مستقبلنا رهن التسخين محمد أحمد الشهاوي

مستقبلنا رهن التسخين

إن أكثر ما يثير الخوف في نفوس العديد من المتخصصين في العلوم الجوية أن تتهاون الدول في التصدي للمتغيرات المناخية المقبلة، فلربما أصبح مستحيلا أن نتلافى أخطارها إذا تأخرنا في اتخاذ الوسائل اللازمة لإيقافها بالسرعة المناسبة.

قد يكون مفيدا أذن نوضح من البداية وجود نوعين من العوامل المسببة لتغير المناخ: أولهما لا حيلة لنا فيه وليس لنا عليه سلطان لأنه مرتبط بتغيرات دورية في مقدار الأشعة الشمسية الساقطة على الأرض وعدد البقع الشمسية، وتغير سرعة دوران الأرض وغير ذلك من العوامل الفلكية بالإضافة إلى عدد البراكين وقوة نشاطاتها، مما يخرج عن نطاق القدرة البشرية. أما العامل الثاني الذي يؤثر في تغيرات المناخ فهو راجع لعبث الإنسان سواء بإفساده مكونات الغلاف الجوي بما ينتجه من أنواع الملوثات المتعددة، أو بإزالة مساحات كبيرة من الغابات الاستوائية وتقطيع كثير من الأشجار أو بتعرية سطح الأرض من النباتات.

وتجدر الإشارة إلى أنه قد حدث بالفعل ارتفاع في درجة الحرارة المتوسطة للجو مقداره يزيد على نصف درجة مئوية منذ بداية النهضة الصناعية حتى الآن، أي خلال نحو مائة عام فقط، ولقد حدثت معظم الزيادة في السنوات العشر الماضية بحيث واكبتها تغيرات جوية حادة غير مألوفة في أحوال الطقس خلال نفس الفترة وانعكس أثر ذلك على كل نواحي الحياة على كوكب الأرض. فتأثرت مصادر المياه العذبة كما تأثر الإنتاج الزراعي، ومستوى سطح البحار والمحيطات وغير ذلك، بحيث أصبح من الصعب ذكر شيء لم تؤثر فيه تغيرات المناخ الحديثة.

التغير في درجة الحرارة

ويجدر بنا ألا ننقسم إلى متفائلين يرون أن الأمور تسير على خير ما يرام وستظل كذلك، ولا متشائمين يتوقعون المشاكل وحدوث الأضرار بسبب تغير المناخ. إن الواقع أخطر من ذلك بكثير، وعلى من يتصدى للقول بعدم تغير المناخ وعدم إمكان حدوث تغيرات جوية أن يثبت ذلك بما لديه من دراسات علمية جادة، إن وجدت، لأنه يوجد على الجانب الآخر المؤكد لحدوث تسخين جوي آلاف الأبحاث والدراسات استخدمت فيها أحدث التكنولوجيا من أقمار صناعية، وأجهزة كمبيوتر عملاقة، وطائرات مجهزة بالمعامل الكاملة. وقد أثبتت كلها أن درجة الحرارة الجوية المتوسطة آخذة في الارتفاع وسوف يستمر ارتفاعها ما دامت نشاطات الإنسان غير المسئولة مستمرة دون تغير، بحيث تصل الزيادة في متوسط درجة الحرارة السطحية للجو إلى أكثر من درجة مئوية ونصف درجة خلال الأعوام الأربعين القادمة.

ولقد أثبتت الأبحاث العالمية أن درجة الحرارة المتوسطة قد ارتفعت بالفعل بمقدار نصف درجة مئوية خلال الفترة من عام 1880 حتى عام 1940، إلا أنها انخفضت خلال الثلاثين عاما التالية بمقدار 0.2 من الدرجة المئوية، ثم عاودت الارتفاع بمعدل أكبر من سابقه خلال الأعوام العشرة من 1970 حتى 1980، فبلغ مقدار الزيادة ثلاثة أعشار الدرجة المئوية هكذا صارت المحصلة النهائية ارتفاعا في درجة الحرارة المتوسطة للجو مقداره ستة أعشار الدرجة المئوية خلال الأعوام المائة من 1880 حتى 1980 م.

وفي نتائج بعض البحوث الدقيقة بلغ ارتفاع درجة الحرارة المتوسطة على نصف الكرة الشمالي نحو 0.31 من الدرجة المئوية خلال الفترة من 1967 حتى 1986 بينما كانت الزيادة 0.23 من الدرجة على النصف الجنوبي.

قد يكون مناسبا الآن أن نضع بين يديك إيضاحا لدرجة الحرارة المتوسطة قبل أن نوضح آثار تغيراتها المحتملة على البيئة والتنمية بشكل عام.

درجة الحرارة المتوسطة

إن محطات الأرصاد الجوية في دول العالم تضطلع بقياس عناصر الجو كالضغط وسرعة الرياح، واتجاهها، ودرجة الحرارة، وكميات المطر، وغير ذلك. وتتم هذه القياسات أربع مرات يوميا في توقيتات أساسية موحدة توافق في جرينتش الساعة السادسة صباحا، الثانية عشرة ظهرا والسادسة مساء، ثم لحظة منتصف الليل. وتشترط المنظمة العالمية للأرصاد الجوية أن تكون للمحطات مواصفات محددة، وأن تتم القياسات بأجهزة متشابهة يتم ضبطها ومعايرتها دوريا حتى يتسنى عقد المقارنات بين العناصر الجوية في الأرجاء المختلفة من العالم. وتكون درجة الحرارة التي تسجلها المحطات المختلفة ممثلة في الواقع لدرجة حرارة الهواء عند ارتفاع ما بين متر ونصف إلى مترين فوق سطح الأرض بعيدا عن ضوء الشمس المباشر في مواقع جيدة التهوية.

ونظرا لأن سطح الأرض هو المصدر الأساسي لتسخين الهواء فإن تدرج الشمس في الارتفاع يؤدي إلى ازدياد تدريجي في درجة الحرارة مع فارق زمني يبلغ نحو ساعتين، إذ تبلغ الأشعة الشمسية أكبر قيمة لها عند الظهر بينما تصل درجة الحرارة إلى أعلى قيمة لها بعد ذلك بنحو ساعتين يتم فيهما تسخين سطح الأرض ثم تسخين الهواء القريب. وبعد أن تصل درجه الحرارة إلى أقصى ارتفاع لها تبدأ في النقصان تدريجيا حتى تبلغ قيمتها الصغرى عند حلول الفجر تقريبا. وتطبق عدة طرق لحساب درجة الحرارة المتوسطة خلال اليوم سواء بالاعتماد على - النهايتين العظمى والصغرى أول باستخدام قيمة درجة الحرارة للرصدات الأربع الأساسية أو باستخدام منحنى التغير اليومي لدرجة الحرارة، وتتكرر هذه العمليات للحصول على درجة الحرارة المتوسطة لشهر معين أو لأحد فصول السنة أو للسنة كلها. وباستخدام قياسات تزيد على عشرين عاما يتسنى الحصول على درجة الحرارة التي تمثل المتوسط المناخي لمنطقة معينة. أما بالنسبة للمناطق التي يتعذر إجراء قياسات العناصر الجوية فيها لبعدها عن العمران سواء لوقوعها وسط المحيطات أو في مناطق قطبية أو في الصحاري المختلفة فإنه يتم الاعتماد على أرصاد الأقمار الصناعية لمعرفة العناصر الجوية ومن ثم يمكن حساب المتوسطات المطلوبة. ولقد أثبتت الدراسات والأبحاث الجادة المختلفة أن المتوسط المناخي لدرجة حرارة الهواء حول الكرة الأرضية عند ارتفاع متر ونصف إلى مترين هو 17.3ْ تقريبا، ومعنى ذلك أن كمية الحرارة التي يحتويها الغلاف الجوي للأرض باستمرار تساوي على وجه التقريب مقدار ما يسقط من أشعة الشمس على الأرض في يوم واحد، أما ما يسقط خلال الأيام الأخرى فيتم رده إلى الفضاء بعد تداوله بين سطح الأرض وطبقات الغلاف الجوي. ولو أننا حسبنا مجموع ما ترسله الشمس من طاقة للأرض خلال عام كامل لوجدنا أنه يساوي مجموع ما تبثه الأرض إلى الفضاء الكوني المحيط بها فيما عدا جزءا يسيرا يتم اختزانه على هيئة أخشاب وما يشابه ذلك في النباتات المختلفة.

الاحتباس الحراري

هكذا كان الاتزان الدقيق للحرارة على كوكب الأرض إلى أن تدخل الإنسان بنشاطه العابث فعمد إلى تلويث الجو بمختلف الملوثات، كما عمد إلى إزالة كثير من الغابات والأشجار وتعرية سطح الأرض من النباتات الخضراء. وتؤدي هذه العوامل مجتمعة إلى رفع المحتوى الحراري للجو. فالملوثات الجوية تعوق تسرب الحرارة من سطح الأرض إلى الفضاء، وإزالة الأشجار والأعشاب تؤدي إلى نقص امتصاص ثاني أكسيد الكربون الجوي فيزداد تركيزه تدريجيا ويزداد بالتالي مدى الاحتباس الحراري في جو الأرض، وتشير العديد من الأبحاث إلى توقع ارتفاع المتوسط المناخي لدرجة الحرارة بمقدار يزيد على درجة ونصف درجة خلال الأعوام الأربعين القادمة إذا استمرت النشاطات البشرية التخريبية بصورتها الحالية. ولو كان الأمر متعلقا بارتفاع درجة الحرارة نفسها لما كان له تأثير يذكر إذ إننا نتعرض خلال اليوم الواحد لفروق تصل إلى عشرين درجة أحيانا دون أن يصيبنا مكروه، لكن الارتفاع في المتوسط المناخي بمقدار درجة واحدة يقابله ازدياد المحتوى الحراري للجو بصفة دائمة بمقدار يمكن حسابه بتبسيط شديد إذا أخذنا في الاعتبار سدس كتلة الهواء الجوي ومقدارها 8.8 كل 1410 وضربناها في الحرارة النوعية على اعتبار القيمة المتوسطة للهواء وهي نحو 0.24 سعر/ جرام درجة ثم ضربنا ذلك في درجة مئوية واحدة هي أقل تقدير لمقدار الزيادة المتوقعة باعتبار أن ارتفاع الحرارة عند مستوى 1.5 - 2 متر إنما يمثل مقدار التسخين المتوسط في الطبقة السفلى للجو التي تختلط فيها الأهوية بفعل خشونة سطح الأرض وتمتد كثيرا فتحتوي على 16% تقريبا من كتلة الغلاف الجوي. إن الحاصل يبلغ نحو مائتي ألف مليون مليون كيلو سعر حراري (الرقم اثنان وأمامه سبعة عشر صفرا) وهذا المقدار يعادل الحرارة الناجمة عن تفجير عدة قنابل نووية يوميا.

التغيرات الجوية غير العادية

إن زيادة المخزون الحراري للجو تؤدي إلى تغير نمط الحركة العادية للكتل الهوائية كما تؤدي إلى اختلال الاتزان بين أنواع الطاقة في الجو مما يسبب حدوث تشنجات وحركات عصبية للغلاف الجوي، ولا تقتصر خطورة الملوثات الجوية على التأثير الكيميائي كالأمطار الحمضية والتأثيرات الصحية على جلد الإنسان، وشدة إبصاره وجهازه التنفسي وغير ذلك. ولكن الأخطار الناجمة عن التأثيرات الفيزيائية للملوثات الجوية تتعدى كل ما سبقت الإشارة إليه إذ إنها تسبب الاحتباس الحراري في الجو ويساهم معها ويزيد من شدتها تناقص مساحات الغابات الاستوائية والغلاف النباتي. حيث تعمل الحرارة المحتبسة في الغلاف الجوي على ثلاثة محاور مختلفة:

الأول: قصير المدى: عبارة عن اضطرابات وتشنجات جوية عنيفة تتخطى حدود المألوف وتتجاوز المعدلات المعروفة خلال فترات قصيرة. فنجد ارتفاعاً شديداً لا يحتمل، أو انخفاضا قاسيا غير متوقع في درجات الحرارة في بعض الأماكن. كما قد نجد زيادة غير عادية في سرعة الرياح بشكل لم يسبق له مثيل. وقد تتولد أنواع خطيرة من الأعاصير الاستوائية المدمرة بصورة غير معتادة سواء في شدتها أو في تكرار حدوثها.

الثاني: متوسط المدى: ينتج بسبب دفع الحرارة المحتبسة لبعض الكتل الهوائية لتتحرك في مسارات غير مألوفة فتغزو مناطق لم تتعود عليها من قبل. وتجدر الإشارة إلى أن الحرارة المحتبسة في حد ذاتها لا تستطيع غالبا عمل ظروف جوية بذاتها ولكنها مثلا تستطيع دفع كتل هوائية باردة جداً لتعبر مسافات بعيدة وتتمركز على مناطق لم تألف مثل هذه الظروف الجوية القاسية، كما قد تدفع كتلا شديدة الحرارة لتنساب أهويتها الساخنة لعدة أيام بشكل يصعب تحمله مما يؤثر على الإنتاج الزراعي في معظم الأحوال.

الثالث: طويل المدى: حيث تتغير أحزمة المطر بما يهدد بإزاحة منابع الأنهار، كما تزداد شدة التبخر واستهلاك المياه في بعض المناطق فيزداد الجفاف. كما أن زيادة المطر في مناطق أخرى بصورة غير متوقعة تحدث الفيضانات غالبا وقد تنهار السدود فتغرق مساحات كبيرة من سطح اليابسة.

ومن ناحية أخرى يؤدي ارتفاع قيمة المتوسط العالمي لدرجة الحرارة أيضا إلى ذوبان الجليد عند أطراف المنطقة القطبية مع بدايات فصول الربيع فيرتفع تبعا لذلك مستوى المياه في البحار والمحيطات بالإضافة إلى الارتفاع الناجم عن تمدد المياه بسبب زيادة التسخين مما يهدد بغرق العديد من المدن الساحلية. ويدل استقراء نتائج التغيرات المناخية في مجملها على أن ضحايا الفيضانات والجفاف واختلال مصادر الغذاء مع الآثار الاقتصادية الأخرى يفوق ما يمكن أن تحدثه أية حرب عالمية.

وعلى المجتمع الدولي أن يتحرك في اتجاهين أساسيين أولهما تقليل الملوثات الجوية بأنواعها المختلفة دون التوقف عند زيادة ثاني أكسيد الكربون إذ إنه ليس المسئول الوحيد عن التسخين الجوي بل يشاركه في ذلك عدة عوامل متعددة مثل غازات الميثان وأكاسيد النيتروز وغازات الفلوركلورو كربون وغير ذلك. أما الاتجاه الثاني فهو ضرورة تجريم إزالة الغابات وقطع الأشجار واشتراط استزراع مساحات لا تقل عن ما يتم إزالته لظروف الضرورة القصوى.

التنمية وسلامة البيئة

الأمل ألا توضع عوائق دون استفادة الوطن العربي من تكنولوجيا المحافظة على سلامة البيئة، فنحن نعاني من مشكلات لسنا سببا في صنعها. إذ إن الدول النامية لم تشارك في هذا التلوث المهول ولم تستفد منه، ولكننا تضررنا من نواتج التلوث الناجمة عن التقدم الصناعي الأوربي والغربي. والخيار الآن إما أن نفقد ظروف الحياة الملائمة على سطح الأرض أو أن نستفيد منها جميعا، فنحن على سفينة واحدة هي الكرة الأرضية ولو أن أحدا أعطبها فالخسارة لا يمكن تداركها.

إن تجريم إزالة الغابات والعمل الجاد لزراعة الأشجار على مستوى العالم يمكن أن يكون نموذجا لكيفية التعاون الدولي في مواجهة مشكلات التغيرات المناخية وهي الحل الأمثل للتغلب على هذه المشكلات وليس إنقاص معدلات استهلاك الوقود بها عند الحدود الحالية لأن العالم قد أصبح معتاداً على درجة معينة من درجات التقدم لا يستطيع النكوص عنها.

إن الحسابات المبدئية تشير إلى أن تشجير 20% من صحاري مصر على سبيل المثال كفيل بإعادة الاتزان الحراري بشكل ملموس للغلاف الجوي لكوكب الأرض. وفي الوطن العربي تتضح ضرورة اضطلاع الجمعيات والهيئات غير الحكومية بمشاريع للتشجير وزراعة الغابات واستزارع الأراضي بحيث لا تمر فترة السنوات الخمس القادمة إلا وقد زرع جزء مهم من صحارينا وحبذا لو تضافرت أعمالنا لتحقق آمالنا.

 

محمد أحمد الشهاوي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




مستقبلنا رهن التسخين





مع ارتفاع درجة الحرارة ستختفي الثلوج من ساحات التزلج التقليدية





مزيد من ارتفاع درجة الحرارة يقابلها مزيد من التصحر في أماكن كثيرة من العالم