حوار الكائنات جابر عصفور

حوار الكائنات

عندما يتأمل شاعر معاصر "بحجم صلاح عبدالصبور" شعرنا القديم "وأحد نماذجه امرؤ القيس "، فإن أمواجا من الدلالات تتوالد وتنداح، وهذا المقال يأتي ببعض منها.

من الكتب التي قرأتها عن شعرنا القديم وشدتني إليها كتاب صلاح عبدالصبور "قراءة جديدة لشعرنا القديم "، جذبني إليه تواضع صاحبه وبساطته في العبارة، والألفة الساحرة التي يقيمها مع قارئه، خصوصا حين يعرض على هذا القارىء تجربته، من حيث هو عاشق للشعر العربي القديم، عاشق أحب هذا الشعر كأنه جذوره الممدودة في الأرض، فصدر عنه فيما كتب، وطمع أن يستوعب أصفى تقاليده ليعرضها على مرآة عصره، هذا العاشق المتميز لم يستهوه كبار الشعراء في تراثه لشهرتهم، أو صرفوه عن النظر في صغارهم، ولم تشده القصيدة التي رزقت حظا من الرواج فاستغنى بها عن خامل القصيدة بل حاول، مخلصا، أن ينظر إلى تراثه الشعري نظرة بريئة، ترى الجمال حيثما وجد بمقياسه العصري الذي يبحث عن تجاوب قيم الحاضر والماضي، ويغري بصحبته الأليفة القارىء ليبحر معه، في مركبه المتميز، غير زاعم أنه سيصل بصاحبه إلى بر الأمان، فهو يعلن منذ البداية أنه يبغي الصحبة في المغامرة والاكتشاف.

حوار مع الكون والكائنات

هذه البراءة التي انطوت عليها قراءة صلاح عبدالصبور للشعر الجاهلي هي التي انتهت به إلى اكتشاف العين الطفلية للشاعر الجاهلي، في حوار هذا الشاعر مع الكون، أو حواره مع الكائنات، هذه العين الطفلية التي تميز بها الشاعر الجاهلي هي التي أدركت، بدورها، الصلة الرمزية بين الإنسان والكون، وجعلت من عوالم الطبيعة والحيوان مرايا للإنسان ورموزا له، فأسكنته عالما أليفا، وأقامت بينه وكل من حوله في هذا العالم ما أطلق عليه صلاح عبدالصبور "حوار الكائنات ".

هذا الحوار، فيما أحسب، يبدأ من منطقة التعاطف التي تسقط فيها الأنا مشاعرها على الأشياء والكائنات، أو تتحد معها، على نحو يجعل من الذات موضوعا ومن الموضوع ذاتا، في علاقات تنطوي على أدوات التشخيص والتجسيد البلاغية التي تقتنص اللحظة التي يغدو بها التعاطف تقمصا، هذا النوع من التعاطف يدني بأطرافه إلى حال من الاتحاد، حال يغدو فيه مفعول التعاطف مرآة لفاعله، بالقدر الذي يغدو فاعله ذاتا تقيم حوارا مع نظائرها في مرآتها التي هي إياها بأكثر من معنى.

ولم يصغ صلاح عبدالصبور أفكاره على هذا النحو، تحديدا، ولكني احسب أن شيئا من ذلك كان يدور بخلده، خصوصا في حال توقفه إزاء النماذج التي عدها أمثلة على حوار الشاعر الجاهلي مع الكون والكائنات، لقد وقف على أبيات امرئ القيس التي يحاور فيها الذئب، وأردفها بأبيات المرقش الأكبر، ومضى في التمثيل إلى أن استبدل بالذئب الناقة فأوقفنا على أبيات المثقب العبدي الشهيرة عن ناقته وأبيات أقران له، وفي كل النماذج التي ذكرها صلاح عبدالصبور، كان الحوار لافتا بين الشاعر والكائنات، وكان الاتحاد العاطفي فاعلا في علاقة التقمص الوجداني التي وصلت الشاعر بموضوعه، وكانت الخصائص الفراسية التي يكتسبها الموضوع، في كل حالة، تجسيدا لمعنى المرآة التي يتحول بها الموضوع الشعري إلى معادل لبعض هموم الذات.

ويبدو أن امرأ القيس هو حامل لواء الشعراء إلى هذا الحوار، فقد تكررت إرهاصاته أكثر من مرة في معلقته، أولها نجواه إلى الليل في أبياته:

وليل كموج البحر أرخى سدوله

علىّ بأنواع الهموم ليبتلي

فقلت له لما تمطى بصلبه

وأردف أعجازاً وناء بكلكل

ألا أيها الليل الطوفي ألا انجلي

بصبح وما الإصباح منك بأمثل

فيالك من ليل كأن نجومه

بأمراس كتان إلى صم جندل

وهي نجوى أحادية الاتجاه، نسمع فيها صوت الأنا التي تخاطب موضوعها الذي تسقط عليه مشاعرها، فيغدو مرآة رمزية للوضع الوجودي القلق للذات الناطقة في النص الشعري، وأحسب أن هذه الذات لم تقنع بالحوار من طرف واحد مع الليل الذي هو عنصر من عناصر الطبيعة، حتى بعد تشخيصه بواسطة الاستعارة التي أحالته رمزا، فجاوزته إلى الحوار مع الكائنات الحية، واختارت منها "الذئب" الذي تحول، بدوره، إلى مرآة أخرى للذات، في منطقة التقمص، ونقرأ في معلقة امرىء القيس:

واد كجوف العير قفر قطعته

به الذئب يعوي كالخليج المعيل

فقلت له لما عوى: إن شأننا

قليل الغنى إن كنت لما تمول

كلانا إذا ما نال شيئاً آفاته

ومن يحترث حرثي وحرثك يهزل

وهي أبيات تبدأ من التشبيه الذي يدني بطرفيه إلى حال الاتحاد، فيقع كل منهما موقع الآخر، ويتبادل معه الصفات، فيغدو الذئب كالخليع المعيل وهي صفة بشرية، ويغدو الإنسان كالذئب الذي يعوي في واد الجوف العير، وهي صفة حيوانية، ولا تدهش الذات الشعرية التي تختفي وراء قناع ضمير المتكلم، في الأبيات حين ترى مجلاها في الذئب الذي أصبح إياها في كثير من أحوالها، خاصة تلك التي تجمع بين الأصل والصورة في المرآة الشعرية بواسطة العبارة التي تقول: "ومن يحترث حرثي وحرثك يهزل ".

أوسع من التجريد

وإذا كنا لا نسمع صوت الطرف الثاني من الحوار، في معلقة امرىء القيس، لأن الذات مشغولة بتجلي مرآها وليس الحوار مع حضورها الذاتي فإننا نسمع الطرف الثاني في الحوارية التي يقيمها النجاشي مع الذئب في أبياته التي تقول:

وماء كلون الغسل قد عاد آجنا

قليل به الأصوات في بلد محل

وجدت عليه الذئب ت يعوي كأنه

خليع خلا من كل مال ومن أهل

فقلت له يا ذئب هل لك في فتى

يؤاسي بلا من عليك ولا بخل؟

فقال هداك الله للرشد، إنّما

دعوت لما لم يِأته سبع مثلي

وتلك أبيات تبدأ بصيغة نحوية ودلالية لا تختلف كثيرا عن الصيغة التي تبدأ بها أبيات امرىء القيس، فالسكون والموات والوحشة يفترش المحل هنا وهناك، والذئب يعوي كالخليع البائس كثير العيال عند الشاعرين، والدعوة إلى المواساة هي هي، والجملة التي تبدأ بالواو "واو رب " يليها المتضايفان متماثلة التركيب في الحالين، ولكننا نسمع صوت الذئب يستفتح نوعا جديدا من للحاورة، نوعا تجرد به الذات الشعرية من نفسها موضوعا، فتغدو هي المخاطب "بكسر الطاء" والمخاطب "بفتح الطاء"، وندخل في نوع من ألوان العلاقة الدلالية، أوسع بكثير من كل ما أطلق عليه البلاغيون القدماء اسم "التجريد"، وضربوا له المثل بمطلع معلقة الأعشى:

ودع هريرة إن الركب مرتحل

وهل تطيق وداعاً أيها الرّجل

وعرّفوه بقولهم: إن "التجريد" هو أن ينتزع من أمر ذي صفة أمرا آخر مثله في الصفة، أو أن تأتي بكلام يكون ظاهره خطابا لغيرك، وأنت تريده خطابا لنفسك، فتكون قد جردت الخطاب عن نفسك وأخلصته لغيرك.

والواقع أن الأمر يجاوز هذا الفهم البلاغي إلى فهم أوسع يصل البلاغة بضرب من إدراك الوجود، ضرب يجسده الحوار مع الكائنات التي تنعكس على مراياها الذات الشعرية، وتجد فيها معادلا لحوارها الذي تجتلي فيه وجودها حين تنقسم على نفسها فتغدو فاعلا للتأمل ومفعولا له في آن، هذا النوع من الحوار نراه مع الكائنات الأكثر ألفة إلى الشاعر "الإنسان " من الذئب، وأخص الناقة التي انطوت على أبعاد رمزية كثيرة في الشعر الجاهلي، أبعاد لا يدنو منها سوى الحصان رفيق الشاعر الثاني، في الحل والترحال، والتوحد والتمرد ويرتبط أول هذه الأبعاد في تقديري، بما آهّل الناقة لأن تغدو مرآة تجتلي فيها الذات وجودها، وذلك في المعنى الذي يمكن أن نقرأه في أبيات المثقب العبدي التى تقول:

إذا قمت أرحلها بليل

تأوّه آهة الرجل الحزين

تقول إذا درأت لها وضيني

أهذا دينه أبداً وديني

أكل الدّهر حل وارتحال

أما يبقي عليّ ولا يقيني

وهي أبيات تنطق فيها الناقة مشاعر صاحبها، كأنها صدى لصوته، أو وجهه الحواري الآخر الذي يرد عليه لهفته واندفاعه، فتكتسب الناقة صفات بشرية، تنسرب إليها بفاعلية الاستعارة التي تتفاعل فيها أطراف متعددة، على رأسها المستعار له والمستعار منه، ولكن عمليات التفاعل في هذا السياق تحطم الحواجز المتعارف عليها بين الكائنات والأشياء، فتكسب الناقة صوتا بشريا، وتجعل منها الصورة المنعكسة لصاحبها في المرآة، ولذلك تتأوه آهة الرجل الحزين وليس آهة المرأة الحزينة، ومع ذلك يظل صوت الناقة غير مفارق للصفة الأنثوية التي تنطقها الدلالات المضمنة في جملة: "أهذا دينه أبدا وديني "، أو جملة "أما يبقى عليّ ولا يقيني "، وهي دلالات يمكن أن تستدعي إلى الذهن صورة المرأة الخائفة على زوجها، أو قرينها، وهي صورة شائعة في الشعر الجاهلي، نذكرها حين نذكر قصيدة عروة بن الورد التي مطلعها:

أقلّى عليّ اللوم يا ابنة منذر

ونامي فإن لم تشتهي النّوم فاسهري

وليس المهم تحديد دلالة الذكورة أو الأنوثة المصاحبة لترابطات الصورة، الأهم هو ما يؤديه نطق الناقة نفسها من دلالات رمزية تنبني على الخصائص الفراسية في إدراك الأشياء.

الشعر يجتلي الوجود

هكذا تتحدث الناقة حقا في هذه الأبيات، ولكنها تتحدث من حيث هي بعض الأنا التي تحاور بعضها الآخر، والتي تجتلي نفسها في غيرها الذي هو إياها في علاقات الرمز، فالناقة ليست سوى الوجه الآخر لوجود الذات المنقسم على نفسه في الأبيات، والذي يناقل حضورها القلق ما بين ضمير المتكلم وضمير الغائب اللذين هما إياها في انقسامها، وبالطبع، لا يمكن فهم رمزية الأبيات، فضلا عن المعنى الضمني لرمزية المرآة التي تحتويها، لو رددنا تموج الدلالة في الأبيات إلى علاقة مجازية ضيقة البعد، وألصقنا بطاقة "الاستعارة المكنية" على الأبيات، أو قدرنا فعلا محذوفا في علاقات التراصف بين الكلمات.

وقد فعل التبريزي شيئا من ذلك في كتاب "تهذيب الألفاظ "، والجواليقي في "شرح أدب الكاتب " وكان ذلك حين تقبلا الأبيات تقبلا أكثر تسامحا من تقبل ابن طباطبا العلوي الذي عد الأبيات من المجاز المباعد للحقيقة، ونفر منها، وآثر عليها قول عنترة في وصف فرسه:

فأزور من وقع القنا بلبانه

وشكا إلى بعبرة وتحمحم

لو كان يدري ما المحاورة اشتكي

ولكان لو علم الكلام مكلّمي

وذلك لأن عنترة لم يصل بفرسه إلى درجة الكلام وقصر المشابهة على ما يليق بها، ولقد انتقل هذا الفهم من ابن طباطبا العلوي إلى قدامه بن جعفر الذي لم يستطع، في كتابه "نقد الشعر" إدراك الفاعلية الرمزية للاستعارة فخنقها بأمراس المعاظلة والتناقض على طريقة العدم والقنية، ونظر شزرا إلى حوار الشاعر مع الكائنات، وعده مجافيا لقواعد المنطق التي أراد أن يقيم عليها مفهوم الشعر مع الأسف.

وكان قدامة وأشباهه من القدماء والمحدثين بعيدين عن الصواب في نظرتهم المنطقية الجامدة إلى الشعر، لأنهم لم يدركوا انطلاق الشعر من توتر الأنا التي تنقسم على نفسها، لتجتلي وجودها، والتي تبحث لنفسها في انقسامها، عن موازيات ومعادلات، تتحول بها الكائنات إلى مرايا لها، في مختلف أحوالها، وذلك في حال من الوعي الذي ينقلب به الحوار مع الكائنات "الذي هو حوار الأنا مع نفسها" إلى نوع من اكتمال التعرف الذي لا يتحقق إلا بأن تصبح الأنا العارفة ذاتا ناظرة تتأمل، وذاتا منظورا إليها هي موضوع للتأمل، ومن خلال الحوار بين هذه الأنا، في انقسامها، ينتقل الحال المعرفي من عتبة الإدراك إلى الوعي المكتمل، وبالقدر الذي يغدو به المجاز حتميا لهذا الحال المعرفي، في كل ما يتفرع عنه أو يئول إليه، فإن الإدراك الفراسي للأشياء هو الوجه الآخر للمجاز، وكلاهما يؤسس رؤيا الشعر التي ترى العالم بوصفه علاقات متجاوبة، لا ينفصل فيها الإنسان عن الحيوان، ويتحول فيها وجود الحيوان إلى مواز لوجود الإنسان ومرآة له في آن.

هكذا، نرى في تقلب أحوال الحيوان، في الشعر، ما يوازي تقلب أحوال الإنسان في الوجود، وننتقل من الحضور البهيج الفرح بالوجود إلى الحضور النافر المتمرد على الوجود، ونتحرك في دوائر من الدلالات التي توازي تقلب الوجود نفسه بالإنسان، ما بين حالي السعادة والشقاوة، والحال الأول نراه في البهجة الفرحة لتجاوب الكائنات في بيت المنخل اليشكري:

وأحبـها وتحبني

ويحب نـاقتهـا بعيري

والحال الثاني نراه في التمرد القلق النافر الذي ينطوي عليه البيتان اللذان يرويان لعبيد بن الأبرص:

وحنت قلوصي بعد وهن، وهاجها

مع الشوق ليلاً بالحجاز وميض

فقلت لها : لا تضجري إن منزلاً

نأت به هند إلي بغيض

 

جابر عصفور

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




غلاف الكتاب