رسالة من إليانورا عوض شعبان

رسالة من إليانورا

بياض الثلج في قمة الجبل يشعره بالخواء. ولا نقطة سوداء توحي إليه بأن ثمة شيئا ما داخل تلك الصحراء الجليدية. كل شيء ابيض. في هذا البياض تنعدم الألوان فتغدو الموجودات متشابهة. الصقيع يتفاقم في دماغه. ويتحسسه ساريا في عروقه فيجمد أطرافه. هل يمكن أن يتجمد قلبه فيموت وحيداً ههنا في بيته البارد، برغم ضيقه في أطراف قريته النائية؟

هذه القرية البائسة بل الميتة في مثل هذا الفصل من السنة هي القرية ذاتها التي كنت أراها زاهرة نضرة تضج بالحياة في نهاري وليلي، هناك في ديار الغربة. كانت وضاءة تتوهج فيهـا الألوان الزاهية بقدر ما كان خيالي وضاء متوهجا في تلك البلاد البعيدة التي عشت فيها بجسدي فقط، لأن روحي كانت تحوم هنا، حول هذه القرية بالذات.

يبتعد قليلا عن الشباك. البرد فعلا لا يطاق. قرب (الصوبا) العتيقة دفء أكثر. في بيتي الفسيح الدافئ في بوينوس آيريس كانت المدفأة أيام الشتاء تشيع جوا من الغبطة أين منه هذا النزر الضئيل من الدفء؟

هل اتساع البيت والدفء المنبعث من المدفأة وحدهما الأثيران لديه فيما هو قابع ههنا في هذا البيت الضيق البارد؟ أو بالأحرى، هذا الكوخ الكبير الحاوي. من الناس والمفروشات باستثنائه وأمه العجوز، بعض الأرائك الخشبية القديمة المهلهلة وكومة من الفرش القطنية مع خف من ذات الفصيلة ، وخزانة واحدة دهرية وسرب حديدي فوقه فراش ولحاف من القطن إياه لا يوفران له ما ينشده من دفء في صقيع الليل، برغم الصوبا التي عاصرت جده وأباه وخلفاها له في هذا الركن لأنهما كانا يعلمان أنه لا بد راجع إلى البيت الحبيب.. إلى القرية العزيزة... إلى الوطن الغالي.. أما صليا ودعوا الله بأن يقطع نصيبه من تلك البلاد ويرده سالماً غانماً ؟

لا، لم يردني الله لا سالمًا ولا غانمًا.. فالمرض المزمن الذي أعاني منه، هو دليل على العافية؟ أنا مصاب بتصلب الشرايين، والبرد قد يقتلني يوماً. كما أن عودتي إلى هذا المنزل الكئيب الذي يفتقر إلى أبسط مستلزمات الواحة، خصوصاً التدفئة، دليل آخر على أني ما عدت غانمًا.. آخرون كانوا مغتربين مثله في الأرجنتين يعيشون الآن في العاصمة في شقق أنيقة فيها كل ما يطلبه المرء ويشتهي تمامًا مثل بيوت بوينوس آيريس. لا فرق إلا في اللسان، وبعض المناكدات من الجيرة، والمنغصات في الشارع.

يبسط كفيه باتجاه فوهة الصوبا فيحس ببعض الدفء لكن الدفء الحقيقي هناك في ذلك البيت الفسيح والمريح قرب إليانورا والبنتين، سوسانا وآيدا.. أي سوسن (بحسب اجتهاده اللغوي) وعايدة مثلما رغبت في تسميتها.

يقرب يديه أكثر من الصوبا بعدما زاد إحساسه بالبرد وتفاقم شعوره بالخواء. ما الذي أتى به إلى هذه الأصقاع؟ مرحبا وطن! الوطن حيث تحلو الحياة.. وهل تحلو بلا دفء ولا خطوات المرأة الحبيبة في أرجاء البيت، والبنتين الغاليتين؟.. كيف تركهما هناك مع أمهما وارتحل عنهما؟ أما كان يقول إنهما أغلى من روحه ؟ يمسح دموعا غشيت عينيه. إليانورا، سوسانا، آيدا.. ماذا تفعلن الآن؟ ويحي.. لماذا عدت وتركتهن هناك؟

ويتذكر أنه ترك لهن مبلغا من المال يكفيهن لمدة سنة. وهذا سبب عودته إلى بلاده من دون ثروة طائلة، كما فعل الآخرون. صحيح أنه أنشأ دكانا في القرية حسب نصيحة بعض أقاربه، لكن هذا الدكان يكاد لا يكفيه لتأمين قوته وقوت أمه. فالسكان قلة في الشتاء، ومعظمهم يتبضعون من المدينة.

وحسنا فعل، إذ لولا هذا الدكان لمات جوعا فمن أين كان سينفق على نفسه وعلى أمه بعد موت أبيه؟

أمه عند أخته المتزوجة من ابن عمه. إنها تقترب من وضع حلها ويجب أن تكون الأم إلى جانب ابنتها. من يعول أمه سواه!

يقرب يديه أكثر من الصوبا حتى لتكاد أن تلسعهما بحديدها الحامي لكن إليانورا وحدها هناك ولا معين لها إلا الله، كيف تركت أنا طفلتي؟ على من تركتهما مع أمهما؟ هل كنت حقا أفكر بالعودة إلى بوينوس إيزيس؟ ولماذا جئت من دونهن؟ اشتياقي إلى الوطن والأمل هو الدافع لعودتي، أم سعيي إلى الزواج من خديجة التي قلبت خلقتها بوجهي بعد انتظار خمس سنوات يبدو أنها ندمت عليه كثيرا..

يتذكر الآن أنه لم يخف عن أهله نبأ زواجه في الغربة وإنجابه طفلتين، إلا لأنه كان يمني النفس دائما بالزواج من خديجة. ذات يوم وما الغرابة في ذلك؟ كثيرون فعلوا مثله تزوجوا هـناك ثم تركوا زوجاتهم وبنيهم وقفلوا عائدين إلى قراهم ليتزوجوا ثانية من حبيباتهم اللائي عاهدوهن على الزواج. الإقامة في ديار الاغتراب ليست أكثر من محطة لجمع المال فقط ولا بأس من الزواج من أجنبية مؤقتا.. الزواج الحقيقي هو هـنا، من ابنة قريته ورفيقة الزمن الماضي.

يعود إلى الشباك فتجوس عيناه في الأفق الذي لا يبين منه إلا الجبل المغطى بالثلج. إليانورا بنصاعة هذا الثلج إنها متعلمة وأجمل من خديجة التي رفضته بعدما اكتشفت أنه لم يعد بما وعدها به من ثروة. لماذا هاجر خمس سنوات ليكون مآله هذا الدكان البائس في القرية والذي لا يكاد يكفيه وأمه؟ أين البساتين والكروم التي وعدها بها حين يعود؟ وهل يعقل أن يصوم المرء طيلة النهار ليفطر على بصلة؟

تعتريه قشعريرة. أهو البرد أم الإحساس بالإحباط؟ لقد فضلت على رجلا آخر مع أنه جاهل ودميم الخلقة وأكبر مني سنا ولم تكن تعرفه من قبل لكنه ثري، عاد من إفريقيا ومعه مال كثير. اشترى لها قطعة أرض وسجلها باسمها. كما منحها مبرومتين ودزينة أساور من الذهب عيار 22 قيراطا.

البرد أمام الشباك لا يحتمل، فعاد إلى الصوبات كيف أستطيع البقاء في هذه القرية مع هذا البرد القارس؟ في الأرجنتين برد أيضا لكن هناك تدفئة كاملة في بيتي يكفي أن تخطر إليانورا بقامتها الممشوقة ووجهها الوضاء أمامي، وأرى سوسانا وايدا تلهوان قربي لأحس بالهناء العائلي وبرغد العيش وبهجة الحياة. يمضي إلى الخزانة ويأتي بالرسالة الأخيرة من زوجته، ويعود في مكانه لصق الصوبا، سأترك الدكان لأمي فتتدبر أمرها وأعود إلى هناك فلن أستطيع البقاء هنا أكثر من ذلك.

يقرأ الرسالة التي يكاد يحفظ ما فيها من كلمات عن ظهر قلب:

" حبيبي خوسيه.. أيها الغالي.

لقد طالت غيبتك عنا وأنا والبنتان نكابد الشوق الشديد إليك. لقد وعدتنا بأنك ستكون هنا بعد مضي خمسة أشهر فقط على رحيلك عنا وها هي السنة تكاد تنصرم. ولا أكتمك بأني قلقة بعض الشيء عليك وأخشى أن يكون أصابك مكروه لأقدر الله. إذ إن هذه الرسالة هي الثالثة التي أرسلها إليك، ولم يردني أي جواب عن الرسالتين السابقتين .

كما لا أكتمك أيها العزيز بأني في عوز، فالنقود التي تركتها لنا نفدت منذ أشهر ويؤسفني إعلامك بأني أعمل الآن في أحد المتاجر، موظفة في قسم بيع أدوات التجميل والهدايا. المرتب ضئيل، لكنه يسد الرمق. الطفلتان بحاجة إلى التغذية وفي الملابس. الصعوبة ليست في ضآلة المرتب بقدر ما هي في ابتعادي عن البيت طيلة النهار. تصور مدى تعاستي حينما أتركهـما في عهدة جارتي الدونا أنخليكا التي تقبل القيام بهذه المهمة لقاء جزء من المرتب. أنا أدري أنها لا تعاملهما بحنان. لأنهما تشكوان من غلظة زوجها ومن شراسة أولادها. لكن ما العمل؟

بالأمس أخذت سوسانا إلى الطبيب في المستوصف الخيري. لا تقلق، مسألة إنفلونزا. إنما الدواء كلفني المبلغ المرقوم. آيدا لا تشكو شيئا لكنها لا تقبل على الطعام كغيرها من الأطفال. الطبيب قال إن ذلك ربمـا عائد إلى حالة اكتئاب تنتابها، مع أني أشتري لها ألعابا في بعض الأحيان. ترى هل ذلك لغيابي عنها طيلة النهار؟ أعود فأقول: ما العمل؟

عزيزي خوسيه.

أنا بخير وكذلك الطفلتان لكن ثمة أمورا يجب أن أرويها لك، مع أنها مزعجة. لم أستطع إقامة الاحتفال الصغير الاعتيادي بعيد ميلاد سوسانا هذا العام.

أنت تعلم كم تكلف الحلوى والمرطبات. وأنا مضطرة لشراء قطعة من اللحم لها مرتين في الأسبوع ، خوفا من إصابتهما بفقر الدم. لا تقلق أرجوك. مجرد وساوس تنتابني من آن لآخر بسبب عدم توافر الغذاء الكافي الغني بالبروتين، كما في السابق فهناك إيجار البيت وفواتير الغاز والكهرباء والماء إضافة إلى تكاليف الانتقال كل يوم بالأتوبيس أو قطار الأنفاق، إلى مركز عملي. نفقات تبدو ضئيلة. لكن لو جمعتها لوجدت أنها باهظة.

لقد اضطررت يوم الأحد الماضي إلى اصطحابهما في السينما فثمة فيلم للأطفال عرضت مقاطع منه على شاشة التلفزيون وألحتا علي بمشاهدته. وأنت تعلم كم يكلف الذهاب إلى السينما هذه الأيام. لا بأس، المهم أننا نحيا وإن كنا في شوق شديد إليك ففي الليالي حيث يستبد الأرق أحيانا بعيون صغيرتي وصغيرتيك أيضا ياخوسيه... تسألانني: متى يعود أبونا ؟ وأجد نفسي أحيانا، بل غالبا ، مضطرة إلى الكذب فأقول بأسى: هذا الأحد يعود والدكما الحبيب. وتنقضي الآحاد.. ونحن ننتظر، فيما يتراكم الأسى.. ومعه الكذب!

حبيبي خوسيه..أيها العزيز

يخيل إلى أنك لن تعود . وأنك ارتحلت عنا إلى الأبد. قد يكون هذا مجرد هواجس ، وساوس تنتاب من كانت في مثل حالتي لكننا لا أكتمك الحقيقة بت أخيرا شديدة الخوف. ماذا سيكون وضعنا إذا لم تعد إلينا لا سمح الله بذلك؟ تصور امرأة وحيدة في هذه الدنيا مع طفلتين؟ قد أكون مخطئة في وساوسي، لكن الغياب طال كثيرا يا حبيبي ، وأنا والبنتان في حاجة ماسة إليك فلو حدث لي مكروه، وكل امرئ معرض لصروف الأيام، ماذا سيكون مصيرهما... طفلتان في مدينة يقطنها سبعة ملايين ذئب؟ قد تكون هذه هي محنتي الكبرى في هذه الأيام، لأني لا أستطيع إبعاد هذا الكابوس عن تفكيري . فرجائي أن تعود بسرعة قبل أن يحدث لي ما أخشاه.. رحمة بطفلتيك على الأقل.

المحبة لك إلى الأبد
إليانورا

حاشية : فاتني تذكيرك بعدم إهمال دواء تصلب الشرايين والابتعاد عن التدخين والقهوة وتناول الملح والدهن والزيوت، ولا تهمل مراقبة فحص ضغط الدم باستمرار ".

 

عوض شعبان

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات