أوبرا كارمن أحمد سخسوخ

أوبرا كارمن

الغجرية العاشقة

لم تحُدث أوبرا في العالم صدمة للجمهور مثلما أحدثت أوبرا "كارمن بيزيه "38 - 1875" لمعاصريها، كما لم يحدث حماس لتقديم أوبرا مثلما حدث لكارمن، وتعتبر "كارمن" علامة فاصلة بين الحركة الرومانسية وظهور الحركتين الواقعية والطبيعية في منتصف القرن الماضي.

لقد بعدت الأوبرا عن العوالم الرومانسية التي تتميز بجموح الخيال والعاطفة ونزلت إلى الواقع لتغوص في نفسية امرأة غجرية عاشقة في وسط مجتمع الحضيض، وقد شكّلت أوبرا كارمن ثورة على التقاليد الموسيقية القديمة للحركة الرومانسية مبتعدة عن الإيقاعات النمطية في الأوبرات التقليدية، وفي نفس الوقت اعتمدت على الإيقاعات والأشكال اللحنية لموسيقى التراث الإسباني، فجاءت ألحانها خفيفة ومتنوعة دون تعقيد، بعكس الاتجاه التقليدي الذي كان يعتمد على وحدة لحنية أساسية "اللحن الدال"، وقد انتهت كارمن بشكل غير تقليدي أيضا ومثلت في ذلك اتجاها جديدا في عالم الأوبرا.

وقد تنوعت الوسائط التي قدمت عبرها هذه الأوبرا، فقدمتها السينما العالمية أيضا ومن أشهر التجارب السينمائية تجربة "بيتر بروك "، كما قدمها التلفزيون، وأهم تجارب كارمن في التلفزيون كانت من إخراج " فرانكو زيفاريللي "، وقد قدم " هربرت فون كرايان " كارمن كعمل أوبرالي في مهرجان سالزبورج الفني في عامي 1966 و1985، وقد قامت "آجنس بالتسا" في عام 85 بدور كارمن، وقد قال عنها "كرايان" إنها أفضل من قامت بدور كارمن لأنها تملك إمكانات صوتية عالية وقدرات تمثيلية لا حدود لها، وتقدم حاليا "كارمن" كباليه للفرقة القومية الإسبانية من إخراج وتصميم "رافائيل أجويلار" الذي حصل على جائزة أفضل مصمم رقص لعام 1991.. وقد قال عنه "أنطونيو جاديس" : "لم يعد هناك مصمم باليه، ورافائيل اليوم هو أفضل مصمم باليهي في إسبانيا".

إن " رافائيل أجويلار" يعتبر من أهم المخرجين والمصممين الإسبان، وقد بدأ يهتم أخيرا بأعمال جارسيا لوركا.

وأهم ما قدمه من أعمال باليهية "بيت برنارد ألبا " للوركا، فلامنجو ويرما، وهو يقدم حاليا كارمن التي حققت نجاحا عالميا في جولته بالصين واليابان؟ وباريس وميلانو وفلورنسا وينابل وبولوجفا ويعرضها حاليا بفيينا على مسرح "روناخر" الذي عاد إلى الحياة المسرحية من جديد بعد توقف لفترات طويلة.

طبيعة المرأة

لقد كانت "كارمن" لبيزيه محاولة تصويرية لطبيعة العوالم الواقعية من خلال امرأة غجرية عاشقة ومتوحشة، تريد أن تنتقل من الحضيض إلى طبقة أرقى، وهي تستخدم في ذلك قوانينها الخاصة وقيمها الذاتية، وكارمن في ذلك إنما تجسد طبيعة المرأة التي تسعى إلى تحطيم كل القيود التي تقابلها، وهي في ذلك لا تتبع سوى مزاجياتها، التي تحل بها في كل فترة، وهي لذلك تسخر من كل القيود والقوانين والقيم الاجتماعية والأخلاقية السائدة.

