تجربة الرواية... إثارة التساؤل والبحث عن المعرفة

 تجربة الرواية... إثارة التساؤل والبحث عن المعرفة

كل تجربة فنية هي سعي للمعرفة. وهي أيضا دعوة للمشاركة في الخبرة البشرية بين المبدع والقارئ. فكيف يمكن أن تولد هذه المشاركة?

عندما أتساءل أحيانا، كيف أحدد تجربتي الروائية وما الهاجس الأهم، في هذا الشأن، أجد ـ في نهاية الأمر ـ من المداخل التقليدية للإجابة عن هذا السؤال أنه يصعب جداً إن لم يكن مستحيلاً أن يتحدث الروائي عن ملامح تجربته الروائية بهذا الأسلوب التقريري التنظيري وإلا ما كان هناك من الأصل ضرورة للكتابة الروائية. ومع ذلك ولأنني أحياناً أداعب أو أعابث النقد الأدبي فربما ناوشت هذا السؤال أو طفت حواليه دون أن آمل على أي حال أن أجيب إجابة قاطعة.

أظن أن تجربتي الفنية إنما هي سعي إلى المعرفة، أو بشكل أدق قليلا، سعي إلى وضع سؤال نحو المعرفة وضعاً فنياً، بمعنى أن عملي الروائي لا يريد لنفسه أن يكون طبقا لقضية أو تبشيراً بها، أو دعوة لها. وليس هو بالقطع محاولة لما يسمى تصوير الواقع أو نقل شريحة من الحياة أو انعكاس للأوضاع الاجتماعية.. إلخ، هذه الدعاوى العريضة التي يصعب بالفعل الاقتناع بها عقلياً، في السياق النقدي النظري، أو في السياق الإبداعي على السواء. ومن ناحية أخرى، فإن تجربتي ليست ولا تقصد، بل ربما كانت بالأصح تتجنب أن تكون تزجية للوقت أو إثارة للتشويق أو تفريجا لضائقة نفسية، أو بوحاً فقط عن شئون ذات رومانسية أو بكاء على كتف القارىء إذا صح التعبير، لا دعوة له ولا حضا ولا نجوى ولا مشاركة في خطاب عواطفه، وإنما هي دعوة للمشاركة في الخبرة في سياق له جماليته، ولكن الجمالية ليست هنا بطبيعة الحال هي النسق المنتظم التقليدي الجميل بالمعنى المألوف، ربما كان في التشويه نوع من الجمال أو العكس، ربما كان في التحريف أو الانحراف جمال خاص. وعلى أي حال فإن النقد أو التنظير أحياناً، في السنوات الأخيرة، كأنما يخجل من اللجوء إلى مفهوم الجمال أو مفهوم التجربة الروحية، ولكن أنا أظن أن هذا ليس صحيحاً، وأن (الجمال) والخبرة (الروحية) مازالا مفهومين صحيحين.

الكتابة هي عملية بحث عن المعرفة. هل هذه المعرفة مطلقة في جميع مجالات الفكر: روحياً، معنوياً.. إلى آخر هذه المجالات?

ما أقصده هو البحث عن معرفة، هناك معرفة وهناك المعرفة بأل التعريف والسعي نحو حقيقة ما، وليس الحقيقة. وبهذا المعنى فهي معرفة نسبية دائماً، ولكنها فيما أتصور تتضمن أيضا بذرة من المطلق دون أن تكون هي المطلق، هي حقيقة تظل دائما أيضا نسبية بمعنى أنها ليست نسقاً في الفن فلسفياً أو معرفياً كاملاً، ولا يمكن أن تكون إجابة شاملة ومحيطة بالحياة إحاطة كاملة، وهي دائماً، كما أرجو، ذهاب إلى أعمق فأعمق دون الوصول أبداً إلى حل. لست أظن أن من مهام الفن أن يضع حلولاً أو أن يجيب عن أسئلة، بل ربما كان مجرد وضع سؤال في السياق الفني هو كل ما يأمل المرء أن يحققه.

هواجس إنسانية

طبعاً، هناك هموم وهواجس بالنسبة لي وبالنسبة لمعظم كتاب ما نسميه العالم الثالث: هواجس الكرامة الإنسانية، العدالة، الديمقراطية، بوصفنا من العالم الثالث، فربما كانت هذه هواجس إنسانية ليس بمعنى النزعة الهيومانية وليس فقط إنسانية بمعنى أنها تغفل أو تهمل الأوضاع التاريخية المحددة: الطبقية والاقتصادية.. إلخ. إنما المعنى أنها تشتملها وتدركها ولكنها لا تتحدد بها تحددا كاملا نهائياً، لا تقتصر عليها بل تمتد إلى تلك المنطقة التي أسميتها مرة: منطقة (ما بين الذاتيات) وليست منطقة (الذاتية)، وليست أيضاً منطقة التجريدات. أظن أن هذه المنطقة الغامضة والمضيئة معا هي ساحة العمل الفني.

هل يعني ذلك أن هناك موقفا أو تشككا يقول بأن الرواية تدعي أكثر مما تقدر عليه إذا أرادت أن تعكس الواقع، أو أنني أرى أن هذا ليس هو الدور الحقيقي للرواية?

أتصور أنه ربما كانت الرواية تدعي أحياناً أكثر مما لها وربما تقوم بدور أكبر بكثير مما يدعى أو ينسب إليها. هي طبعا ليست مرآة للواقع، أو ما يسمى (الواقع)، أي مجموع الظواهر التي يصطلح أحيانا على تسميتها بالواقع. رغم أنها تشتمل على ذلك كله، وربما تكون الرواية في مراحل تطورها المختلفة قد فعلت هذا. لكن أظن أن ما يرفع الرواية، الرواية الفنية حقا، الباقية، أنها إذا كانت قد فعلت ذلك فقد تجاوزته أيضا في الوقت نفسه، بمعنى أن الرواية الواقعية أو حتى الطبيعية، كانت بلاشك تتضمن جوانب (لا واقعية) تتعلق بعالم لا تمكن نسبته مباشرة إلى ما نسميه عبثاً (الواقع)، وهو الظاهر من الحياة الاجتماعية واليومية وحياة السوق.. إلخ. الواقع طبعا في ظني كلمة أعمق وأوسع وأوثق وهو يشتمل على ما لا يمكن حده من الظاهر والخفي، من الحلم والصحو، من المرئي واللا مرئي، من المدرك والذي لا يكاد يدرك، من المسمى والذي لا يمكن أن يسمى، هذه أيضا كلها عناصر الواقع أو عناصر من واقع ما. لكن جرى المصطلح وفقا للتطور التاريخي للأدب والرواية، وخاصة في منتصف القرن العشرين، بأن ينسب إلى الواقع نوع معين يتناول المشاكل الاجتماعية والاقتصادية ومشاكل المحرومين من الناس.. قضاياهم وظروفهم وما هو حقير أو بخس أو أرضي أو ما هو صراع نحو التغيير. الواقعية أصبحت لها صفات كثيرة جدا من النقدية إلى الاشتراكية إلى السحرية إلى آخره، وتجاوزت المفهوم الذي كان سائداً عندئذ.

عالم دون رواية

لا يمكن أن أتصور عالما دون رواية. إن عالما دون رواية هو عالم دون مقوم أساسي من مقومات الحياة الإنسانية، حياة الإنسان الذي يقوم بالإنتاج، أي بالإبداع، سواء كان كاتباً أو متلقياً. للإنسان تعريفات كثيرة منها أنه حيوان روائي أو حيوان فانتازي.. كما أنه يستحيل تصور الحياة من دون شعر.

عندما أتساءل: ما الأحداث والقضايا الجسيمة التي كان لها تأثير خاص في حياتي الأدبية: الأحداث التاريخية، الأحداث العائلية، الأحداث الشخصية?

أظن أن الإجابة هي أن هناك على مراحل متعددة أمراً ذكرته كثيراً من قبل، وجاء تصويره في تضاعيف الروايات والقصص التي كتبتها، كانت معايشة أو حضور الموت كواقعة مفجعة وغير معقولة منذ الطفولة، هي من الأحداث التي تركت تأثيراً عميقاً في شخصياً وفي كل أعمالي الروائية وقد كان ذلك بوضوح أكثر في (ترابها زعفران). حيث موت صديق الطفولة، ومشاهدة أحداث الموت، وموت الأخ، وموت الأخت.. أي أن حضور الموت بشكل متواتر، بالنسبة لطفل عنده نوع من الحساسية المرهفة ترك أثراً عميقاً.

يثور هنا سؤال حول البحث عن المعرفة، هل الاهتمام أو الشعور بالموت له علاقة بالبحث الدائم عن معرفة لعالم الوجود الأكبر? هذه علامة استفهام تواجه الإنسان حتى ولو كان مؤمناً.

لم أقم هذه الرابطة إقامة عقلية، لكنها بلاشك قائمة.

من الأحداث المهمة أيضا في حياتي أحداث الحركة الوطنية، أو بشكل أدق الحركة الثورية في مصر في فترة منتصف الأربعينيات حيث شاركت فيها مشاركة نشطة أدت إلى أنني اعتقلت من 1948 إلى .1950 هذا بالنسبة للأحداث التاريخية. أما الأحداث الشخصية فهي ما يحدث لكل إنسان. لكن ربما كان وقعها علي أعمق أو أفعل، من ذلك مثلا الحب وطلب الرزق والكفاح من أجله وتكوين عائلة (ما أعجب هذا..! إنني نجحت، حتى الآن، في تجنب دخول السراي الصفراء، يعني مستشفى المجانين..!).

فهل هي عملية بحث عن معرفة أيضاً أوتساؤلات في سبيل تفهم..?

لاشك أن هناك رابطاً، وهذا طبعا يشي عندك وعندي ـ إذا وافقت ـ بميل نحو التعقيد والتفسير أي نحو التركيب والتحليل والوضوح العقلي وإيجاد الوقت للقيام بذلك، هذه خاصية أساسية من خصائص العقل، لكننا يجب ألا ننسى ما يلي: (وهو مسلم به مما أشرت إليه إلى جانب أنها حقيقة، في عملية الحياة، وفي طبيعتها) أنه يصعب اختزال العملية الفنية، وتفسيرها وفض سرها على نحو كامل وإنما نحن نسأل ونبحث عن إجابة وقد نجد إشارات مفسرة.

هي اجتهادات بشرط ألا نخضع لأسر العقلانية المطلقة وألا نستسلم لشر اللاعقلانية المطلقة، مما يخلق نوعاً من التوازن.

والتوازن يتجه حتى التجاوب بينه وبين المقومات، نحن هنا قد نصل إلى وسيلة توفيقية. ولكن يمكن أن نسلم حتى عقلياً، بأن (التوازن) في حد ذاته يمكن أن يتأتي عن (الاختلال) و(الزيغ) في الفن.

بحثا عن التوازن

إن الأحداث الأخيرة عميقة الأثر في نفوسنا بلاشك.. أحداث سنة 1948 وضياع فلسطين، أحداث 52 ـ 53 و54 وتوجه ثورة 1952 توجها خاصا نحو انحسار الديمقراطية والاتجاه نحو السلطة الأبوية العلوية. ثم أحداث ما سمي بالنكسة وهي الهزيمة المدوية للآمال العريضة في 1967، ثم أحداث فترة حكم السادات بكل عقابيلها وبما أفسحت له السبيل من ترد وانهيار، وأخيراً أحداث حرب الخليج. لاشك أن هذه الأحداث تترك أثراً ما، أثراً عميقا في الذات، ليس قياس عمق هذا الأثر بتنـاول هذه الأحداث تنـاولاً مباشراً وتقييمياً بل ربما كان العكس هو الأصح. إن وجود هذه الأحـداث خفى أو كنـوع من سـريان الدم (فالدم إذا ظهر فهذه علامة اختـلال وجرح، ولكنه قائم باستمرار في الجسد، وإن كان لا يظهر).

هناك عندي تفاعلات عميقة مع الأحداث التي جرت في أوربا الشرقية والاتحاد السوفييتي سابقاً.

إن ما حدث في هذا السياق لم يكن غريباً علي وعلى من اشتركوا معي في الحلقة الثورية (التروتسكية) التي أسسناها واشتغلنا بها في الإسكندرية في الاربعينيات، بل بالعكس كان ذلك نوعا من تأكد مصداقية ما كنا نؤمن به وما كنا ندعو له، وأنا بعكس الكثيرين أحس أن هناك فرصة ذهبية جديدة الآن للاشتراكية الحقة، الاشتراكية ذات الوجه الإنساني، الديمقراطي، لم تسنح ربما من فترة طويلة جداً، من أوائل ثورة أكتوبر ومن سنة 1918 ـ 1919 مثل هذه الفرصة، علي رغم كل ما يبدو الآن من ظواهر. في نهاية الأمر لا أتصور أن الاشتراكية سقطت، كل هذه المزاعم التي تتداول عندنا في وسائل الإعلام هي التي سوف تسقط إن آجلا وإن عاجلاً.

أما الواقع الاجتماعي الذي أكتب حوله.. فليس فيه تكامل وانسجام، أحيانا تكون الإجابات عن مثل هذه الأسئلة معناها ضرورة أن يكون هناك نسق للرؤية أو وجهة نظر محددة فيها. أنا أفتقد التكامل والانسجام بهذا المعنى نسق عقلي يوجه ويحدد العمل الفني، ربما أتصور التكامل قائماً إذا كان العمل يجرى حسب نسق فلسفي معين أو عقائدي أو أيديولوجي، لو اتخذت من هذا النسق نقطة انطلاق وحددت نفسي بها. ولكني لا أستطيع، أحب أن يكون المجال مفتوحا دائما، ربما كان في هذه الرؤية، في هذا النوع من التوجه النظري للأشياء، أحد التعليلات لما أكتب باعتباره، كما أرى، نوعا مفتوحا على الأنواع أو كتابة عبر نوعية كما أسميها. بمعنى، ليست كتابتي روائية بالمعنى الكلاسيكي التقليدي البلزاكي أو حتى الجويسي، هناك في تقديري دائما اقتحام أو ذلك على الأقل ما آمل أن يكون. وإذن هناك دائما صراع، مع نفسي، مع الكتابة، ومع كل ما حوالي وما في داخلي.

ذلك يفسر المتاهات والسراديب التي تأتي في القص عندي، أرجو أيضا إلى جانب المتاهات والسراديب أن تكون هناك ساحات مشرقة وسهوب فسيحة ساطعة.

رواية الأسئلة

يطرح أحيانا رأي في أن الرواية التي تساعد القارئ على طرح تساؤلات، الرواية التي تثير تفكيره، هي الرواية الناجحة وليست الرواية التي تعطي درساً في النهاية، إن العلاقة الكبيرة التي ربما لم ندرسها حتى الآن كثيراً في العالم العربي، هي علاقة القارىء بما هو مكتوب، قد تكون نظرة الكاتب للقارئ نظرة غير صحيحة وغير سليمة، ذلك أن الكاتب ليس سلطة على القارىء ولا أباً ولا راعياً ولا عيناً صاحية من علٍ تراقب كل شيء وتفرض فرضاً على القارئ كيف ينظر وكيف يرى. الكاتب لا يوجه القارئ في تصوره.

بالعكس شأني شأن معظم الكتاب الآن، أدعو القارئ إلى أن يكون مبدعاً، ولا تتحقق روايتي إلا بإبداع القارئ إبداعا إيجابياً. لا أود أن يكون التلقي تلقياً سلبياً فقط. ولهذا فالرواية ليست تسلية ولا تشويقاً ولا دعوة ولا تبشيراً ولا حلاً ولا إجابة. قد تشتمل على شيء من ذلك كله أو بعضه، وهو أمر مشروع ولكن في سياق عمل فني. وهي ليست شيئاً مغلقاً. ليست لؤلؤة مدورة، جوهرة لامعة وناصعة وبالتالي مُعْشيَة.

القارئ أيضاً ليس تجريداً وليس هناك (القارئ) في التعميم، هناك قارئ وقارئ، بعض القراء أسعدوني سعادة غير متوقعة، وبعضهم الآخر، ممن اتصلت بهم مباشرة، شعرت أنهم لم يدركوا أو أنهم لم يحيطوا إحاطة كاملة بكل الإشارات والأبعاد والتلميحات والتضمينات والنصوص الخفية، ولكنهم أحسوا بشحنة من الطاقات، وهذا ما يكفيني ويزيد. مجرد أن الشحنة والطاقة حققت المشاركة التي كنت أسعى إليها. ولكني لا أسعى في ظروفنا الحالية الثقافية إلى ما يسمى بالقراء الجماهيريين، يعني القارئ (العريض) وإن كنت لا أعرف بالضبط معنى هذه الكلمة.

العلاقة بين الكاتب والقارئ علاقة معقدة وأعتقد أنها مازالت في ثقافتنا العربية تحتاج إلى تقص وسبر اجتماعي وعلمي وعلى أسس منهجية، لست أدري إذا ما كان أحد قد قام بذلك.

عودة إذن إلى مسألة النص، أي مسألة النوع الأدبي عندي، هذا عندي ليس إطلاقاً ولا محدداً، أحياناً أضع على كتاب من كتبي (رواية)، على سبيل الاستفزاز للقارئ ودعوته إلى التفكير معي في هذا النوع الأدبي الذي يسمى (الرواية) لأن هذا الكتاب يمكن جدا أن يقرأ كفصول مستقلة، كقصص قصيرة إذا أحب القارئ. ولكن لا شك في تصوري، أن النص يزداد ثراء ـ إذا سمح لي أن أقول ـ ويزداد كثافة بقراءة الكتاب كله معاً، يعني إذا سلكنا هذه الفصول في عقد واحد اكتسبت بعدا آخر. إذن النوع مفتوح.

عندما أضع على الكتاب عبارة مثل (متتالية قصصية) أو (تنويعات روائية) فإن في هذا استفزازا للقارئ فيه حض له على التفكير، أكثر من هذا أتصور أنه من الممكن أن تقرأ فقرات أو صفحات من هذا الكتاب مستقلة تماما وأن تكون كاملة في حد ذاتها إذا كان للكمال معنى، طبعاً، لأن الكمال ليس له معنى في حقيقة الأمر.

أيضا، هناك عندي حضور الشعر وسريان الشعر كوجود قائم ومستمر عبر تضاعيف العمل أو الكتاب، صحيح أنه يمكن قراءة سطور وأبيات موقعة وموزونة، حتى وفق الأوزان الخليلية العتيقة ولكنها على أي حال موسيقية، وممكن أيضا أن نجد جنباً إلى جنب وبقفزة واحدة ومن سطر إلى آخر، كتابات تسجيلية أو توثيقية كاملة المباشرة والتقريرية داخل بناء معين أي داخل تركيب شكلي معين للقيام بوظيفة معينة.

المبدأ العام أن الكتابة عندي تتم بعد تأمل وتفكير واحتشاد ولكن عند التنفيذ أو عند الكتابة يكون النص أحياناً خاضعاً لمفاجأة اللحظة التي أنصاع لها تماماً ولا أقاومها حتى لو كانت عكس ما في ذهني من إعداد مبدئي، بحيث إن ما يسمى بالإلهام المفاجىء تكون له الكلمة النهائية، تكون له الومضة الأولى والأخيرة، السمع والطاعة، مباشرة ودون نقاش، أعتقد أن هذا أمتع وربما كان أجمل ما يكتب، طبعا بعض النقاد والقارئين يجدون لهذا تفسيرات مفاجئة لي ويجدون علاقات لم تكن قد خطرت في ذهني بشكل واع وإن كنت أقتنع بسلامتها أو صحتها أو على الأقل احتمال هذه الصحة.

ولهذا فإن الناقد الكامن عندي لا يوجد إطلاقا عند الكتابة، هو موجود في ساعات وأيام وأسابيع وسنوات الإعداد، لأن بعض كتاباتي أحياناً تستغرق ثلاثين سنة حتى تكتب ليس من بداية السطر الأول، لا، من كتابة الفكرة أو من وجود الكتابة في حيز الاحتمال. أما بعد أن تنتهي الكتابة تماماً: فعندئذ يستيقظ الناقد ويقول للمبدع: ماذا فعلت? ويالسوء ما فعلت..!

كتابي الأول (حيطان عالية) (1942 ـ 1955) استغرق في الكتابة عدة نسخ، يمكن عشرات النسخ، لكن في كتابي الثاني (ساعات الكبرياء) (1972) وحتى الآن، المسودة هي تقريبا الصورة النهائية، لا أكتب مرة ثانية إطلاقا. هناك ضبط.. نعم، ربما حذف كلمة، ضبط الأوتار كما يفعل الموسيقيون حتى يحلو النغم، ولكن لا أكثر ولا أقل.

من الشعر للرواية

تناولت الشعر في البداية منذ الطفولة، اقتنعت في البداية أني شاعر، بمعنى الشاعر الذي يريد هو أيضاً أن يتمرد على تشكيلة الشعر المعتادة في ثقافتنا وأدبنا العربي، ولكني أحسست أن الرؤية عندي أوسع وأعرض وأعظم مما يحتمل الشكل الشعري كما كان يكتب عندئذ. توقفت عن كتابة الشعر في الأربعينيات أي في بداية الصبا، لم أنشر شيئاً منه، رقة النسج في شعري ذلك أو الخفة أو الرهافة التي كانت سائدة والتي لم يكن هناك غيرها، لم تكن لتحتمل الرؤية الشعرية التي أريد أن أحققها، فكانت فيما بعد القصة القصيرة أو الرواية، لكن القصة القصيرة لم تكن، قط، هي القصة القصيرة المعتادة أو التقليدية، ففي (حيطان عالية) أول ما نشرت في قصصي القصيرة، ما يمكن أن أسميه النفس الروائي أو سمات الرواية، هذا التلبث الطويل عند لحظات معينة وليس إجمالها، هذا لا يوقف الكثافة وربما كان يعمقها، هذا الوقوف وربما الإيقاف الخارجي للأحداث للدخول في وصف أريد أن يكون معمقاً وللباطن معاً بحيث تنتقل درامية الرواية أو القصة، درامية السرد على الأصح، من تتالي الأحداث إلى شيء آخر.. إلى تتالي المشاعر والأوصاف وتكون لها بحد ذاتها تلك السردية الخاصة التي تقع في مستوى آخر، ليس ذلك من خصائص القصة القصيرة، في (حيطان عالية) كان هذا موجودا وهو أول كتاب. إذن عملية (الشعرية) كانت قائمة وتريد أن توجد عبر شكل ليس هو شكل الشعر الذي يكتب حتى ذلك الحين.

تغيرت الموسيقى الآن في الشعر، ربما كان هناك بالتأكيد قصيدة النثر التي تحتمل أشياء كثيرة، ربما كان هناك ما أسميه القصة ـ القصيدة التي تحمل النوعين وتحولهما إلى نوع أدبي جديد.

 

إدوار الخراط