذا التقييم مطردا لدى أعضاء هذه اللجنة أو سواها من اللجان في هذه الجائزة، لأنه يلقي ظلا من الحزن والشك في سلامة تقييم هذه اللجان لوجوه التفوق والإبداع.

 

راشد المبارك

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




المتنبي