مامعنى " إن للبيت رباً يحميه" ؟ محيي الدين صبحي

مامعنى " إن للبيت رباً يحميه" ؟

"إن للبيت رباً يحميه " جملة قيلت في ساعة شدة، منذ خمسة عشر قرنا، فجرت مجرى المثل. ثم جاء المؤرخون المعاصرون فجعلوا منها قضية أطالوا فيها الخلاف والجدال. والجملة - كما هو معروف - قالها جد النبي (صلى الله عليه وسلم) حين واجه أبرهة الحبشي وهو في طريقه إلى مكة ليهدم الكعبة قدس أقداس العرب قبل الإسلام وبعده.

هذه الحادثة تناولها في العقدين الأخيرين أربعة مؤرخين، سوريين ومصريين، قوميين وإسلاميين، فوقفوا أمامها مبهوتين بين الشك واليقين. فقد تملصوا جميعهم من الحادثة بأشكال شتى : منهم من رفض الرواية جملة وتفصيلا بدعوى أنها تزري بالموقف التاريخي للعرب من مقدساتهم، ومنهم من رأى أن الرواية لم تصلنا كاملة، ومنهم من قال إن الله ألهم عبدالمطلب بأن يقول ما قال، وقال رابعهم إن عبدالمطلب كان في موقف الضعيف العاجز فسلم أمره إلى الله!! مما يوحي بأن الجميع يدين موقف عبدالمطلب ومن ثم يحاول أن يجد له مخرجا من موقفه. فهل كان عبدالمطلب، في موقفه أمام أبرهة، متخاذلا، حقا؟

طرحت هذا السؤال على العديد من المفكرين والمؤرخين فأقروا بأنهم يجدون الموقف برمته مربكا، وبالتالي فلا يجوز التلبث عنده لأنه سيؤدي إلى إدانة عبدالمطلب. ونصح أحدهم بحذف الحادثة من التاريخ: "فأية بداية للتاريخ العربي هذه البداية؟ ". ورجعت إلى أمهات التاريخ العربي وأصوله المعتمدة فوجدتها تثبت الحادثة. وبالتالي فلا مناص من مناقشتها، وهذه المناقشة غير ممكنة إلا بالرجوع إلى الصراع التاريخي على بلاد العرب بين عملاقي ذلك الزمان: القسطنطينية وفارس.

كانت شبه الجزيرة العربية من أغنى البقاع وأخطرها على مر التاريخ. وكان العرب فيها مسيطرين على طريق التجارة الدولية بين الشرق الأقصى (الهند والصين وأندونيسيا) وأوربا عبر مصر وسوريا والعراق. وقد نشأت في القرن الأول للميلاد في الجنوب دولة قوية تحت حكم شرحبيل "ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنات وأعرابها في الجبال والسواحل ". وقد دامت هذه الدولة إلى عام 340 م حين غزا ملك الحبشة "إيللا ميدا" اليمن وتلقب بملك أكسوم وحمير وذي ريدان وحبشتا وسلع وسبأ وتهامة" وكان هذا يعني أن نفوذ الروم - عن طريق النصرانية - قد وصل إلى أهم مناطق شبه الجزيرة العربية بواسطة الأحباش، خاصة أن بحرية القسطنطينية كانت تحتل ميناء عدن. وهنا برز دور اليهود الذين تسللوا إلى الجزيرة العربية بعد أن دمر الرومان أورشليم عام 70 ق. م وأجلوا اليهود عن فلسطين، فانتشر هؤلاء فيما بين الحجاز وفارس، آملين أن يساعدهم الفرس على العودة إلى فلسطين مثلما ساعدهم من قبل كورش بعد أن دمر بلاد بابل فعادوا قوافل بين 536 و 444 ق. م.

في البداية تحالف اليهود مع ملوك حمير بقيادة مالك كرب واستطاعوا أن يحتلوا قسما من اليمن، ثم خطا ابنه أسعد أبوكرب خطوة أبعد فأعلن اعتناقه لليهودية في وجه الأحباش، طمعا في دعم الفرس، أيضا، إلى أن أجلى آخر ملوك الحبشة "ذي الشناتر" ويوقع بالنصارى في مذبحة نجران الشهيرة (523 م)، ثم جمع الأمير الحميري من نجا منهم وخيرهم بين اليهودية أو القتل، فاختاروا القتل فخدد لهم أخدودا وأحرقهم فيه: النار ذات الوقود (سورة البروج). فوجدها نجاشي الحبشة فرصة لإعادة احتلال اليمن والسيطرة على الشواطىء الشرقية للبحر الأحمر فنقل بمساعدة جوستنيان من القسطنطينية حوالي مائة ألف جندي بزعامة أرباط الذي ذبح اليهود ومنعهم من الاختلاط بالعرب. حين وضعت الحرب أوزارها شرع في تأسيس وجود للمسيحية في اليمن فشيد كنيسة في ظفار وأخرى في نجران وعين عليها أسقفا جلبه من الإسكندرية. وحين رحل ترك على قيادة جيش الحبشة قائده أبرهة الذي شاد كنيسة القليس في صنعاء وزينها بالفسيفساء والذهب لكي يصرف "حاج العرب إليه ويتركوا الحج إلى بيتهم "، كما كتب إلى أبرهة.

