الشعراء وعوامل الإبداع الفني حالة الشاعر الألماني "شيلر" عزت قرني

الشعراء وعوامل الإبداع الفني حالة الشاعر الألماني "شيلر"

ربما كان المخاطب الأول في هذه السطور هم الشعراء الشبان، بل وشباب الأدباء عامة وسائر من يطمح إلى الإنتاج الفني سواء كان لغويا أم تشكيليا أم موسيقيا.

نقول إننا نتحدث هنا إلى هؤلاء الشعراء، والفنانين بعامة، الشبان الذين يتساءلون عن عوامل الإبداع، من أجل أن يوفروا لأنفسهم الحد الأقصى منها. ونستطيع أن نتحدث الحديث النظري عن عوامل الإبداع، ولكنه سيظل حديثا مجردا، ونستطيع أن ندلهم إلى القراءة عن حياة الشعراء والفنانين ليأخذوا منها العبرة، وإن كانوا في هذه الحالة سيتركون لأنفسهم بغير هداية. لهذا، فإننا سنلجأ في هذه السطور إلى المزاوجة بين بعض الإشارات النظرية إلى عوامل الإبداع وبين التطبيق على حالة شاعر ألماني عظيم، معتمدين على مادة من كتاب متميز صدر بالعربية منذ وقت قريب وكتبه باحث متمكن يعتمد على اختياره وعلى حكمه، ذلك هو كتاب الدكتور مصطفى ماهر: "شيلر. حياته وأعماله"، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1987. ويعرض الكتاب لتطور حياة شيلر مع التأكيد على ظروف ظهور أعماله الشعرية والمسرحية وغيرها من خلال تلك الحياة، وسوف نقوم باستخلاص بعض الدروس من حالة شيلر التي نستطيع معها إعطاء بعض "اللمم" للحديث النظري عن عوامل الإبداع، وهو أشبه ما يكون "بالعظام" المجردة.

إن الشرط الضروري لكل إبداع، في أي ميدان من ميادين الفن بل وميادين الفكر والعلم والنشاط الإنساني عامة، هو وجود الموهبة، أو إن شئت قلت "القدرة" الأساسية على نوع معين من الإدراك والتصور والفعل. ولكن وجود القدرة وحده لا يكفي، فلا بد من التجارب ومن المعارف ومن التدريب ثم تأتي ثالثا ظروف الحياة، وهي قد تكون إيجابية مساعدة أو سلبية معوقة، وربما أمكننا استخدام مفهوم "الحظ" وهو المصادفة السعيدة، في هذا المجال أو في قسم منه على الأقل. ماذا يعني هذا كله؟ هو يعني أن الإبداع الفني يتم من خلال حياة الفنان سائرها، وتدخل فيها وعصره وبيئته كلها.

ظروف الحياة

ويدخل في باب "ظروف الحياة" : الأحوال الشخصية للفنان " أسرة، طبقة، صحة.. "، أنواع تجاربه، عمله ومصدر اكتساب الرزق، مدى عمق خبراته، الصداقات والخصومات، مصادر الإلهام، ظروف الكتابة أو الإنتاج الفني بعامة.. إلى غير ذلك. وإذا نحن نظرنا إلى حياة شيلر فربما نخرج منها بدروس ثلاثة أو أربعة من حيث علاقتها بإبداعه الشعري:

- الدرس الأول، والأهم، هو ضرورة المثابرة والحماس والإخلاص للأدب والفن، بما يجعل حياة الأديب، بل حياة كل فنان، معنونة كلها بعنوان فنه.

- الدرس الثاني، هو أهمية المعرفة الفعلية بالحياة وخبر جوانبها، بحلوها ومرها، وهو أمر قاسى منه شيلر، ولكنه أفاد منه أعظم فائدة في فنه.

- الدرس الثالث، هو أهمية الإخصاب المستمر لفكر الأديب ووجدانه، إما بتنوع التجارب أو بالقراءة المتوسعة المتزايدة أو باللقاء مع شخصيات عظيمة. وكان حظ شيلر من هذه الناحية الأخيرة عظيما: فقد أصبح "جوته " أديب ألمانيا الأعظم صديقا له ومحدثا على مر سنوات طويلة.

- ولعل هناك درسا رابعا تفرضه حياة شيلر، وهو دور الحظ أو البخت أو المصادفة السعيدة، الذي قد يؤدي إلى نتائج ذات بال في توجيه مسار الأديب وتحديد نصيبه من النضج أو العمق أو الشهرة، بما لا يدل دائما دلالة صحيحة على واقع قدراته وإمكاناته ، وتمثل هذا الحظ السعيد في حالة شيلر على إعجاب "جوته " به، على حين كان شيلر مزورا عنه في البداية.

ولد شيلر عام 1759 م، وتوفي عن أقل من خمسين عاما في 1805 م، بينما كان معاصره وقرينه " جوته " أكبر منه سنا وأطول عمرا، حيث ولد عام 1749 وتوفي عام 1832م. وقد وصفه - أي شيلر- بعض من رأوه في شبابه بأنه كان شابا أشقر الشعر، أزرق العينين، متواضعا، شديد الخجل. وكان ينغمر في عمله الشعري انغمارا شديدا يصرفه عن كل ما سواه، ومعليا لعمله على كل اعتبار آخر، حتى لو كان اعتبار الصحة. ومما يذكره الكتاب " ص 103- 104 " في هذا الصدد أنه اعترته مرة نوبة من نوبات الحمى، وأمره الطبيب بالتزام الفراش: " فلما وصلنا إلى القاعة سمعنا صياحا عاليا، ونظرنا، فماذا رأينا؟ كانت بالحجرة المظلمة شمعتان موقدتان، وكانت على المائدة أوراق. وكان شيلر يجرى في الحجرة جيئة وذهابا، في ملابسه الداخلية، ويلوح بيديه، ويصيح بكلام غير مفهوم. وصاح أبي فيه :... إنك ترهق نفسك!.. فلما التقط شيلر أنفاسه قال إنه كان متماسكا مع المغربي - شخصية المغربي في مسرحية "فييسكو"- وأنه لا يمكنه أن ينسجم في الدور إذا نفذ ضوء النهار إلى حجرته ".

الإرادة البشرية

كان شيلر يشعر بالضيق وباليأس بسبب ضآلة موارده المالية، حتى جاء عام 1788 م ليجد ما يطمئنه على دخل مستقر، وبهذا التحول في ظروف الحياة انقلبت عواطفه ومشاعره انقلابا شديدا: كان شيلر حتى ذلك الوقت قد كافح، وكانت كل كتاباته مختلطة بنغمة جدالية عنيفة: إنه يصارع الطغاة، ويصارع الطبيعة المنحرفة.

ويصارع ضيق الأفق. وها هو ذا "الآن بعد الشعور بالاطمئنان إلى دخل مالي مستقر" ليتوق إلى عالم الجمال والعظمة والانسجام.

وتحسنت الأحوال مع شيلر أكثر وأكثر، فاستطاع الحصول على منصب للأستاذية في جامعة "يينا" الألمانية الشهيرة، وعين أستاذا للتاريخ. وهذه الواقعة تثير سؤالا مهما عند دارس ظاهرة الإبداع : هل يمكن أن يتماشى الخلق الفني مع ظروف مهنة التدريس أو البحث الأكاديمي، ولا بد من الصراحة: إن الجمع بين الأمرين صعب كثيرا. ولكن ها هو شيلر يريد أن يتفرغ للدروس التاريخية التي يتعين عليه أن يلقيها لقاء راتبه، ويقرر أن يأخذ إجازة من الشعر. ولكن التوق إلى الإبداع الشعري يعود ليسيطر عليه، وكأن تلك الإجازة الأكاديمية التاريخية ما جعلته يبتعد عن الشعر إلا ليقترب منه أكثر وأكثر، وعلى نحو أخصب وأخصب، لأن الدراسة التاريخية بين أضابير المراجع والمخطوطات أمدت الشاعر العبقري بمادة ثرية استخدمها في صنع العديد من مسرحياته الشعرية.

حياة شيلر مجلى لأهمية الإرادة، وهو نفسه يقول عن الإرادة إنها لا تظهر إلا إذا كان هناك مجال لإبرازها، وهو مجال التصادم والتعارض مع الآخرين على الأخص. ويرى شيلر أيضا أن الإنسان قادر على أن يضع أمامه من الصعوبات بما يناسبه ويوازنه من الإرادة، وتتخذ الإرادة في هذه الحالة صورة السير إلى القدر المحتوم سيرا حرا.

إن الإنسان الحر عنده واقف أمام أمرين متساويين: إما أن يسمو على الطبيعة كقوة أعظم منها، وإما أن يكون منسجما معها انسجاما تاما. هذا الإنسان الحر، وهو "البطل" بلغة المسرح، يبرهن على حريته، في رأي الشاعر، عندما يقرر بإرادته الحرة أنه يريد ذلك الشيء الذي يستحيل عليه مع ذلك قهره.

وهناك جانب بارز في حياة شيلر، يمكن أن نسميه سيكولوجية العلاقات الفنية فيما بين الفنانين. وهي علاقات تتراوح ما بين الغيرة والإعجاب، بين الإعاقة والمعاونة، فكم من مسرحيين أعاقوا حركة شيلر، وكم من أصدقاء مخلصين بذلوا للشاعر من أموالهم، حتى دون أن يعرفوه بشخصه، ولكنهم كانوا قد عرفوا أعماله فأدركوا عبقريته، واعتبروا واجبا عليهم مساعدته، ليس فقط بعرض صداقتهم، بل وكذلك بتخصيص دخل سنوي ثابت يصرف منه ويطمئن به على مستقبله القريب.

دور الصداقة

وتقوم الصداقة بدور متميز في حياة شيلر، وكان لبعض أصدقائه تأثير عظيم على حياته، ومن حظه السعيد أنهم كانوا من كبار المؤلفين الألمان. ومنهم "فون همبولت "، الذي داوم حتى النهاية على مساعدة الشاعر وعلى الإعجاب به، و"هردر" فيلسوف التاريخ المشهور، و"فشتة" الفيلسوف المعروف بكتابه الذائع الصيت المسمى "رسالة إلى الأمة الألمانية"، وهو الذي كان يعتقد أن شيلر، لو كان قد عكف على الفلسفة وتفرغ لها ونظم آراءه وأفكاره في صددها ودونها، لكان قد خلق فيها مذهبا جديدا يتفوق به على مذاهب عصره الفلسفية كلها، ولأصبح أكبر فلاسفة زمانه. ولكن أعظم اسم بين أصدقاء شيلر هو اسم "جوته " بغير منازع. وتثير هذه الصداقة أسئلة عديدة، منها: هل يمكن أن تقوم صداقة حقيقية بين شعراء من الطبقة الأولى مثلما هو حال هذين الاثنين؟ وألن يكون لأحدهما، الأكبر سنا مثلا أو الأعظم شهرة، تأثير سلبي على الثاني يجعله يسير تحت لوائه، فيفقد بهذا حريته وأصالته ومن ثم إبداعه الحقيقي؟.

ومن الطريف أن شيلر بدأ بالازورار عن جوته، وكان يشعر صراحة بأنه، أي شيلر، أقل منه. ويقول شيلر عن جوته في هذه المرحلة: " لو كان في أن أكثر من التردد على جوته لكان في ذلك شقائي... وأنا في الواقع أعتقد أنه أناني إلى درجة غير عادية، وأن له موهبة تمكنه من السيطرة على قلوب الناس، ومن جعلهم يرتبطون به، لما يفعله من صنائع صغيرة وكبيرة. ولكنه يعرف كيف يظل دائما متمسكا بحريته. وهو يحب أن يعلن عن حياته، ولكنه يفعل ذلك كآلة، وبدون أن يفقد ذاته، وهذا تصرف يبدو لي مرتبا مقصودا، وأنه محسوب ليأتي بأكبر متعة يمكن أن ينالها حب الذات.. وأنا لهذا أكرهه، على الرغم من أنني أحب فكره من كل قلبي وأكبره.. لقد أثار فيّ خليطا غريبا من الكره والحب، تارة أود أن أقتل فكره، وتارة أحبه من كل قلبي. وأنا أعلق الكثير على حكمه ".

تقسيم الشعراء

ولعله من المفيد أن نعرف، أن شيلر يقسم الشعراء والأدباء جميعا، في كل زمان ومكان، إلى مجموعتين : فطريين وعاطفيين. وهو لا يفرق من حيث القيمة بين المجموعتين، بل يعزو كون الشاعر فطريا أو عاطفيا إلى ظروف العصر والثقافة والمصادفات أو الحالة النفسية. والشاعر الفطري يتملكه موضوعه تملكا تاما، فتنحسر ذاتيته، ويصبح كله طبيعة، أما الشاعر العاطفي فيبحث عن الطبيعة ويسعى إليها، فهي أيضا بالنسبة إليه الهدف والمرام، ولكنها أصبحت مثلا أعلى، خلقه هو في فكره، واندفع إليه، وأتى له أن يصل إليه إلا بالجهد؟ ولكل شاعر قدره: "فقيمة الشاعر الفطري تكمن في الوصول المطلق لعظمة نهائية، وقيمة الشاعر العاطفي تكمن في الاقتراب من عظمة لا نهائية".

من الانتماء إلى العاصفة

لقد نقلت صداقة جوته شيلر، أو ساعدت على نقله، من مرحلة الانتماء إلى تيار "العاصفة" إلى المرحلة "الكلاسيكية" التي تهتم بالوحدة والانسجام والاعتدال والإنسانية. وتيار "العاصفة"، في الأدب الألماني حينذاك، يقوم على تغليب للعبقرية، التي تعبر عن أشياء لا يستطيع التعبير عنها غيرها، على العقلية التي تلتزم بحدود جامدة، وتغليب للأصالة والعنصر الأولي القوي الخلاق الذي يبصر بنور الكون، وتغليب للطبيعة في الأحاسيس الفردية وفي النظم الاجتماعية على القيود التقليدية الحضارية والقيود الاستبدادية الطاغية، وتغليب القلب والحدس والغريزة على الفكر والتدبير، وتغليب البساطة على التعقيد، وتغليب للبسطاء من البشر على الخبثاء وتغليب البدائيين على المتقدمين. وهذه الحركة رد فعل للاتجاه العقلي الصارم الذي عرفته ألمانيا في خلال معظم القرن الثامن عشر الميلادي، وساعد على ظهورها فكر "روسو" الفرنسي القائل بعودة الإنسان إلى الطبيعة، ودعوته إلى تمجيد حالة الفطرة، ثم ظهور نظرية "العبقري"، التي ترى أن العبقري له الحرية المطلقة، فما ينبغي تقييده بقيود، بل يكون من حقه أن يندفع كالعاصفة.

ونختم هذا الحديث عن بعض عوامل الإبداع الشعري، والفني عامة، التي نرى تطبيقا لها في حياة الشاعر الألماني شيلر، بملاحظتين. الأولى تخص دور الثقة بالنفس وأهمية الوقت واستثماره إلى أقصى حد مع الاهتمام ببذل الجهد إلى أقصى درجة، يقول شيلر في هذا الصدد: "إن النقص الذي تبينته في بالمقارنة مع الآخرين نقص يمكنني أن أعالجه بالجهد والمثابرة.. وينبغي عليّ، من أجل أن أصل إلى ما أستطيع وإلى ما يجب عليّ، أن أصلح فكرتي عن نفسي، وأن أكف عن التقليل من شأني في تصوري الذاتي. صدقني، إننا نستطيع أن نفعل الكثير، ولكننا لم نتبين قدرتنا، وقدرتنا هي الوقت. إننا عندما نستغل الوقت استغلالا دقيقا سليما نستطيع أن نغير أنفسنا تغييرا كبيراً يثير العجب".

أما الملاحظة الثانية، وهي خاتمة هذا الحديث بالفعل، فإنها نوع من التحذير: فلا ينبغي على القارئ الشاب أن يظن أن حياة أي فنان وظروفه وطرائفه هي نموذج عام للجميع، إنما هناك دائما لظروف الخاصة الفريدة لكل فنان على حدة، ومع ذلك فإن هناك دروسا عامة يمكن أن نستخرجها بنوع من التجريد وأن نراعيها في حياتنا كل في ظروفه الخاصة الفريدة. بعبارة أخرى: لا ينبغي للأديب الناشئ أن يظن أنه لن يصير أديبا إلا إذا سار على أنموذج هذا أو ذاك، وكانت حياته على شبه حياة ذاك، بل عليه أن يستدر العبرة وأن يوجه مسار حياته الفريد على نحو يضمن النجاح في الإبداع.

 

عزت قرني

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




شيلر