العولمة والطب والصحة

العولمة والطب والصحة

تظل العولمة في الطب صعبة التحقيق على الرغم من أن الطب كان ولايزال أكثر المجالات الإنسانية التي أمكن تحقيق نجاح عولمي فيها، ربما بعد الإعلام مباشرة، وربما قبله. وليس أدل على هذا الزعم من أن كل العالم يستعمل الأسبرين والبنسلين والسلفا حتى وهو يحارب بعضه بعضا.

يبدو لبعض الناس - ومعهم الحق - أن الطب هو أكثر النشاطات الإنسانية ترحيباً بالعولمة، لكن يبدو لي أن هذا نوع من الوهم الكبير.

يحكى أن طبيباً مسلماً عظيم الشأن ألّف كتاباً مرجعاً في الطب، فجعل عنوانه (أمراض الأغنياء وأمراض الفقراء)، لا يعنينا العنوان وإنما تعنينا الفكرة في أن الغنى في حد ذاته يكون عاملاً مشجعاً على انتشار بعض الأمراض في طبقات الأغنياء، وكذلك يكون الفقر.

ولعل المثل البارز في هذا الصدد هو مرض النقرس الذي تزداد فيه نسبة حمض البوليك ويصبح المصاب بهذا المرض في حاجة إلى الإقلال من اللحوم الحمراء على وجه خاص، وتعاطي مواد كفيلة بعلاج هذا الحمض (الكولشسين) ويسمى هذا المرض في أوساط كثيرة بمرض الملوك. المثل البارز في الناحية الأخرى من الشاطئ هو مرض فقر الدم الأنيميا حيث ينتشر في المجتمعات والعائلات الأقرب إلى الفقر.

وليس من شك أن تأثير البيئة نفسها في انتشار المرض شيء أساسي ومعترف به من قبل الأطباء جميعاً، بل والناس العاديين. خذ كمثال الأمراض المنتشرة عن طريق العدوى بالطفيليات المختلفة، وكيف تخلو منها المجتمعات المتقدمة، وخذ انتشار الحمى الروماتيزمية في بيئات معينة حيث الرطوبة والظلام والفقر... إلخ.

ليس هذا موضوعنا بالتحديد، ربما أن موضوعنا بالتحديد هو ما غير هذا بالضبـط: أي كيف يمكن أن يكون هناك عامل مشـترك بين كل جوانب الصحة، بصرف النـظر عـن البيئة? بعبارة أخرى هل يمكن تعميم أنماط صحـية على مستوى العـالم على النـحو الذي يمكن فيه تعـميم أنماط إعـلامية أو ثقافية أو تجـارية أو سـلوكية?!!

عولمة الأسبرين

الجواب سهل، وسهل جداً، لكن التنفيذ صعب، وصعب جداً، وسنبدأ بالجانب الأسهل وهو تجربة العالم الحديث في مجال الدواء، وسنكون حريصين على تجريد الفكرة بقدر الإمكان حتى تنجو من أسر الحالات الخاصة والأوضاع المتميّزة.

ولنبدأ بأكثر الأدوية استعمالاً وهو عقار الأسبرين. نحن نعلم أنه اكتشف في إحدى البلدان، وأنه طوّر في غيرها، وأنه استخدم على نطاق واسع في غير هذه وتلك، وأنه الآن يصنّع في كل مكان وتحت أسماء مختلفة. وأنه في القطر الواحد من أقطار العالم يوجد أكثر من مصنع (أو بالأدق أكثر من خط إنتاج) للأسبرين.

ما شأن العولمة بمثل هذا العقار? سؤال بسيط ولكن إجاباته متعددة الأنماط:

النمط الأول: لو أن إحدى الشركات العالمية عابرة القارات متعددة الجنسيات صممت على احتكار إنتاج الأسبرين في العالم كله... هل تنجح? أم لا? الإجابة أنه بإمكانها لو أنها صممت! لكن هل يساوي هذا الاحتكار ما سوف يُدفع من أجله?

هنا قد نجد أنفسنا أمام صورة من صور العولمة مرتبطة بتفكير مؤسسات في الأمر من خلال النظر إلى مقدار ما يتحقق لها من أرباح أو منفعة نتيجة قيامها بهذا الدور، وهو ما يطلق عليه في الاقتصاد فعالية التكاليف، وتكون النتيجة بعد مناقشات وممارسات أن تزدهر العولمة حين تكون العولمة نفسها مكسباً للذين يرفعون شعارها، وتتوقف العولمة نهائياً حين لا تكون مصدراً لهذا المكسب.

هنا نجد أنفسنا مرة أخرى نتصوّر العولمة كشعار من شعارات الإقناع والترويج، وليس كمبدأ من مبادئ حياة جديدة أو نظام عالمي جديد!

وربما يصدق القول إنه ليس فيما ذكرنا جديد من ناحية المثل، لكن ربما كان المهم هو أن التفكير في النمط المترتب (تجارياً) على أسلوب التفكير بالعولمة يفتح المجال أمام آفاق متعددة وكثيرة جداً من البدائل في صياغة موقف العولمة من حياة الناس، وموقف الناس من العولمة نفسها، ولعل النمط الثاني يوسّع من آفاقنا خطوة أخرى.

دعك المخ!

النمط الثاني: يدرس الناس الطب في مختلف بلدان العالم الغربي - وبالتالي في كثير من بلدان العالم المرتبط بالعالم الغربي - من منطق الطب الكيميائي الذي يُعنى بأخلاط الجسم وبيولوجيته والمكونات الكيميائية وآثارها، وفي بعض المجتمعات (ليست قليلة التعداد. (لايزال الدرس الطبي للجسم البشري يجري بطرق أخرى، خذ مثلاً الطب الصيني ونظرية النقاط المعينة المحددة في جسم الإنسان، خذ اليوجا والتأثير الروحي والتعوّدي والنفسي، خذ طب الحكمة كما يسمّونه في باكستان.

كيف يمكن أن تكون هناك عولمة في هذا الصدد? هل يكون هذا بالاعتراف المتبادل وذلك بأن تخصص الكليات التقليدية في القاهرة وكمبردج وهارفارد قسماً فرعياً للطب التقليدي أو الشعبي أو القديم، على حين تسمح العواصم الكبرى، بل والمدن الكبرى في الحضارات الآسيوية والإفريقية بافتتاح مستشفيات أمريكية أو ألمانية وممارسة الطب فيها، إذا كان الأمر كذلك، فإن سياسة الاعتراف المتبادل قائمة منذ زمن بعيد، لكنها لم تنجح - ولن تنجح أبداً - في صياغة نوع من أنواع العولمة، وصبغ الممارسة الطبية بهذا النوع المختار بدقة أو بغير دقة.

هل نستطيع الآن أن نتوقف لنقول إنه من المستحيل أن تتطرق العولمة إلى (الأساليب) التي يمارس الناس بها حضارتهم فتغيّرها. قد يبدو هذا القول صحيحاً جزئياً، لكن التاريخ علّمنا أن التطور الذي أحرزته كثير من الحضارات لم يكن إلا نتيجة طبيعية وفورية لاتصالها بحضارات أخرى، سواء عن طريق لقاءات الحروب أو لقاءات السلم، ولعل المثل البارز في قضية الطب هو ذلك التطوّر الذي حدث للطب الأوربي في أعقاب الحروب الصليبية، ويكفي أن نقرأ ما يرويه (أسامة بن منقذ) عن ممارسة أطبائهم للطب لنعرف أنه لولا اتصالهم بالعرب والمسلمين ما أتيح لهم بعض هذا التقدم، ألم تر إلى ذلك الطبيب الذي شقّ رأس المريض ليخرج منه الشيطان، ودعك المخ بالملح!!

إذا كانت العولمة تتيح اتصالاً مكثّفاً بأسرع مما كان الاتصال متاحاً من قبل، فإنها - بلاشك - سوف تضاعف من حجم التأثير الحضاري الناشئ عن الاتصال والتواصل الإنساني - الحضاري، وسوف تتيح لآليات التأثير والتأثر أن تظهر آثاراً غير محددة في سياسات التطبيب والعلاج على مدى قصير جداً.

وهنا بالضبط يمكن لنا أن ننتبه إلى حقيقة أن العولمة في الجانب الأكبر والأكثر تأثيراً منها مرتبطة - وهذا حق - بوسائل الإعلام، وأن النجاح الإعلامي في تحقيق هذا التواصل هو العامل الأكثر تأثيراً ونجاحاً في بث أو نشر العولمة في مجال الصحة والعلاج لتوحد من كثير من أنماط السلوك والاتجاهات الاجتماعية، بل والنفسية في مرحلة سابقة!

وكلنا يعرف أن وسائط الإعلام المختلفة قد أثبتت من قبل نجاحاً فائقاً في تحقيق رسالة تنموية مهمة تتعلق بالتوعية الصحية والإعلام الصحي، وإلى الحملات الإعلامية (المخططة جيداً) يُعزى كثير من النجاح في مكافحة ومقاومة كثير من الأمراض والأوبئة، وهذا كله حق لا مراء فيه.

مسئولية مَن?

ولكن على الجانب الآخر، فإن نجاح وسائل الإعلام في فرض سياسة صحية عالمية لا يمكن أن يتحقق بالسهولة نفسها لأسباب كثيرة، لعل أهمها هو افتقاد الآليات الكفيلة بتحديد المسئول عن التمويل، فضلاً عن إتمام عملية التمويل نفسها، وربما تثور في هذه اللحظة مشكلات مرتبطة بتحديد قدر استفادة كل مستفيد من نجاح الحملة، سواء في ذلك الدولة أو الشعب أو الدولة المجاورة أو الشعوب المجاورة، دعك من أصحاب العمل وأصحاب رءوس المال.

وعلى سبيل المثال، ربما يسأل كل هؤلاء سؤالا وجيهاً عند بدء دعوتهم للمشاركة، ومع أنهم يعرفون إجابته، فإنهم لن يتورّعوا عن أن يسألوا: أليس من واجب الهيئة الصحية العالمية (منظمة الصحة العالمية) وهي هيئة قائمة وذات كيان بيروقراطي ضخم ومنتشر في جميع أرجاء الدنيا، أليس من واجب مثل هذه الهيئة أن تتولى التمويل أو تدبير التمويل لفرض سياسة صحية ما?

إذا ما وصلنا إلى هذه النقطة، فإننا نكون قد وصلنا إلى حيث يأتي الصراع التقليدي المرتبط بالعقائد، ولنأخذ مثلاً واضحاً جداً وهو مسألة تنظيم الأسرة، فالرؤى مختلفة تماماً، وبعض العقائد تكاد تناقض عقائد أخرى، بل وعلى مستوى أكثر تعقيداً من العقائد، فإن السياسات الاقتصادية والاجتماعية نفسها متعارضة في أهدافها (ويكفي على سبيل المثال أن نشير إلى مصلحة الفلسطينيين في داخل إسرائيل في الإكثار من الإنجاب). هل يمكن أن نفرض على العالم اتفاق (جنتلمان) بحدود قصوى للتزايد أو النموّ السكاني? تصعب الإجابة بنعم، ومع هذا، فإن الأمل في تجاوز الإجابة بـ(لا) لايزال قائماً.

تعميم القيم

ونعود إلى ما بدأنا به حين ضربنا المثل بالدواء، وربما تصبح الأسئلة هنا ذات مضمون: هل يمكن التجاوز عن فرض رقابة محلية على الدواء? المستورد? هل يمكن تعميم القيم الأخلاقية على ممارسة صناعة الدواء نظرياً يمكن، وعملياً لا يمكن عولمة مثل هذه المجالات حتى على مستوى الموظف المنوط به منح التصاريح الخاصة بالاستيراد أو السماح بالاستعمال أو التعاطي أو التداول أو التجارة.

وهناك أنماط كثيرة للفهم العقيدي (نسبة إلى العقيدة) لطبيعة ووظيفة الدواء، بل إن المنفعة الشخصية قد تكون في لحظة من اللحظات بمنزلة عائق - ولو مؤقت - أمام انتشار أحد العقاقير. لنذكر على سبيل المثال موقف وزير الصحة في أحد البلدان العربية الذي خاض حملة شرسة ضد عقار الفياجرا انطلق بها إلى أبعد مما يحتمله عقار واحد، ونشأت صدامات حقيقية مع صنّاع الدواء وموزعيه، بل ومع الرأي العام الذي كان متعطّشا إلى إيجابيات العقار الممنوع.

أخلاقياتهم وأخلاقياتنا

ربما يجوز لي وأنا أقترب من النهاية أن أمضي الآن إلى نقطة أكثر بعداً عن مناطق الاختلاف النفعي أو القيمي، وهما العنصران اللذان تناولتهما حتى الآن. ولنقفز إلى العنصر الثالث وهو العنصر الأخلاقي. ونحن نعرف أن الأخلاقيات لاتزال أحد الحواجز بين الدول والقوميات بحكم موروثات تاريخية قديمة وحديثة على حد سواء. الأخلاق ترتبط بالقيم، لاشك في ذلك، وترتبط كذلك بالمنفعة لا خلاف على ذلك، ولكنها تبقى بمنزلة جانب ثالث مختلف عن الجانبين الأولين.

لنتأمل نظرة المجتمعات إلى الجسم البشري. فقد كان الرومان يحثّون أطفالهم منذ مرحلة مبكّرة على دراسة (فحص) هذا الجسم والاستمتاع به، بل ومعرفة أعضاء الجنس الآخر. وفي هذا الصدد سألجأ إلى قصة عاصرتها بنفسي، فقد فوجئت ذات يوم بزميل أستاذ في كلية طب مصرية يطلبني من الخارج وهو منزعج، وسأختصر القصة لأروي للقارئ مباشرة أن زميلي هذا لم تكن عنده أدنى فكرة عن هذا التوجه القاضي بالاستمتاع والمعرفة، حتى ذهب صباح ذلك اليوم ليتابع أموراً روتينية جداً تخص ابنته في المدرسة الابتدائية بعد أسبوع واحد من إلتحاقها بها في إحدى العواصم الأوربية، وحين وجد البنات والبنين جميعاً في حمام السباحة عرايا تماماً دون أي ملابس، انتابته موجة عارمة من الذهول، وقد استنكر بالطبع أن تشترك ابنته في مثل هذا، وردت عليه الناظرة باحترام شديد: إن هذه الحصة حصة دراسية أساسية في المقرر للتعرّف على الجسم البشري عارياً تماماً، سواء في ذلك البنت أو الابن!! لهذا السبب - وفي ظل حيرة عميقة تالية للذهول المفاجئ - اتصل بي هذا الزميل، ومن البديهي أنه كان في حاجة إلى مشاركة عقلية وجدانية في الحالة التي وجد نفسه يواجهها. وقد رويت له بتوسع عبر الهاتف ما رويته للقارئ باختصار عن عقيدة وسلوك الرومان تجاه الجسد البشري.

وبالتأكيد لم يكن في وسعي - ولا كان مطلوباً مني - أن أقنعه بوجهة نظر المجتمع الجديد، لكن كان في إمكاني أن أشرح له الخلفيات الثقافية والحضارية بكل دقة، وقد فعلت ونجحت، وأضفت إلى هذا بعض الحديث عن التوجهات التربوية وكيف تبنى - الآن - على مستوى المناهج الدراسية. وكان زميلي ممتناً بأكثر مما أستحق، وكان سعيداً أن اختياره لهذا التواصل معي حقق له بعض هدوء النفس، لكنه - وهذا طبيعي - ظل يعترف بأنه لم يفهم حتى هذه اللحظة مثل هذا المغزى ولا المعنى التربوي فيما وراءه (وأظن أنه ليس من حقي أن أتحيّز إلى رؤيته - بحكم تربيتنا المشتركة - وأقول: ومعه حق)، ولكن إذا كان مثل هذا المستوى الفكري والعقلي غير قادر على استيعاب هذا النمط من تفكير (الآخر) الذي قد يقدر له أن يسود في الحياة الطبيعية الفسيولوجية، فما بالنا في الأمراض?

ربما كان السؤال عميقاً... لكنه بكل تأكيد غير عقيم.

الإجهاض والعولمة

وربما أذكر الآن مثلاً أخيراً كثيراً ما أستشهد به لطلابي ولزملائي كمدخل لفهم الممارسة الخلقية لمهنة الطب، نحن نعرف حكم الحضارات المختلفة في الإجهاض، هناك مَن يبيحه مطلقاً، وهناك مَن يحرمه مطلقاً، ومَن يجيزه في بعض الأحيان دون البعض الآخر، لكن ماذا عن الطبيب المناوب المسئول عن قسم النساء والتوليد? هل يكون من حقه أن يفرض معتقداته هو حين يُطلب منه أداء هذه العملية?!

الإجابة تختلف حتى في هذه الجزئية المرتبطة بممارسة مهنية مطلقة، بالطبع فإن السلطات الصحية في بعض الدول (ومنها بريطانيا على سبيل المثال) تترك للطبيب حق الامتناع عن الإجهاض إذا كان هذا يتعارض مع عقيدته.

وهناك سلطات أخرى في دول أخرى لا تسمح لمثل هذا الطبيب (المسلم أو الكاثوليكي على سبيل المثال) بأن يمتنع عن أداء مهنة مطلوب منه أداؤها، خاصة أن القوانين تسمح للمواطنين بطلب هذه الخدمة الطبية لأن الإجهاض مباح في قانون الدولة!!

وفي هذه الحالة فإن الطبيب الممتنع عن إجراء الإجهاض (لمن تطلبه) لا يعامل إلا كما يعامل من امتنع عن إنقاذ حياة مريض من الموت، مع أنه - وياللمفارقة - في هذه الحالة (وطبقاً لعقيدته هو) كان يود لو امتنع عن إزهاق حياة مريض.

هذا المثل الذي قدمته لتوي قد يكون مزعجاً بعض الشيء، وربما يكون مع قدر من التأمل أكثر إزعاجاً من قصة حمام السباحة، لكنه يتكرر الآن، لا مع اختلاف الحضارات، بل في داخل شعوب ترتبط بالحضارة الإسلامية بمذاهبها المختلفة، وربما أدرك القرّاء أني أعني الآراء المختلفة في نقل الكلى على سبيل المثال.

تظل العولمة في الطب صعبة التحقيق على الرغم من أن الطب كان ولايزال أكثر المجالات الإنسانية التي أمكن تحقيق نجاح عولمي فيها، ربما بعد الإعلام مباشرة، وربما قبله، وليس أدل على هذا الزعم من أن كل العالم يستعمل الأسبرين والبنسلين والسلفا حتى وهو يحارب بعضه بعضاً.

 

محمد الجوادي