إلا أن الأمر استفز العرب استفزازا أدى بهم إلى تلطيخ الكنيسة، مما جعل أبرهة يقتنع بأنه إذا لم يهدم الكعبة ويحتل الحجاز بحيث يصل بين قواته في اليمن وجيوش بيزنطة في سوريا فإن وجوده ووجود المسيحية يظلان مهددين في شبه الجزيرة العربية. فعاود تجميع قواته وسار بها قاصدا مكة.

في البداية قاوم اليمنيون الحملة بزعامة "ذو نفر"، ثم تصدت لها قبائل خثعم وشهران وناهس. ثم بدأ الأعراب يهاجمون مؤخرة الجيش وينهبون ميرته ويطمرون الآبار في الطريق الطويل إلى مكة. ولكي نعلم حجم العداء الذي يكنه العرب لجيش أبرهة، يكفي أن نذكر أن دليل الجيش الحبشي كان عربيا يدعى "أبا رغال " فقتله العرب وجعلوا له قبرا رمزيا خارج مكة، وجعلوا من رجمه بالحجارة إحدى الشعائر (حسب إحدى الروايات) والتي لا يصح حج بدونها ! ويبدو أن المقاومة (حرب الغوار) التي تخطفت جيش أبرهة بالتحالف مع الجفاف وعواصف الرمال أساءت إلى معنويات الجيش وصحته فتفشت فيهم الأمراض، وقد يكون الجدري هو أحد مظاهر هذه الحجارة "من سخيل " بالإضافة إلى حجارة المقاومين وسهامهم ونبالهم مما ساعد على الإجهاز على الجيش الغازي فاختل نظامه واستحال عليه طريق العودة فهلك من هلك وأسر الباقي واستعبدمما يفسر كثرة العبيد الأحباش في الحجاز عند ظهور الإسلام.

رد بارع.. أم محاولة للتنصل؟

ويبدو أيضا أن أبرهة، وهو في إحدى مراحل الطريق إلى مكة التقى بعبدالمطلب بن هاشم بن عبدمناف الذي ادعى أنه كان يسير في الطريق عرضا فاختطف الجيش إبله فقابل أبرهة مطالبا بالإبل. فلما علم أبرهة مقام عبدالمطلب في قريش استغرب أن يقصر هذا حديثه عن الإبل في مثل تلك الظروف. فرد عليه عبدالمطلب ردا غامضا في منتهى البراعة، قال:

- "أما الإبل فهي لي.. وأما البيت فله رب يحميه ".

إن ظاهر الكلام يحمل الاستقالة من المسئولية - إذا قطعنا الكلام عن ملابساته وفهمناه فهما سطحيا. لكن لو أنعمنا النظر في عبارة "وأما البيت فله رب يحميه " وتساءلنا ماذا كان عبدالمطلب يعني بها، لأوصلتنا إلى الصراع العقائدي الذي كان يدور في شبه الجزيرة العربية وعليها.

فحين وجد مفكرو العرب وسياسيوهم أن اليهودية أدت بهم إلى الاستعمار الفارسي وأن النصرانية أوقعتهم تحت النفوذ البيزنطي والاستعمار أو الاحتلال الحبشي، رجعوا إلى رصيدهم الروحي - الثقافي- التاريخي الضخم الذي ورثوه عن جدهم الأعلى إبراهيم ومن بعده إسماعيل: الحنيفية، وهي دين توحيدي سابق على اليهودية والنصرانية ومختلف عنهما، كما أنه بعيد عن الشرك والأصنام : ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين (آل عمران - 67 ). وقد ورد الحديث عن حنيفية إبراهيم في القرآن الكريم أكثر من عشر مرات للتأكيد على أنها دين عربي توحيدي متميز عن بقية الأديان، وعلى أن الإسلام استمرار له، وقد أكد سلوك الرسول الكريم على هذه المعاني، فقد كان خالد بن سنان العبسي من حكماء العرب، وكان يدعو قومه في نجد إلى دين إبراهيم، وحين وفدت ابنته إلى المدينة مع وفد من قومها لمبايعة الرسول صلى الله عليه وسلم) رحب بها وفرش لها عباءته وأثنى على أبيها وحكمته.

إذن، فباطن كلام عبدالمطلب إصرار وتحد وخلاف مع أبرهة وما يقصد إليه: "رب البيت " هو غير الرب الذي يدين له أبرهة، ورب البيت يحمي بيته من أبرهة. وعبدالمطلب لم يأت للتفاوض، وإنما ليلفت نظر أبرهة إلى أنه سيحارب رب العرب، أي أنه سوف يثير عليه العرب قاطبة. أي أن عبدالمطلب الأعزل يهدد أبرهة في وسط جيشه. لكن عبدالمطلب هدد أبرهة برب البيت ولم يدل لأبرهة بمعلومات محددة، فهو كأي قائد حصيف لم يكشف عن خطط قريش في مقاومة الغزو. بل إن سلوكه أكد الطابع السلمي للقيادة القرشية في مكة حيث كان الاتفاق بالإجماع بين العرب على اعتبار مكة أرضا مقدسة لا يجري فيها قتال، لكنه، من جهة أخرى، أثبت أنه لا يخاف أبرهة ولا جيشه، فهو متمسك بحقه في استرجاع إبله، وبالتالي فلا يقبل أي عدوان عليه في شخصه وماله. هذا الموقف الذي يجمع الشجاعة إلى الحكمة أهّل عبدالمطلب فيما بعد أن يسفر إلى النجاشي باسم قريش ويعقد معه معاهدة تجارية تكون تجارة الحبشة بموجبها تحت خفارة قريش. وهو ما شجع حفيده النبي العربي بعد ذلك بنصف قرن أن يرسل أوائل المسلمين إلى نجاشي الحبشة، فرارا بدينهم من أذى قريش، فرحب بهم النجاشي بوصفهم لاجئين سياسيين، على الرغم من فناء الجيش الحبشي في الطريق إلى مكة، فالتجارة تراب ما صدعته السياسة.

أخذ ولم يعط

وفي حين أن عبدالمطلب لم يعط أبرهة أي شيء فقد أخذ منه كل شيء ! لقد تعرف على عدوه وراز شخصيته ونمط تفكيره من محاورته معه. كذلك رأى ضباطه وقادته من حوله. ولا يستبعد أن كانت له عيون في جيش العدو من العرب الذين رافقوا جيش الغزاة فاتصل بهم بصورة من الصور، تحت ستار أنه بدوي يرعى إبله ويصطنع الغفلة والتشاجر مع الجنود ليطلع على استعدادهم وانضباطهم ومعنوياتهم، بعد كل الذي عانوه في الطريق إلى هدفهم الذي لم ولن يبلغوه ! فيرى ويحكم إن كان في وسعهم ان يستمروا في حملتهم أو تهن قواهم فيتشتتوا تحت وطأة المزيد من المقاومة. وهو في انتحاله لنفسه هذا المظهر البريء - مظهر البدوي الذي يسترحم عدوه لرد إبله - قد ضمن لنفسه مدخلا سالما ومخرجا آمنا. كما أنه بتعرفه على أبرهة صار في إمكانه أن يقابله مرة أخرى، لو ساءت الأحوال ووصل الجيش الحبشي إلى مكة. وبظهور عبدالمطلب بمظهر الواثق وغير المبالي بأمر الغزو، فإنه غادر أبرهة نهبا للظنون عما ينتظره وجيشه في قادم الأيام، مادام "للبيت رب يحميه". وربما قصد عبدالمطلب أن يتصل بالقبائل التي تهاجم جيش أبرهة.

ولكن هل صحيح أن عبدالمطلب ضاع في الصحراء، وهو يرعى الإبل، فوجد نفسه فجأة وسط جيش أبرهة؟

هذا محال. فقد كان عبدالمطلب سيدا في قريش، وكان له من العبدان والرعيان ما يكفيه مشقة أن يخرج بنفسه مع إبله، ناهيك أن يبتعد بها عن مكة في وقت الغزو. مما يدفعنا إلى الاستنتاج بأنه خرج إلى الجيش عمدا وقصد إلى مقابلة أبرهة قصدا ليكون لنفسه فكرة مباشرة عما ينتظره إذا سارت الحملة إلى غايتها. وفي هذا الموقف منتهى الإحساس بالمسئولية، كما في تنفيذه لهذه المهمة منتهى الشجاعة، وفي طريقة إدارته للأزمة تتجلى حكمته ورجاحة رأيه، ولعل أبرهة حين وجد عبدالمطلب بين أيدي الجنود فوجىء ولم يعرف ماذا يفعل بقوته أمام الرجل الوحيد الأعزل.

من كل ذلك نرى سلوك عبدالمطلب سلوك قائد محنك شجاع بعيد الغور، أما مؤرخونا المحدثون الذين انتقدوا "تخاذله " فإنهم لم يروا من القيادة الحكيمة سوى إطلاق التهديدات الفارغة واتخاذ المواقف التلفزيونية.

 

محيي الدين صبحي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات