حلم على نهر محمود كساب

حلم على نهر

قراءة نقدية في رواية:
تأليف: جار النبي الحلو

بعد أربع مجموعات من القصة القصيرة يبدأ الكاتب جار النبي الحلو أولى خطواته الروائية. إنه يخرج من النسيج الدقيق الذي يفرضه عليه الفن القصصي السابق كي يسبح هو وأحلامه على ضفة نهر الرواية.

تكمن أهمية جار النبي الحلو- ككاتب قصة قصيرة في المحل الأول في أنه تمكن من تأسيس عالمه القصصي بأحلام المهمشين في مدينته الحبيبة المحلة الكبرى في مصر، بله كرس معظم نتاجه من أجل التعبير عن عوالمهم وحياتهم وأمانيهم في الانعتاق من التكدس والفقر وعفن الهواء والضجيج والقهر بكل أنواعه. لذا فأنت لا يمكنك أن تقرأ قصصه القصيرة التي ضمتها مجموعاته الأربع: " القبيح والوردة 1984 "، " طعم القرنفل 1986 "، "الحدوتة في الشمس 1989 "، و"طائر فضي 1990" دون أن تكون على دراية بعالم الفقراء والمعوزين، والذين هم مساقون إلى مصائر فاجعة دونما إرادة منهم بفعل أن فقرهم المزري يكبل أحلامهم. وكتابة جار النبي الحلو عن هؤلاء الفقراء تتسم بحب شديد لهم، وتفهم عميق لأمانيهم، ومن ثم فستلمح - دون كبير عناء - أنه يبشرهم بقرب الانعتاق من هذا الفقر، وأنهم إن آجلا أو عاجلا سيتمتعون بالبيوت الصحية، والشوارع الفسيحة، والميادين الرحبة، والحدائق الغناء، فقط عليهم التمسك بأدمغتهم والمثابرة على العلم المطروح في الكتب التي كثيرا ما أورد أنهم يمتلكونها، ويمتلكون مهارة فهم صفحاتها والعمل بها، ولذا لم يكن غريبا أن يمسك كاتبنا قلمه ويكتب أقاصيصه وحكاياته للأطفال الذين هم كالفقراء تماما أبرياء، وفي شوق بالغ إلى المعرفة والأحلام، ويكرس وقتا طويلا لهذا النوع من الكتابة الذي يفتقد المجيدين فيه.

