رؤية شخصية في شعر الحداثة ! أحمد لطفي

رؤية شخصية في شعر الحداثة !

لا شك أن الفنون جميعا تصدر عن نبع واحد للإلهام، غير أن ذلك لا يعني أنها لحمة تستخدم فيها أدوات أساسية واحدة، وإنما هي تتشاكل وتنفصل وتتصل وتتبادل وتتناغم، في أدوات وتشكيلات متفردة، وإن تبادلت استعارة بعض تلك الأدوات في جزئيات معينة أحيانا دون أن تطغى أو تنطمس.

فإذا تحدثنا عن فن الشعر، نرى أن أدواته الأساسية هى الكلمة المنطوقة ودلالاتها ومشتقاتها، ولا شك أن الكلمة تتصل بالعقل، فهي أداة البشرية في التفاهم والتواصل، فليس ثمة كلمة بلا معنى، وللشاعر أن يستخدمها بأسلوب فني خاص به وبحرية تامة لكن دون أن تخرج بكل أبعادها عن وظيفتها الأولى الأساسية.

أما الأداة الثانية للشعر فهي الصورة التشكيلية الخيالية المغرقة في الخيال أحيانا وهي استعارة من فن الشعر للفن التشكيلي بحيث يصبح أداة أساسية أخرى من أدوات فن الشعر تمتزج به وتلتحم. ونأتي إلى الأداة الثالثة للشعر، وهي الموسيقى، التي تنشأ عن توافق الكلمات أو تضادها، وعن طولها وقصرها أو عن تتابعها وتعارضها مما ينتج عنه أبعاد زمنية مختلفة عند النطق بها، تخلق موسيقى ترتبط بالإحساس والشعور المتدفق عن سياقها في ارتباط متكامل مع الصورة التشكيلية الخيالية التي تعبر عنها الكلمات أو الجمل أو السطور أو الأشطر وتتآلف كلها لتبدع تكوينا فنيا قائما بذاته هو الشعر، والكلمة المنطوقة هي المحور الأساسي في هذا التكوين بمعانيها الواضحة أو بظلال معانيها أو إيحاءاتها أو رموزها وبإيقاعاتها المستعارة من فن الموسيقى والتي توحدت مع كل عناصر هذا التكوين الذي هو فن الشعر، ولا تزال الكلمة خلاله هي الوصل المتين بين الشاعر الفنان وبين المتلقي. الفن التشكيلي إذن وفن الموسيقى هما ألصق الفنون بفن الشعر. فلننح جانبا الآن فنون الكتلة في الفراغ كالنحت والعمارة وفنون المسرح والقصة والرواية والسينما، ولو أنها ترتبط أيضا بفن الشعر إلا أننا نكتفي بما هو أكثر قربا. ويتميز الشعر عن باقي الفنون بأنه القاسم المشترك الأعظم فيها جميعا، فإذا فقد الفن التشكيلي عنصر الشعر بداخله تحول إلى ألوان جامدة عاجزة عن الإيحاء بالجمال، وكذلك فإن الموسيقى التي تخلو من نبض الشعر تتحول بدورها إلى قوالب رياضية جامدة لا صدى لها في نفس المتلقي وعلى هذا باقي الفنون، وتكفي هذه الإلمامة الآن عن الاستطراد في التفاصيل.

الشعر والتجريد

نعود إلى ما كنا فيه، وهو شعر الحداثة، وما بعدها، فنرى أن أصحابه يذهبون إلى ولوج عالم التجريد الكامل أسوة بفن الموسيقى أو بمدارس الفن التشكيلي التجريدي، أو أسلوب اللامعقول في المسرح والذي انحسرت موهبته. وعن التجريد نقول: إن فن الموسيقى هو الفن الوحيد المجرد بطبيعته، فهو يقوم على أصوات مجردة صادرة عن آلات خاصة، وعلى أبعاد زمنية تتغاير وتتعانق وتتنافر وتتحدد لينتقل معها المتلقي إلى عالم مجرد من الأحلام والرؤى، فتصل عن طريق السمع إلى القلب مباشرة ثم موحية إلى العقل بصور عن الرؤى والألوان بحيث يستنيم إليها ويستغرق فيها في حرية داخلية متكاملة. ففن الموسيقى تجريد بطبيعة أدواته وتكوينه يستغني تماما عن الترجمة الذهنية المباشرة، مستعيضا عنها كما سبق وقلنا بالأحلام والرؤى والتحليق في أجواء الخيال. ومع هذا، فإذا نزعت الموسيقى عن نفسها روح الشعر في تكويناتها تحولت إلى أصداء صامتة لا تحرك الوجدان. فالإيقاع في المقطوعة الموسيقية أو في لوحة التصوير التشكيلية، وفى النحت والعمارة تتلقاه الأذن أو العين، تحسه دون أن تدرك أبعاده، وهو كذلك في القصة القصيرة والرواية والمسرحية والتكوين الشعري.. إن الإيقاع هو التوازن الدقيق الذي يشيع في كل جزئيات العمل الفني ثم يبرز في النهاية محصلة لكل ذلك فيبعث في نفس المتلقي الرضا أو الرفض دون أن يدرك كنه هذا الإحساس. فالإيقاع إذن ليس قاعدة أو قانونا سنه الأولون حتى نحطمه أو نثور عليه، وإنما هو جزء من الطبيعة، توازن دقيق في كل شيء يشيع حولنا ويشيع في أجسادنا ونفوسنا، فإذا حاول فنان ما أن يثور عليه ويحطمه فلن يحطم سوى فنه ونفسه ويصبح كمن يرفض أن ينمو النبات من البذرة أو يأبى أن يظل نظام تعاقب الليل والنهار أو يريد أن يجعل الكرة الأرضية تدور في اتجاه معاكس، فن بلا إيقاع هو فن بلا فن.

الشعر والتشكيل

وحتى لا يضيع الخيط من أيدينا، فسوف اتعدى الحديث عن محاولات التجريد التي لحقت ببعض الفنون، وذلك لأتحدث عن أكثر الفنون قربا من الشعر بعد الموسيقى وهو الفن التشكيلي أو فن التصوير. وإذا كان الصوت والزمن والإيقاع هى أدوات فن الموسيقى، فإن الألوان والبعد والإيقاع هي أدوات الفن التشكيلي، وان الألفاظ "أو الكلمات" والزمن الموسيقي والصورة التشكيلية والإيقاع هي أدوات فن الشعر. ويحضرني قوة رائع للإمام الشيخ محمد عبده رحمه الله إذ قال: "الرسم شعر ساكت نراه ولا نسمعه، والشعر رسم ناطق نسمعه ولا نراه " لقد ربط الإمام بنظره الثاقب، وتأمله العميق بين الشعر والفن التشكيلي بتعبير ذكي مرهف لم يقصد به أن يضع قاعدة، وإنما استلهم رأيه عن طريق المعايشة والاستقراء والاستنتاج وهي عين خطوات عالم العلوم الطبيعية حين يحاول استنباط قاعدة أساسية يبني عليها نظرية عاشت في فكره ووجدانه دون أن يهتدي إليها، وهناك فرق شاسع بين فرض قاعدة مسبقة جامدة - وهو ما يشكو منه شعراء الحداثة ويثورون عليه ومعهم الحق في ذلك - وبين استنباط قاعدة بأسلوب علمي أو فني من الظواهر الطبيعية للوصول إلى حلول لمشكلات غامضة، أو للوصول إلى تعريف واضح لحالة ما. ولقد ثار التشكيليون من قبل على التصوير المطابق تمام المطابقة للموضوع المصور " الواقعية الآلية" فظهرت المدارس الرومانسية، والكلا سيكية الجديدة والتأثيرية ثم التجريدية والتكعيبية ثم الكولاج وغير ذلك من المدارس. غير أن الفنان التشكيلي الثائر لم يلفظ أدواته كلها، فما زال اللون هو أداته الأساسية وإن كان بعضهم قد تخلى عن الأبعاد أيضا وعن الظل والنور. بل وعن الإيقاع أحيانا، فجاءت مدارسهم هذه كلها في رأيى تحت فرع واحد من الفن التشكيلي وهو الزخرفة. والزخارف بطبيعتها مجردة على نحو ما نرى في العمارة الإسلامية والمصاحف وغيرها.

رسم ناطق

وما يهمنا هنا هو الفن التشكيلي في الشعر، وكما قال الإمام في استنباطه، "الشعر رسم ناطق نسمعه ولا نراه". التصوير التشكيلي إذن هو أداة واحدة من أدوات الشعر، وليس كل الشعر، وإنما هناك اللفظ، أو الكلمة، وهي أداة الوصل بين الصورة التشكيلية وبين عقل المتلقي، وأما الزمن الموسيقي الناشىء عن تراكيب الألفاظ فهو جزء محرك للشعور كامن في الألفاظ ومعانيها وموسيقاها، يتواءم مع فكر الشاعر الذي يجب عليه أن يصل إلى المتلقي عن طريق الشعور ثم العقل، وأما الإيقاع فهو التوازن العام في التكوين الشعري والذي يحسه المتلقي دون أن يدرك كنهه لأنه جزء فيه.

فليغير الشاعر إذن ما شاء في الصورة التشكيلية وفي أبعاد الزمن الموسيقي الناشىء عن التراكيب اللفظية وليبدع وليبتكر كما شاء، ولكن في ظل أدوات أساسية يستحيل أن تتغير أو يجتزىء منها ما دامت هناك اصطلاحات سميناها لغة للتواصل بين الحركة والفكر، وبين الشخص والآخر وما دام هناك زمن لموسيقى الألفاظ وإن تغير، وما دامت هناك صور تشكيلية حولنا وفي خيالنا وأحلامنا وهناك إيقاع متوازن للطبيعة والكون والحركة والسكون. هذه الأساسيات ليست قواعد مفروضة من القدامى أو المحدثين وإنما هي كونية أزلية تسكن طبائع الأشياء وعلينا أن نختار ونحن نطوعها لفنوننا ونستحدث من خلالها في حرية تامة دون أن نحطم منها أداة أو نستغني عنها.

فإذا نحن انتزعنا اللفظ مجردا وحده وألقينا به داخل لوحة مرسومة كما يحدث أحيانا عندهم فقد خلقنا تبعية بين فن وآخر وليس الإفادة من أدوات فن في صياغة فن آخر. نعم لنا أن نستعير بعضا من أدوات فن آخر نفيد بها لننشىء شعرا جميلا مثقفا له ذاتيته وخصائصه. أما شعر الحداثة وما بعدها فهو يستبعد المعاني ويستخدم اللفظ كقطعة من النحت المفرغة من محتواه ويضعه إلى جوار لفظ آخر لا يؤدي ترابطهما أو تنافرهما إلى مدلول أو معنى ولا يهدف إلى شيء سوى التغريب. هو تجريد وتغريب إذن للألفاظ، وطبيعة اللفظ أنه محدد وغير مجرد. بل هو أداة أساسية للشعر ليصل إلى قلب وعقل المتلقي وليس لإلقائه على الورق بديلا عن اللون أو التكوين في اللوحة التشكيلية التجريدية فهو لن يؤدي وظيفة، ولهذا حاول البعض أن يلصقه بلوحة تشكيلية مجردة لعله يكون ذا مدلول شعري.

أصوات متعددة

ولقد استمعت ذات مرة إلى شاعر من شعراء الحداثة محاولا تفسير أسلوب أدائه فقال: إن القصيدة العربية تقوم على صوت واحد، أما شعر الحداثة فيقوم على عدة أصوات للقصيدة، ولم يزد. وعلى الرغم من غموض هذا التفسير فقد فهمت منه أنه يعني التركيب الموسيقي، أي أنه يريد أن يخرج بالشعر من أحادية اللحن إلى "البوليوفونية" أي تعدد الألحان على نهج الموسيقى المركبة ونسي أنه بهذا قد خلط بين أداة الشعر الأساسية وهي اللفظ وبين أدوات الموسيقى المتعددة. فتعدد الألحان في لحظة بعينها لا يصدر إلا عن تعدد الآلات وتغايرها أما اللفظ فمهما اختلف معناه فهو دائما صوت واحد فإذا حاولنا تجريده من طبيعته أو عارضناه بلفظ آخر في ثنائية خلال لحظة معينة فقد أخرجناه عن طبيعته وأدخلناه في البلبلة والغموض دون أن نحقق ما تحققه الموسيقى من ثنائية أو تعدد الآلات والألحان من إبداع وجمال.

أما من ناحية الصورة التشكيلية المعبرة وإذا فرضنا أن شعر الحداثة يهدف إلى تكوين لوحة تشكيلية تجريدية مستخدما الألفاظ كأداة بدلا من اللون والفرشاة، فإنه يكون في هذه الحالة قد أنشأ تكوينا ذاتيا للكاتب وحده، أي مجموعة من الرموز الغامضة أو الشفرة الخاصة التي تعشش بداخله وحده مصرا على قطع التواصل بينه وبين المتلقي. كان البعض ليضيف إلى هذا الغموض تدميرا متعمدا لزمن موسيقى الألفاظ، وبطبيعة الحال فلن يكون هناك إيقاع خاص أو عام في مثل هذه التراكيب التى استغنت عن جميع أدوات فن الشعر وخلطت كل الأوراق. فلماذا يصرون على أن يسموه "شعرا" ولم لا ينحتون له اسم فن آخر، فن جديد إن عرفنا بداياته فلن نعرف عن مآله شيئا؟. وفي حدود قراءاتي فإن شعر الحداثة لم يخرج عن القصيدة الطويلة جدا أو المقطوعة القصيرة. فهل سوف نقرأ قريبا مسرحا شعريا حداثيا والشعر هو أبو الدراما؟.

 

أحمد لطفي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات