بدائل حقن الأنسولين محيي الدين لبنية

بدائل حقن الأنسولين

رجاء وأمل

في أوائل العشرينيات من هذا القرن اكتشف هرمون الأنسولين وفصل من بنكرياس بعض الحيوانات فأصبح هذا الإنجاز من أهم التطورات في علاج مرضى السكر، وأمكن بواسطته إنقاذ حياة أعداد كبيرة من ضحايا هذا المرض، ومنذ التعرف على الأنسولين حتى الآن حصل عليه المرضى عن طريق الحقن تحت الجلد، فهل هناك جديد؟

تتوافر حاليا في الأسواق أدوات حديثة لحقن الأنسولين بسرعة كبيرة تسبب حدا أدنى من الألم للمريض، مثل مسدس الحقن، وقلم الحقن، لكن مرضى السكر المعتمدين على الأنسولين في العلاج تواقون إلى استعمال طرق أخرى للحصول عليه ليس لها مضاعفات صحية وإبعاد شبح إبرة الحقن عن عيونهم.

ولقد حاول العلماء دون جدوى منذ اكتشاف الأنسولين ابتكار طرق سهلة ومريحة لإعطائه للمرضى، ولاحت في الأفق خلال السنوات القليلة الأخيرة بشائر ظهور مستحضرات جديدة لهرمون الأنسولين في الأسواق كبدائل للحقن تحت الجلد، وما كان حلما راود خيال مرضى السكر قارب أن يصبح حقيقة واقعة، وقبل الحديث عن بدائل حقن الأنسولين، من المفيد التعرف باختصار على تاريخ اكتشاف هذا الهرمون وأنواعه وتركيب جزيئاته والمضاعفات الصحية للحقن.

تاريخ الاكتشاف

في عام 1921 اكتشف العالمان C.H. Best وبانتنج F.G. Bantig هرمون الأنسولين ثم نجحا في فصله من بنكرياس الخنازير والأبقار على شكل بلورات نقية، وجربا استعماله لأول مرة على كلبة دخل اسمها في تاريخ الطب بعد افتعال إصابة فيها بمرض السكر، وأحدث هذا الاكتشاف ثورة في علاج المرض، وأنقذ حياة أعداد كبيرة من ضحاياه. وفي عام 1932 اعترفت به الأقربازين البريطانية "B.P" كعقار لمرض السكر وبيع في الأسواق في البداية باسم "ألتين"، ومنذ ذلك الوقت حصل عليه مرضى السكر عن طريق الحقن تحت الجلد، بوسائله المختلفة وما زالوا، وتنوعت مستحضرات الأنسولين في سرعة امتصاصها في الجسم، ومن ثم اختلفت فترة فعاليتها الدوائية بعد إضافة مركبات إلى محلول الهرمون مثل البروتامين والزنك اللذين جعلا فترة تأثير الأنسولين أطول من النوع النظامي منه، ثم نجحت إحدى شركات إنتاج الأدوية في إنتاج أنسولين بشري نصف تخليقي-Semi -syn thetic human insulin عن طريق تعديل تركيب جزيء الهرمون المستخرج من بنكرياس الخنازير ليماثل تماما الأنسولين الإنساني، وفي عام 1978 نجح فريق من علماء جامعة كاليفورنيا بالولايات المتحدة في إنتاج الأنسولين البشري، Human insulin والمعروف تجاريا بـ Humulin باستعمال الهندسة الوراثية أو ما يسمى تقنية إعادة تركيب الحمض النووي الريبي ناقص الأكسجين " Recombinant D.N.A techique عن طريق إحداث تغييرات في المورثات gens في بعض الكائنات المجهرية كالجراثيم Escherichia coli وجعلها قادرة على إنتاج أنسولين يماثل تماما في تركيبه ما يخص عدد ونوعية وتتابع الأحماض الأمينية في جزيء الهرمون الذي تفرزه خلايا جزر لانجر هانس في بنكرياس الإنسان، وأصبح اكتشاف الأنسولين البشري في الطب خطوة رائعة في تحسين علاج مرضى السكر، ويتفوق في خواصه العلاجية على مستحضرات الهرمون المحضرة من بنكرياس الحيوانات.