بحر ممتلئ بالأحلام

وتجيء روايته الأولى "حلم على نهر" حاوية - بوضوح بالغ - لمعتنقه الفني والفكري، ومبرزة لتفرده الأسلوبي، وانحيازه لذلك المنحنى في الكتابة، الذي ربما أغراك بأن تصمه بأنه أسلوب بسيط يبتعد كثيرا عن التركيبية، ولكنك عندما تتوغل في القراءة المتأنية ستكتشف أن الأمر ربما حوى مكيدة عظيمة من الكاتب - إن جاز التعبير - حيث يسلبك كل انشغال بالخارج، ويهبط بك في عمق لا قاع له لبحر يمتلئ بالأحلام، وربما ظننت أنك لن تصعد مطلقا على السطح لتتحدث إلى الآخرين بما رأيته وكابدته، ولكنك - بعدما تنهي الصفحة الأخيرة - تجد نفسك فوق السطح، وقد صعدت بذات المهارة التي غصت بها إلى الأعماق، وساعدك في ذلك هذا الحشد اللا نهائي من العبارات الشاعرية الموحية والمعبرة عن مقتضى الحال، فسيد ذلك الشاب الذي يعيش وزوجته جميلة وأولاده في بيت الأسرة المكدس بالأب والأم والأخ وزوجته والشقيقة التي فاتها قطار الزواج، يحلم بالانعتاق من تلك الحارة التي تخاصم الشمس والهواء النقي والهدوء، ويشاركها البيت المزدحم بالأهل مع ما يحدثونه من ضجيج ومشاحنات ومكابدات، وهو قد اختار لأحلامه شاطئ النهر، ويناجي أمواجه المصيرية، وبينما هو ذات يوم على ذلك الشاطئ المحبب له، والذي يبتعد عن شريط سكة حديد الدلتا يقذف بحصاة في الماء، يفاجأ بالمياه تنشق ويخرج منها ذلك الصياد الخرافي الذي يستوطن النهر، يخرج إليه راكبا بغلته الأسطورية، ويوصيه أو يشجعه على تنفيذ الحلم : أن ابن بيتا هنا على شاطئ النهر، واترك حارتك التاريخية وأهلك الذين لا يعرفون كم أنت أيها السيد حالم بعالم جديد متحرر من أوزار الفقر وقيود الارتباط بالهواء العطن والأزقة الموحلة.. ويعود سيد إلى بيت العائلة مرتجفا هلعا، ملتمسا الدثار والدواء الذي يستخدمه في مثل تلك الحالات، بينما جميلة الزوجة تعد له الأغطية والبلسم الذي يتم تركيبه من إرشادات كتبه التي يداوم القراءة فيها، ثم ينهي إلى جميلة ما انتواه بشأن بناء البيت بجوار النهر. وينفذ سيد حلمه في البناء، وينتقل إليه وعائلته الصغيرة، إلا أن فصل الشتاء بأمطاره الغزيرة يجبره على بناء بيت آخر بعيدا عن منطقه الفيض لمياه النهر التي أذابت الجدران الطينية وتوشك أن تجرفه وعائلته، وتمر السنون - بعد بناء البيت الثاني بعيدا عن النهر الذي تم ردمه - ويجد أنه " في الخارج تلاصقت البيوت، وتكدست الدكاكين، ضاقت الشوارع والحارات، اختفى مكان النهر تحت البيوت التي قامت مستندة على بعضها كأنها على وشك الانهيار، متداعية، يحط التراب على نوافذها المتواضعة، والقلل على الشبابيك، والثلاجات لا تعمل بسبب ضعف التيار الكهربائي. سنوات تعاقبت بأحمال من الهزائم، وكل سنة تترك آثارها من بقايا عفنة، وتفجرات مواسير المياه، وطفح المجاري. كل سنة تترك بركة آسنة، ومزيدا من عفونة الحيوانات النافقة. السنوات تمر خالقه أكداسا من الزبالة، وكناسة البيوت تحيط بالبيوت " ص 230.. وهكذا يتحول المكان الذي حلم به سيد إلى صورة مكررة مما كان يكابده في الزمن الأول، ثم هو يتوقف عند هذا الواقع ليحلم من جديد بالبيت والشوارع الواسعة والتماثيل والنافورات والمكتبات، بينما أصدقاء ولده يتلون الشعر ويستمعون إلى أحلام بعضهم بعضا !.

حلم بسيط لرجل بسيط

هذا هو الحلم الذي كتبه جار النبي الحلو، حلم بسيط لرجل بسيط، أن يبني بيتا نظيفا يعيش فيه مع عائلته الصغيرة، ولكن هل يستحق هذا العمل أن تكرس له رواية تتداولها الأيدي، وتستوعبها العقول والوجدانات؟ كان يمكن أن تتضمنه - أي الحلم - قصة قصيرة، أما وقد ضمته رواية كاملة، فلا بد أن الأمر أكثر من حلم ببيت على نهر.. يحصر جار النبي الحدث الرئيسي لروايته في واقعة بناء البيت على شاطئ النهر وخلفه سكة حديد الدلتا، ثم هو - أي الكاتب - يقدم الحدث والأحداث المتعلقة به أو المتزامنة معه بداية من الحرب العالمية الثانية - لاحظ أن البيت الثاني الذي بناه سيد بعدما جرفت المياه البيت الأول، مكونة جدرانه من الطوب المتخلف عن هدم مخبأ من المخابئ التي أقامتها الحكومة لدرء الخطر عن الناس من الغارات الألمانية - ومن ثم فإن المساحة الزمنية التي تستغرقها الرواية تمتد إلى ما بعد يوليو 1952، الأمر الذي يشي بأن الكاتب سيشرع أو ربما يكون قد شرع في كتابة الجزء الثاني من الرواية، لأنه هنا في هذا الجزء ينهيه بعودة كل ما كرهه سيد من تكدس وازدحام وروائح عفنة إلى المكان الذي انتقل إليه هربا من الحارة القديمة، مما يعني أن الأمر يستلزم كفاحاً آخر على يد أولاده ومنهم جابر الذي ورث بعضا من طباعه ورومانسيته !.

نداء النهر

ويقدم جار النبي الحلو بطل روايته سيد الحالم الذي يملك طاقات جبارة على الحلم، والذي يكره كل افتئات على تلك الأحلام، حتى أنه يغادر منزل الأسرة، ويستغني عن ا لأب والأم والأخ، وهو دائما يخلف وراءه "اختناق البيوت وصراخ العيال ورائحة الصنان " ملبيا نداء النهر له، ذلك النداء الغامض الذي يستبد به دوما، لذا يرفع عقيرته ليسمع النهر : " أنا آت أيها النهر.آت"

وهو في توجهه إلى النهر ملبيا النداء الذي يستغرق كل كيانه يود " لو يحتضن النسمة الرقيقة، ونقيق الضفدع، وهسيس الشجر والحصى في الأرض، ولو أن لرائحة البرتقال أكفا تحمله وترمي به في النهر، يغتسل، ويعوم عمرا بأكمله، ووراءه يعوم الأوز والبط والسمك والمراكب المسافرات ". ص6.

ولا بد أن القارئ سيدرك أن الكاتب يوضح لمتلقي روايته أساسيات الحلم وكذا جوانيات الحالم سيد الذي يتوق إلى المياه المتدفقة والجنية الجميلة وشجرة التوت الضخمة، والتأمل في أعماق النهر، والإنصات لما عسى أن تهمس به إليه الطبيعة، لذا فهو يتساءل : " ما بال السمك نائما في هذه اللحظة الفريدة في هذا الزمان؟ ماله لا يحتفل بي.. أنا سيد.. الذي جئت من المقابر والحارات الضيقة ومن خنقة حياة أبي" ص 8. وهكذا نعرف أن سيداً رجل حالم، وحياته موزعة بالقسطاس ما بين الواقع المر الذي يعيشه في الحارة الضيقة واستبداد الحياة به، وبين أحلامه وقراءاته لألف ليلة وليلة ومصطفى كامل وأحمد عرابي، ثم إنه محاط بشخصيات لها فاعلية في دفعه نحو تحقيق الحلم - بناء البيت على شاطئ النهر- فالشخصية الأولى كانت الصياد الذي انشق عنه الماء وخاطبه قائلاً :

"أنا صياد.. عندي مركب وبغلة.. حين أزهق من المركب أركب البغلة وأحيانا كثيرة أظل سابحا في النهر ضد التيار.. أظل الأيام والليالي سابحا. أنام في القاع مع السمك، أستأنس به، ويستأنس بي، وبعد أن أفرغ كل حكاياتي للسمك، أمضي سابحاً ضد التيار، وأركب بغلتي ومركبتي حتى أعثر على كنزي ". ص11.

"- كنت نائما مع بغلتي في قاع النهر، وكانت تحكي لي عن رخ تافه نسج حول نفسه آلاف الحكايا الكاذبة، وكنت في غاية الانسجام حين وقعت فوق صرتي حصاة صغيرة، فنهضت مثل فرسان أول الزمان، وامتطيتها، وقببت بها على وجه النهر لأراك، أنت الذي تحلم بأن يكون لك بيت بجوار النهر.

رجع سيد خطوة للوراء، وقال :

- هنا..أريد البيت هنا.. بعيدا عن القبر.. أنا والبيت والنهر والسماء..هنا في الوسع..هل أخطأت يا سيدي ؟ ". ص 13.

وإلى جانب الحلم بالبيت يمتلك سيد طاقات غير عادية، فهو قد نجح في طرد الثعبان الذي سكن عشة الدجاج وحال بين جميلة وجمع البيض، ويتواصل مع القط الأسود ويكلمه، ويفهم لغته، ولذا فهو شخصية ساحرة، يمتلك الثقافة ويحيط بعلوم الطب الشعبي، وبه مس من العالم السفلي يجعله على وفاق مع كائناته، "ويحب رائحة دخان الخبيز، ودخان راكية النار، ولا يحب القطار حين يقف، وبكى ليالي من أجل الأخت العانس، بل إنه يبكي على شقيق جميلة" ورغم ذلك يحلم "بالبيت الذي يعطيك قوة الحياة، مهما مرضت أو تألمت، فالبيت يلمك، يحضنك بين دفء أنفاس أولادك، لا يطردك أحد، لا تبحث كالغريب عن حجرة "ص 34.

وبقدر حماس سيد لتحقيق حلمه يحيطه الكاتب بالشخصيات التي تحلم هي الأخرى، فصديقه أبوسعدة الفلاح لا يحلم "سوى بالبهائم والزرع والحصد" وخاله الدسوقي ذلك اللص الشريف المطارد دوما من سلطات الاحتلال والشرطة يحلم بعالم ينمحي منه الفقراء، لذا فهو يسرق من الأغنياء ليعطي الفقراء، ثم هناك زينهم ذلك الصديق الذي ساعده في استكمال المنزل، وزراعة الحديقة، ولكن قطار الدلتا صدمه ومات.

الرواية والرمز

وتأمل هؤلاء سيعطينا البيان الشافي عن شخصية ذلك الحالم العتيد، فالخال لص شريف منحاز إلى الفقراء، وأبوسعدة فلاح يرفده بالخبرة الزراعية، وزينهم الذي قتله قطار الدلتا يسانده بالصداقة والتفهم، ثم هناك الكتب: تذكرة داود وألف ليلة ومحمد علي باشا "كان دائما يقول محمد علي باشا" وذلك الرجل الساحر هو رمز النهضة، وهو الذي يشي وروده بممكنات الحلم العام الذي يرى سيد أن حلمه الصغير جزء منه، فلقد أسس محمد علي باشا مصر الحديثة، وها هو سيد يؤسس المحلة الكبرى الحديثة ببنائه للبيت الحلم عند النهر، التي ستكون كالمدن الكبيرة "في أفلام عبدالوهاب، للشوارع اتجاهان، والحدائق مزهرة طول العام.. المحلة ستصبح مدينة كبيرة، وسيكون بها دار سينما تعرض أفلام عبدالوهاب. وأم كلثوم " ص41. وقد اهتم جار النبي الحلو أيضا اهتمام بالجو الذي يضفي على الرواية مسوح الحلم ومشروعيته لدى بطلها باعتبار أن تحقيقه سينتشله والآخرين من الواقع المؤلم الذي يعيشه، ولذا فالتفرقة بين الفانتازيا المستشرية في الرواية والواقع صعبة للغاية، وذلك بسبب أن شخصية بطل الرواية تنطوي على قدرة صنع الحلم وتحقيقه، وفي ذات الوقت العيش في الواقع وربما مهادنته، فقد مارس سيد التفاهم مع الأم الغاضبة عليه لتركه المنزل، والأب الناقم عليه لتمرده على النظام الأسري، وكامل الأخ الذي استبد بالمنزل بعد رحيله والذي كانت تمارس زوجته خديجة سلطات الزوجة المتفاهمة مع حماتها ضد جميلة.. الأمر الذي حقق توازنا لدى الشخصية بحيث لا يمكنك استهجان مسلكها في خلق العفريت أو الصياد أو الهاتف أو الاندهاش من القدرات الخارقة لديه مثل حديثه مع القط أو تغلبه على الثعبان أو رؤيته لما لا يستطيع أن يراه الآخرون، لأن الأمر كله تركز في أن يحقق سيد حلمه في أن يحتويه وزوجه وأولاده منزل متواضع يتمكن فيه من تربية أولاده، ويقرأ ويرسم ويلون، لكأن المعنى الذي يريد جار النبي الحلو إيصاله إلينا هو أن هؤلاء الفقراء إذا ما أتيحت لهم الفرصة فسيثبتون أنهم أناس يبدعون، وليسوا كما مهملا كما يراد لهم !.

والرواية "حلم على نهر" تحتشد بالعديد من الرموز/ الأحلام، والاستطراد في عرضها وتحليلها ربما استغرق منا كتابا يعادلها في الحجم، لأنها حياة كاملة لشخصية ومدينة وربما وطن، لذا فالتوقف عند هذه النقطة مفيد تماما للقارئ، حتى لا يفلت المعنى الذي أريد للرواية أن تخدمه، معنى لحلم متواضع لإنسان في وطننا، تأويله وتحققه يؤديان إلى الاقتناع التام بأن روائيا كبيرا على وشك أن يأخذ مكانه إلى جوار الأعلام من صناع هذا الديوان الرائع لمبدعينا على امتداد الوطن الكبير من المحيط إلى الخليج.

 

محمود كساب

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




غلاف الرواية





جار النبي الحلو