وفي حلم كارمن بالصعود إلى الطبقة الأخرى لا تصطدم بالمجتمع فقط، وإنما يلفظها المجتمع بعيدا عن جسده، بل ويلعنها.. وهي تستخدم أسلحتها الأنثوية لتصطاد عليه المجتمع وتقدم لهم النموذج الجنسي الذي يحلمون به، ومن هنا فهي تختار "دون جوزيه" الذي يمثل جدية القوانين وصرامتها في المجتمع حتى تحطمه في النهاية، وهي بذلك تحس العدالة بعد أن انتقمت من المجتمع في صورة "جوزيه" وتحررت منه في نفس الوقت، ثم تتمنى لنفسها الموت في النهاية بعد أن أدركت أنها وصلت إلى ما تريد وحطمت الحدود الطبقية وداست بقدميها على قيم المجتمع الأخلاقية السائدة.

أجويلار

أعد رافائيل أجويلار كارمن كعمل باليهي.. وقد كان تصميم الباليه الذي وضعه لكارمن معادلا موضوعيا للحالة التراجيدية للموقف الدرامي وللصيغة اللحنية التي وضعها بيزيه، معتمدا في ذلك على أن تيمة الحب هي العمود الفقري لكارمن رغم الموت الذي نقابله أمامنا والذي تقود إليه تيمة الحب نفسها. وقد غالى أجويلار في تصميم رقصاته الباليهية بالتشكيلات والتعبيرات الجنسية الصارخة ليؤكد وحشية كارمن ورغبتها الجنونية في تحطيم وانتهاك قيم المجتمع الذي تعيش فيه، ويتضح هذا بشكل أساسي في مشهد السرير بين كارمن ودون جوزيه.

الإعداد

وقد أعد أجويلار كارمن في خمسة مشاهد أساسية يربط هذه المشاهد غناء كارمن.

المشهد الأول:

كارمن تتأمل عالمها الحقيقي وهي ترى نفسها في المرآة.. إنها تريد أن تخرج من هذا الحضيض وتتطلع إلى عالم الثراء فينصب تفكيرها في فستان السهرة الأسود الذي يمثل لها عالم الثراء الحقيقي، ذلك العالم الذي يبعد عنها كثيرا.

المشهد الثاني:

وتدور أحداث المشهد الثاني في مصنع التبغ حيث تتجمع الفتيات وتبدأ إحداهن بالرقص سعيدة لأنها عثرت أخيرا على من تحلم به، ذاك الثري الذي سيحميها، إذ لن تستمر طويلا بعد كعاملة في هذا المصنع، ترقص! يصفق لها الجميع بإيقاعات إسبانية شعبية، إنها تحلم بالفستان الأسود الذي سوف يهديه لها الحبيب الثري.. وتغضب كارمن فتمزق الفستان وتتصارع معه، كما تنقسم العاملات ويتصارعن.

المشهد الثالث:

تروي المغنية الأحداث التي وقعت بعد ذلك، وهي تصوّر في الخلفية، فقد جاء البوليس. ثم نرى كيف قابل دون جوزيه كارمن وكيف أغرته بكل الطرق، ثم تحذره كارمن من العودة إلى ثكنته العسكرية، ويخضع في النهاية لإرادتها، ولكي تثيره فهي تستخدم كل أسلحتها الأنثوية لإثارة انتباه كابتن البوليس، مما يغضب دون جوزيه، وينتهي الموقف بصراع بين الرجلين يقتل فيه دون جوزيه الآخر، وهنا وفي هذه اللحظة يرتبط جوزيه بكارمن، بل تربطه إلى الأبد من رقبته وتجره مثل كلب لا مأوى له.

المشهد الرابع:

يدور هذا المشهد في الجبال، تستهتر كارمن بمشاعر دون جوزيه وتحاول أن تعاود الكرة مع سكاميللو.

المشهد الخامس:

تحصل كارمن على حريتها بالتخلص من دون جوزيه من خلال "سكاميللو".. فكارمن تمثل السعي نحو الحرية من خلال الحياة والموت.

على خشبة المسرح

لقد ولدت رائعة "رافائيل أجويلار" مرة ثانية على يديه في كل حركة وفي كل تعبير وفي كل جملة موسيقية لبيزيه من خلال تنويعات "بابلو زارازو" الموسيقية، وباليه كارمن من بطولة إيفا مورينو وترينيدا آرتيجوس في دور كارمن بالتبادل، وفيكتور مورو وكارلوس فيلان في دور دون جوزيه بالتبادل أيضا.

وتفتح الستارة على خشبة عارية إلا من وجود ثور ضخم على خشبة المسرح معبرا عن الثورة الوحشية التي تضطرم بها مشاعر كارمن، وبجانب الثور يوجد تمثال عار لمصارع إسباني معبرا عن هذا الصراع الحقيقي بين الرغبة الوحشية ومصارعة هذه الرغبة مما يشكل خطا دراميا أساسيا في العرض المسرحي. تنساب موسيقى بيزيه، وخلالها تتقدم مجموعة من الفتيات وسط دخان يغلف فراغية الخشبة في إيقاعات حركية بطيئة حتى يحطن بالتمثال ويتعلقن به، يستدير التمثال بحركة ميكانيكية ويخرج وتخرج معه الفتيات إلى خارج الخشبة، فكلهن يتعلقن بهذه الرغبة الوحشية، وسط أضواء خافتة وموسيقى حزينة خافتة.

ثم تمتلئ خشبة المسرح بالراقصات والراقصين، وتسطع الأضواء وتتصاعد الإيقاعات والحركة والجمل اللحنية حتى تلتقي جميعها في نقطة واحدة، ومن أفضل ما يميز كارمن هنا هذا التنوع الهائل في الموسيقى التي وضعها بيزيه بين موسيقى صاخبة عالية ومتوحشة إلى موسيقى خافتة ورقيقة في نفس الوقت.

ولا يقتصر التعبير الحركي والباليهي على الرقص الكلاسيكي، وإنما يمتزج بالرقص الشعبي الإسباني في وقت واحد مما يعطي ثراء للحركة على خشبة المسرح. ويلازم تلك الحركات الباليهية الصاخبة غناء شعبي يتصاعد من خلفية المسرح. وتصل الأحداث ذروتها بعد أن تهرب كارمن مع دون جوزيه، ويلتقيان في مشهد السرير الذي يستغرق وقتا طويلا يوظف فيها أجويلار أقصى إمكاناته الإبداعية في التعبير الحركي حيث يتماوران بالحركة، يتشابكان ثم يتكوران كحيوان ذي ظهرين ثم ينفصلان ويسترخيان، ثم يعودان يكرران هذا المعنى بالحركة والموسيقى على خلفية تتصاعد مع تصاعد الحركة وتهبط مع هبوطها وهدوئها إلى أن ينتهي المشهد فوق السرير، وينتهي بذلك الجزء الأول. ويمثل الجزء الثاني رحلة دون جوزيه صوب دماره، بعد أن يقتل الكابتن حيث يخلو المسرح تماما ليتضاءل فيه جسد دون جوزيه في رحلته هذه، وفي هذا الجزء يركز أجويلار على اللعب بالإضاءة والحركة في عرض المسرح والدخان الذي يحاصر دون جوزيه، مؤكدا عمق المأساة.. مأساة الحب والموت.. كارمن.

 

أحمد سخسوخ

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




أوبرا كارمن الغجرية العاشقة





كارمن غجرية عاشقة تحلم بالصعود





تراث الموسيقى الأسبانية أساس لحني للعرض الحديث





حلم الصعود يصطدم بأعراف المجتمع





مكائد تشعل الصراع فتبدد السكون





تجمع للمؤدين وتنوع لحني كبير يميز إعادة ولادة كارمن من على خشبة المسرح