وهرمون الأنسولين عبارة عن بروتين بسيط "عديد الببتيد" polypeptide يوجد في الجزيء الواحد منه 21 حمضا أمينيا على شكل سلسلتين أ و ب ترتبطان معا بجسرين من ثنائي الكبريت Dis - ulphide ويختلف بدرجة بسيطة تركيب جزيء الهرمون من جنس إلى آخر في ترتيب الأحماض الأمينية، فالأنسولين المستخرج من بنكرياس الخنازير يختلف عن النوع البشري في حمض أميني واحد في السلسلة ب من جزيء الهرمون، لكن جزيء الأنسولين في الأبقار يختلف عنه في الإنسان في حمضين أمينيين آخرين في السلسلة أ من الجزيء، ولا يؤثر هذا الاختلاف على الفعالية العلاجية للأنسولين عند استعماله في أجناس حيوانية أخرى، ويتولد عند حقن هذا الهرمون المستخرج من جنس ما في جنس آخر أجسام مضادة له تقلل من فعاليته العلاجية، وقد يظهر ذلك عند استعمال مرضى السكر الهرمون المحضر من الحيوانات فترة طويلة، وعادة لا تظهر الحساسية للأنسولين عند استعمال النوع البشري منه.

واكتشف الأطباء أن الاستعمال المتكرر فترة طويلة لإبر حقن الأنسولين بشكل سطحي في طبقة الجلد يسبب دخول الهرمون داخل الجلد ثم ظهور ندبة، ويتكون في أحوال نادرة خراج في موضع الحقن، وتحدث تفاعلات حساسية موضعية في جسم المريض خلال الفترة الأولى لاستعمال حقن الأنسولين في العلاج ثم تختفي من تلقاء نفسها بعد ذلك، وتظهر في أحوال نادرة تفاعلات حساسية عامة نتيجة الحقن في جسم المريض، وقد تحدث حالات نقص تغذية للطبقة الدهنية في الجلد Lip - odystrophies نتيجة الحقن المتكرر للهرمون يصاحبها ظهور ضمور دهني Lipoatrophy، يكتشفها الطبيب، ولاحظ الأطباء انخفاضا في معدل حدوث ردود أفعال الحساسية الموضعية لحقن الأنسولين نتيجة استعمال المرضى مستحضرات الهرمون عالية النقاوة التي قللت بدورها حدوث حالة الضمور الدهني الزائد Li - pohypertrophy في موضع الحقن المتكرر للأنسولين في جسم المريض.

بدائل الحقن

تنوعت الطرق التي جربها العلماء في أبحاثهم لإعطاء الأنسولين لحيوانات التجارب والإنسان بوسيلة غير الحقن تحت الجلد وشملت ما يلي:؟

1 - كرذاذ يؤخذ عن طريق الأنف Nosal spray

2 - أقماع شرجية "لبوس" Sup - Positories

3 - حبوب تؤخذ عن طريق الفم tab - lets وسوف يستعرضها هذا المقال بشيء من التفصيل.

الأنسولين كرذاذ : بين وقت وآخر يعطي الأطباء بعض مرضاهم أدوية وهرمونات على شكل رذاذ أنفي، كما يستنشق بعض الناس مواد ذات تأثير منعش أو مخدر عن طريق الأنف، ولقد أثار ذلك اهتمام فريق من الأطباء الأمريكيين برئاسة جينفري فليرJ.S.Flier لإعطاء الأنسولين للمرضى على شكل رذاذ أنفي، فأجروا تجاربهم السريرية الأولية في أحد مستشفيات مدينة بوسطن على تأثيرات إعطاء محلول الهرمون بهذه الطريقة الجديدة لمرضى السكر من الأطفال والبالغين وآخرين أصحاء للمقارنة، واكتشفوا خلال دراساتهم عدم فعالية الأنسولين المعطى بالأنف على مستوى سكر الدم في الأشخاص الأصحاء، فعمدوا إلى إضافة أحد مركبات أملاح الصفراء وهو دي أوكسي كولات Deoxy cholate لمحلول الهرمون لمساعدته على المرور عبر الأغشية المخاطية في الجهاز التنفسي إلى الدم، وخفض مستوى سكر الدم، وبعد مرور عشر دقائق على استعماله في الأنف لاحظ أولئك العلماء وجود مستويات أعلى من الهرمون في الدم، لكن تطلب ظهور تأثيره عند حقنه تحت الجلد نحو ساعتين، وحدث ارتفاع في مستوى الأنسولين في دم الأصحاء بعد مرور نحو ساعة من دخوله الأنف، وانخفض تركيز سكر الدم، ثم عاد تدريجيا مستوى سكر الدم للارتفاع، ولقد عزا أولئك العلماء ارتفاع تركيز السكر في الدم بعد انخفاضه إلى خاصية الدفاع الطبيعي للجسم ضد الانخفاض الشديد في مستواه، ولاحظوا ظهور ردود فعل سكر الدم للهرمون بعد مرور ما بين 10 و20 دقيقة من دخوله الأنف ثم وصل مستوى الهرمون في الدم بعد نحو ساعة أو ساعة ونصف إلى حده الأعلى واستمر ذلك فترة تراوحت بين ثلاث ساعات ونصف وأربع ساعات.

وقد نجح الفريق الطبي الأمريكي برئاسة فلير في اختبار فعالية إعطاء الأنسولين كرذاذ أنفي بالمقارنة بمستوياته في الدم بعد الحقن تحت الجلد، ولاحظوا وجود نسبة تراوحت بين 10 و20 % من مقدار الأنسولين المعطى في الدم بعد دخوله الأنف، بينما وصل تركيزه بعد الحقن تحت الجلد بين 50 و60 %، واعتمد ارتفاع مستوى الهرمون في الدم بعد إعطائه كرذاذ بالأنف على نسبة مادة دي أوكسي كولات فيه، وهذا يعني إمكان التحكم بمستويات الأنسولين في الدم عند استعماله كرذاذ أنفي، وتأكد العلماء من استجابة الجسم للهرمون المعطى بهذه الطريقة، لكن اشتكى المرضى بعد دقائق من حصولهم على رذاذ الأنسولين عن طريق الأنف إزعاجا خفيفا في الأنف وتهيجا في الأنسجة المخاطية فيه، مما دفع فريقا طبيا آخر للبحث عن مركب آخر غير دي أوكسي كولات ليست له مضاعفات صحية ويسهل استعماله مع محلول الأنسولين فترات طويلة، وجربوا إضافة مركب الليسيثن Lecithine إلى مستحضر الهرمون الذي يساعد الجزيئات الكبيرة للأنسولين على المرور عبر الغشاء المخاطي بالأنف، وظهر الهرمون بمستواه الأعظمي في الدم بعد 35 دقيقة من إعطائه عن طريق الأنف، وبعد 94 دقيقة من حقنه تحت الجلد، ثم انخفض تركيز الهرمون في الدم إلى حده الأدنى بعد ساعة ونصف من إعطائه كرذاذ أنفى واحتاج نحو 6 ساعات عند حقنه تحت الجلد، وأكد أولئك الأطباء أن المستحضر الجديد يوفر مستوى كافيا من الأنسولين في مصل الدم في وجود مخاطر قليلة جدا لحدوث انخفاض شديد في سكر الدم، وبلا شك هناك ضرورة إجراء المزيد من التجارب السريرية على الإنسان قبل تعميم استخدامه، وتشترك حاليا الشركة الصيدلانية للتقنية العالمية في ولاية كاليفورنيا مع شركة إلي ليلي الرائدة في إنتاج مستحضرات الأنسولين وتدعمها ماديا شركة إيرست لاستكمال التجارب السريرية على فعالية هذا المستحضر الذي سموه نازلين،nazilin وخلوه من التأثيرات الجانبية على صحة الإنسان قبل الحصول على موافقة إدارة الغذاء والدواء الأمريكية F.D.A لطرحه في الأسواق كعقار فعال ومأمون لمرضى السكر ويتوقع بعض العلماء توافر مستحضرات الأنسولين كرذاذ أنفي قريبا في الأسواق.

الأنسولين.. أقماعا وحبوبا: اتجهت الدراسات الحديثة في اليابان والولايات المتحدة وكندا نحو استغلال خاصية امتصاص بعض الأدوية كالمسكنات وخافضات درجة الحرارة وغيرهما عبر جدران المستقيم لإعطاء مرضى السكر مستحضرات هرمون الأنسولين المختلفة في شكل أقماع شرجية "لبوس "، وأضاف الأطباء إلى محلول الأنسولين بعض المركبات الكيماوية للمساعدة على سرعة امتصاصه وزيادة ثباته والمحافظة على فعاليته العلاجية، وجربوا تأثيرات ذلك على حيوانات التجارب، فثبت لهم فعالية بعضها في خفض مستوى سكر الدم ثم استعملوها في الإنسان فلاحظوا احتياج مريض السكر نحو ضعف مقدار الأنسولين المعطى له عن طريق الحقن تحت الجلد، للوصول إلى نفس النتائج، وخلاصة القول إن أبحاث العلماء مستمرة في تقييم كفاءة فعالية الأنسولين على شكل أقماع شرجية وسلامة استعماله على المدى الطويل بعد تحقيق نتائج أولية مشجعة.

ومنذ الأيام الأولى لاكتشاف هرمون الأنسولين لم ننجح المحاولات المتكررة للأطباء لتحضيره في شكل حبوب تؤخذ عن طريق الفم، لأنه عبارة عن بروتين مثل غيره من البروتينات يتحلل في المعدة بفعل الأنزيمات الموجودة في العصارة الهضمية - الببسين- Pepsin في وجود الحامض Hcl، فيفقد فعاليته العلاجية، لكن الدهون لا تتحلل فيها، ويكون رقم الحموضة داخل المعدة بين 1.2 و 3 نتيجة وجود حمض هيدروكلوريك Hcl ثم يصبح رقم الحموضة بين 2 و 4 في الجزء العلوي من الاثني عشر بالأمعاء وحوالي 6.5 في باقي الاثني عشر، ثم تكون البيئة قلوية في باقي المعي الدقيق، ويكتمل فيها تحلل البروتينات إلى وحداتها البنائية من الأحماض لأمينية بفعل الأنزيمات المحللة للبروتين التي يفرزها البنكرياس والأمعاء الدقيقة، ولا يستطيع هرمون الأنسولين. مقاومة عملية الهضم في المعدة، مما دفع العلماء إلى اكتشاف وسيلة يمكن بوساطتها حماية هذا الهرمون ضد تأثيرات العصارة المعدية. ولقد نجح العلماء أخيرا في المحافظة على الفعالية العلاجية للأنسولين ضد تأثير الأنزيمات المحللة للبروتين والحموضة المرتفعة في المعدة "PH" عن طريق تغطية حبوب الهرمون بمادة دهنية عبارة عن أحماض دهنية Fatty acids، وهي لا تتأثر بالعصارة المعدية ثم تنتقل إلى الأمعاء الدقيقة، وفي وجود أملاح الصفراء في الوسط القلوي يتحلل تدريجيا الغلاف الدهني لحبوب الأنسولين ويتحرر الهرمون ويمتص جزء كبير منه عبر جدران الأمعاء إلى الدم الذي ينقله بدوره إلى خلايا الجسم، وتقوم شركة كورتكس المهتمة بإنتاج حبوب الأنسولين بتجارب سريريه على الإنسان لتحديد فعالية الجرعات المعطاة من مستحضرات الأنسولين البشري في صورة حبوب على مستوى سكر الدم، ونسبة المفقود منه نتيجة التحلل بالأنزيمات في الأمعاء ومعرفة العوامل المؤثرة على امتصاصه كالعناصر الغذائية المختلفة والإصابة باضطرابات هضمية كالإسهال وسوء الامتصاص وغيرها قبل الحصول على موافقة إدارة الغذاء والدواء الأمريكية على طرحه للاستعمال في الأسواق، وتؤكد التجارب العلمية حتى الآن فعالية هذا المستحضر الجديد في خفض مستوى سكر الدم، وتتنبأ شركة كورتكس بطرح حبوب الأنسولين قريبا في الأسواق لعلاج مرضى السكر، بديلا لحقن الأنسولين.

خلاصة القول

هناك دلائل قوية عن أهمية التحكم بمستويات سكر الدم عند حدوده الطبيعية في المرضى للوقاية من حدوث المضاعفات الصحية لمرضى السكر أو على الأقل تأخيرها، ويواجه ذلك صعوبة إعطاء المريض الأنسولين عند زيادة الحاجة إليه خاصة بعد تناول وجبات الطعام الرئيسية، ويستطيع المريض التحكم بشكل أفضل بمستوى السكر في الدم عند حصوله على أكثر من جرعة من الهرمون مثالا 3 حقن يوميا، لكن قد يسبب ذلك ارتفاعا في تركيز الأنسولين في دم المريض أو انخفاضه، ولا تتوافر لدى معظم مرضى السكر الرغبة في الحصول على حقن متكررة من هذا الهرمون يوميا، مما جعل إعطاء الأنسولين في شكل رذاذ بالأنف أو أقماع شرجية أو حبوب مقبولا أكثر من مرضى السكر المعتمدين عليه في العلاج، ويتفادون بذلك حدوث المضاعفات الصحية نتيجة عملية الحقن المتكرر للهرمون في أجسامهم ويختفي الخوف الذي تسببه إبر الحقن.

 

محيي الدين لبنية

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات