السينما واكتشاف أمريكا سمير فريد

تحتفل أوربا عام 1992 بمرور 500 سنة على اكتشافها القارة التي أطلقت عليها أمريكا . ففي 12 أكتوبر في الوصول إلى اول شواطئ أمريكا ، وذلك في رحلته الأولى التي مولتها الملكة إيزابيللا ملكة إسبانيا وقد قام كولمبس بعد ذلك بثلاث رحلات أخرى ، وتوفي عام 1506 وهو في الخامسة والخمسين من عمره .

بهذه المناسبة صدرت عشرات الكتب ونشرت مئات المقالات والأبحاث عن شخصية كولمبس ، وعن أسباب رحلته التاريخية ، وأثرها في تاريخ العالم . ويختلف المؤرخون حول هذه الشخصية ، كما يختلفون في تحديد أسباب الرحلة ، وأثرها ، بل ويختلفون حول أصل كولمبس ، واسمه ذاته . فمن قائل إنه من جنوة وقائل إنه من كورسيكا ، ومن قائل إن اسمه كولومب وقائل إن اسمه اشتقاق من كلمة الاستعمار ( كولونيال ) .

ومن المؤرخين من يرى أنه عالم قدير في الفلك والجغرافيا ، ومنهم من يرى أنه ليس إلا قرصان وتاجر للعبيد. وعلى حين يفسر البعض أسباب الرحلة بأنها علمية ، وبهدف اكتشاف كل العالم لكل العالم وربط أجزائه من أجل التعاون بين البشر، يذهب البعض الأخر إلى أن خروج المسلمين من إسبانيا في مطلع عام الرحلة ( 2 يناير 1492 ) أدى إلى التفكير في حرب صليبية جديدة لاستعادة القدس، وكانت رحلة كولمبس بحثا عن الذهب لتمويل تلك الحرب . وأيا كان الأمر فالمؤكد أن العالم بعد 1492 لم يعد كما كان قبل فلك العام ، وأن الإنسانية قد عرفت في ذلك العام حدود الأرض التي تعيش عليها.

وكما كان عام 1492 حدا فاصلا بين العصور الوسطى وعصور النهضة في تاريخ أوربا، فإن كل الدلائل تشير إلى أن عام 1992 بدوره سيكون حدا فاصلا بين عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، وعالم ما بعد حرب الخليج وسقوط النظم الشيوعية . ولكن بينما لم تكن أحداث النصف الثاني من العقد التاسع من القرن العشرين منذ تولى جورباتشوف السلطة في . موسكو عام 1985 في حسابات العالم ، كان عام 1992 في حسابات أوربا منذ بداية ذلك العقد . فقد تقرر إعلان الوحدة الأوربية عام 1992، وتقرر اختيار إسبانيا التي خرج منها كولمبس في رحلته التاريخية لتكون عروس أوربا والعالم 1992، وذلك بإقامة المعرض الدولي في إشبيلية، ودورة الألعاب الأولمبية الدولية في برشلونة، واعتبار العاصمة الإسبانية مدريد عاصمة الثقافة الأوربية طوال العام.

عام متميز

وهذه الأحداث بالنسبة إلى إسبانيا تجعل عام 1992 العام الذي يتم فيه تدشين إسبانيا كدولة كبرى من دول أوربا والعالم: إنها بمثابة الإعلان " الرسمي " عما يمكن وصفه ب " المعجزة الإسبانية ". ففي خلال نحو خمسة عشر عاما فقط ، بعد وفاة فرانكو عام 1975 وعودة النظام الملكي، انتقلت إسبانيا من دولة ديكتاتورية ضعيفة وشبه متخلفة تعيش في عزلة منذ أربعة عقود ويزيد، فى دولة ديموقراطية قوية ومتقدمة تتفاعل مع أحداث العالم، وتؤثر فيها وتتأثر بها. ولم يكن أختيار مدريد لافتتاح مؤتمر السلام في الشرق الأوسط سوى تأكيد على هذه الحقيقة. وقد استعدت إسبانيا لتجعل عام 1992 عام إسبانيا بحق، فيتم وضع خطة للإنتاج السينمائي والتلفزيوني منذ عام 1981 ، وبدأ الاستعداد لمعرض إشبيلية منذ عام 1983، ولدورة برشلونة منذ عام 1986. ولعل خطة الإنتاج السينمائي والتلفزيوني تصبح مثلا يحتذى للاحتفال بالمناسبات الكبرى .

خطة السينما والتلفزيون

قامت الحكومة الإسبانية عام 1981 بإنشاء مؤسسة تابعة لوزارة الخارجية باسم " مؤسسة القرون الخمسة " لإنتاج الأفلام والمسلسلات والبرامج التلفزيونية الإسبانية والمشتركة مع شركات من دول أخرى. وقد تم وضع خطة الإنتاج السينمائي والتلفزيوني على النحو التالي:

أولا : الأفلام الروائية:

1 - الفلاح (1988 ) : إخراج مانويل جوميز عن رواية ميجيل بارنت عن فلاح إسباني يهاجر من قريته إلى أمريكا اللاتينية بحثا عن الثراء.

2 - اكسونكا دائما (1989): إخراج شانو بينيرو عن المهاجرين من صقلية إلى إسبانيا .

3 - بعد العاصفة (1990): إسبانيا / الأرجنتين ، إخراج تريستان باور عن حياة أحد عمال المناجم في الأرجنتين وصراعه اليومي من أجل تحسين شروط عمله ومعيشته.

4 - السقوط من السماء (1990): إسبانيا / بيرو/ فرنسا / هولندا ، إخراج فرانشسكو لومباردي عن الصراع السياسي والاجتماعي في ليما في السبعينيات.

5 - الحصاد الأخير (1990): إسبانيا / الأرجنتين / بريطانيا ، إخراج ميجيل بيريرا عن العلاقة بين عامل مناجم وأحد ملاك الأراضي الزراعية في وادي الأرجنتين.

6 - لورالديا : موسم الزهرة (1990): إسبانيا / الأرجنتين ، إخراج أوسكار أزبيوليا عن حياة لاجئ سياسى أرجنتيني في إسبانيا يقرر العودة إلى الأرجنتين لمعرفة تاريخ أسرته، ثم يعود إلى إسبانيا ليكتب كتابا عن هذا التاريخ.

7 - كابيزا دي فاكا (1991) : إسبانيا / المكسيك / بريطانيا / الولايات المتحدة ، إخراج نيكولاس ايشغاريا عن حياة المغامر كابيزا دي فاكا الذي انفصلت سفينته عن الأسطول الإسباني في القرن السادس عشر ووجد نفسه على شواطئ ما عرف بعد ذلك باسم فلوريدا، وكيف اصطدم مع السكان الأصليين، ثم عاد وانضم فى الأسطول، وشارك في احتلال المكسيك.

8 - يضرب ليقتل (1991): إسبانيا/ فنزويللا، إخراج كارلوس أزبوراو عن العنف في فنزويللا المعاصرة من خلال قصة أم يلقى ولدها مصرعه برصاص الشرطة .

9 - الرحلة (1991): إسبانيا / الأرجنتين / المكسيك/ فرنسا / بريطانيا ، إخراج فيرناندو سولاناس عن رحلة مارتين (16 سنة) الذي يعيش مع والدته بعد طلاقها في البحث عن والده المختفي منذ ثماني سنوات.

10- كريستوفر كولمبس (1992): إسبانيا / الولايات المتحدة/ فرنسا، إخراج رايدلي سكوت تمثيل جيرار ديبارديو في دور كولمبس .

ومن الجدير بالذكر أن هناك فيلما آخر عن حياة كولمبس يعرض عام 1992 أيضا بعنوان " كريستوفر كولمبس " إخراج جون جلين وتمثيل جون كارافاس في الدور الرئيسي ، والفيلم إنتاج بريطاني أمريكي .

ثانيا : المسلسلات التلفزيونية ( مصورة بكاميرات السينما ):

1- ألف أمريكا وأمريكا : رسوم متحركة 26 حلقة ( الحلقة 26 ق ) عن تاريخ أمريكا قبل كولمبس .

2 - عالم إسبانيا : تسجيلي 18 حلقة ( الحلقة 54 ق ) عن تاريخ إسبانيا .

3 - المرأة المدفونة : إسبانيا / الولايات المتحدة ، تسجيلي 5 حلقات ( الحلقة 60 ق ) عن تاريخ أمريكا اللاتينية قبل وبعد كولمبس . تأليف كارلوس فنونتيس (نوبل للآداب ) إخراج بيتر نيونجتون ( الأولى والثانية ) كريستوفر رولنج ( الثالثة والرابعة ) دافيد كينراد (الخامسة).

4 - إمبراطورية الشمس : إسبانيا / المكسيك، تسجيلي 13 حلقة ( الحلقة 26 ق ) إخراج فيرناندو ديل أوسو. عن الثقافات القديمة في بيرو وبوليفيا.

5 - المكسيك الأخرى : إسبانيا / المكسيك ، تسجيلي 13 حلقة ( الحلقة 26 ق ) إخراج فيرناندو ديل أوسو عن تاريخ المكسيك .

6 - تقرير عام عن شيلي تحت حكم بينوشيه : إسبانيا / شيلي، تسجيلي 4 حلقات ( الحلقة 55 ق )، إخراج ميجيل ليتين.

7 - المرأة في أمريكا اللاتينية: تسجيلي 13 حلقة ( الحلقة 60 ق ) إخراج كارمن سارمينتو جارسيا.

8 - حكايات بورجيس : روائي 6 حلقات ( الحلقة 60 ق ) عن قصص الكاتب الأرجنتيني بورجيس إخراج كارلوس ساورا - خايمي شافاري - هيكتور أولفيرا - جيراردو فيرا .

9 - باروك : إسبانيا / كوبا / المكسيك روائي 3 حلقات ( الحلقة 50 ق ) وتم صنع فيلم بالعنوان نفسه من المادة نفسها مدة عرضه 120 ق إخراج بول ليدوك عن رواية اليخو كاربنتيه حول تاريخ أمريكا اللاتينية منذ كولمبس حتى الزمن المعاصر.

10 - ايلدو رادو: إسبانيا / فرنسا، روائي 3 حلقات ( الحلقة 56 ق ) وتم صنع فيلم بالعنوان نفسه من المادة نفسها مدة عرضه 151 ق عرض في مسابقة مهرجان كان عام 1988 . إخراج كارلوس ساورا عن اكتشاف أمريكا .

ثالثا : الأفلام التسجيلية:

1- المايان : حضارة مجيدة إخراج فيليبي فيجا (25 ق) عن الحضارات القديمة في أمريكا اللاتينية.

2 - سحابة المطر: شيلي / الولايات المتحدة، إخراج باترشيا مورا ( 58 ق ) عن الحياة اليومية للفلاحات في شيلي .

3 - بينتا ونينا وسانتا ماريا : إخراج مانويل جارسيا - بينتي ( 60 ق ) عن السفن الثلاث التي استخدمها كولمبس في رحلته الأول ، وقد تم إعداد نماذج للسفن مطابقة لمواصفات 1492 بدأ تصنيعها عام 1983 للمشاركة في الاحتفالات عام 1992 .

4 - سفن الاكتشاف: إخراج مانويل جارسيا - بينتي ( 20 ق ) عن عملية تصنيع نماذج سفن كولمبس الثلاث في رحلته الأولى .

5 - يوميات الاكتشاف : إخراج بازبيلباو ( 55 ق) عن لوحات الرسام كايوم ماكس التي رسمها بأسلوب المايان القديم، وهو من سلالة المايان .

الاكتشاف في تاريخ السينما

مع إتمام العمل في الفيلمين اللذين يتناولان حياة كولمبس يصل عدد الأفلام التي تناولت اكتشاف أمريكا إلى خمسة كان أولها الفيلم الأمريكي " كولمبس " إخراج دافيد ماكدونالد عام 1949 وتمثيل فردريك مارش في دور كولمبس ، وثانيها الفيلم الألماني " أجويرا : غضب الرب " إخراج ورنر هيرزوج عام 1973 ، وثالثها الفيلم الإسباني " ايلدو رادو " إخراج كارلوس ساورا عام 1988 .

ويتناول الفيلمان الألماني والإسباني قصة الضابط الإسباني لوب دي أجويرا ( 1511- 1561 ) الذي اشترك في " بعثة " بيدرو دي أورسوا ( 1525 - 1561 ) التي أرسلها فيليب الثاني ملك إسبانيا عام 1560 لاكتشاف ايلدورادو ( مدينة الذهب ) بعد سنة واحدة من توليه العرش عام 1559. وكان أجويرا قد قام برحلته الأولى إلى أمريكا اللاتينية عام 1534 واشترك في الحرب الأهلية في بيرو ( 1537- 1554 )، وقتل في إحدى المعارك عام 1561 بعد أن قم بقتل ابنته ألفيرا .

والمقارنة بين الفيلمين توضح وجهتي النظر الرئيسيتين في رؤية تاريخ اكتشاف أوربا لأمريكا . ففي الفيلم الألماني نرى مجموعة من الغزاه بقيادة فرانشسكو بيزارو تبحث عن ذهب إيلدورادو عام 1560، ومن بينهم أجويرا، وفي، صحبتهم القس جاسبار . ثم نرى أجويرا القائد الثاني في بعثة أورسوا يتآمر ضد قائده ويقتله، وينصب فيرناندو جوزمان إمبراطورا، ثم لا يلبث أن يقتل جوزمان أيضا. وتنهال السهام طوال الفيلم لتقتل أفراد البعثة الواحد بعد الآخر، بينما هم يقتلون بعضهم البعض الآخر في الوقت نفسه . وينتهي الفيلم وأجويرا وحيدا وقد اختل عقله تماما ، يتحسس ابنته في شبق ، ويردد في مونولوجات أقرب إلى الهذيان أن العالم الجديد سوف يكون من نسله وابنته .

وهيرزوج في فيلمه يعبر عن وجهة النظر التي ترى أن ما يسمى اكتشاف أوربا لأمريكا ليس إلا عملية نهب ، موضحا منذ البداية بوجود شخصيه القس جاسبار ما يطلق عليه الدكتور جمال حمدان في كتابه " استراتيجية الاستعمار والتحرير" الأركان الثلاثة للاستعمار الإسباني ( الغزو والذهب والتبشير). والقس جاسبار في الفيلم يرأس " محاكمة " أورسوا ويحكم عليه بالإعدام ، وعندما يطلب جوزمان تأجيل الحكم يقتله أجويرا بمباركة القس ، ويقوم بإعدام أورسوا بنفسه . وفي مشهد آخر يقدم القس الكتاب المقدس لأحد السكان الأصليين ، ولأنه لا يعرف قيمته يلقيه على الأرض ، فيقتله القس بالسيف أمام زوجته.

أما الفيلم الإسباني، وهو أضخم إنتاج في تاريخ السينما الإسبانية ( 6 ملايين دولار- مائة فتى عملوا في التصوير لمدة عشرة شهور في كوستاريكا عام 1987 ) فقد عبر عن وجهة النظر الأخرى المناقضة تماما ، وجاء بمثابة رد على فيلم هيرزوج . فمن الناحية التاريخية يوضح أن الفيلم الألماني أخطأ بالإشارة إلى وجود فرانشسكو بيزارو عام 1560 ، إذ قتل في ليما عام 1541 . ومن ناحية أخرى يصور مصرع أورسوا على يد أجويرا وأربعة من الضباط الآخرين وتنصيب جوزمان كمقدمة لحركة تمرد ضد العرش الإسباني. يقول كارلوس ساورا في الكتاب الصحفي عن الفيلم إن أجويرا كان " داعية للاستقلال، وأول من أطلق صرخة الحرية في أمريكا اللاتينية " . ويقول في الكتاب نفسه " لا تزال صرخة لوب أي أجويرا من أجل الحرية تزدد في أمريكا اللاتينية حتى اليوم . كانت أفعاله تعكس رغبته في تقرير مصيره أكثر من أي شيء آخر ، ولكي يحقق ذلك كان عليه أن يتمرد ضد أقوى إمبراطورية في العالم آنذاك ". ومنذ المشهد الأول في الفيلم الإسباني نرى أجويرا يقول " ما فائدة كل هذا : حياتنا أهم من هذه المهمة الغبية "، بل إننا نراه يقف ضد الرق والعبودية عندما تصبح كلمته هي الأقوى . أما عن علاقته بابنته فنراه يحلم بأنه يقتلها لعلاقتها مع أحد الضباط ثم نراه وهو يقتلها بالفعل .

لقد أخرج كارلوس ساورا فيلما " تاريخيا " بمعنى أنه التزم الدقة في الوقائع ووصل إلى حد كتابة تواريخ الأحداث على الشاشة باليوم والشهر والسنة ( مصرع أورسوا في أول يناير 1561 وتولي جوزمان في 24 فبراير فى مصرع أجويرا في 26 أكتوبر ) ، وفسر تمرد أجويرا بأنه دعوة للاستقلال ، وصرخة من أجل الحرية معبرا بذلك عن وجهة النظر " الرسمية " الإسبانية . أما هيرزوج فلم يكن يعبر عن التاريخ ، بل عن رؤيته للتاريخ حتى أن المتفرج لا يتصور أن أجويرا شخصية حقيقية ، بل شخصية شرير شيكسبيري ينتهي به مسلسل القتل إلى الجنون .

ولكن كلا من ورنر هيرزوج وكارلوس ساورا قدما فيلمين من الأفلام التي يمكن أن يعرضا معا ، فيستمتع بهما المتفرج ، ويتأمل التاريخ ، ومعنى تفسير التاريخ ، وهما يقدمان في ذات الوقت مادة خصبة للنقد السينمائي المقارن.