المتنبي وعلم المخطوطات محمود الطناحي

المتنبي وعلم المخطوطات

يبدو أن أبا الطيب سيظل يملأ الدنيا ويشغل الناس، فما يكاد الأدباء يفرغون من قضية من قضاياه حتى تظهر لهم قضية أخري.

وكان من سوالف الأقضية أني دعيت من قبل جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض حاضرة المملكة العربية السعودية، للقيام بعمل هو من أحب الأعمال إلى نفسي وأعلقها: بقلبي، وهو النظر فيما جمعته عمادة شئون المكتبات بالجامعة، من نوادر المخطوطات ونفائسها، واستصفاء طائفة من تلك النوادر والنفائس، وتقديمها لأهل العلم، شاهدا ودليلا على أنه لا يزال في الزوايا خبايا.

والندرة أو النفاسة في علم المخطوطات ترجع إلى عدة أمور منها: (1) أن يكون المخطوط بخط المؤلف ، وهي الغاية التي ليس وراءها غاية. (ب) أن يكون المؤلف قد أملي المخطوط على أحد تلاميذه فكتبه، وأثبت هو عليه خطه بصحة القراءة عليه، أو سماعه، أو إجازته. (جـ) أن يمتلك المخطوط أحد العلماء المشهـورين ، ويثبت عليه خطه بالقراءة أو التملك. (د) أن يكون المخطوط وحيدا لا توجد منه إلا هذه النسخة. (هـ) أن يكون المخطوط قديم النسخ، وهذا هو المعيار العام في تقديم المخطوط : وهو القدم والقرب من المؤلف. على أن هناك أسبابا أخرى للندرة والنفاسة، ولا يمكن حصرها والإحاطة بها هنا، وإنما يظهر منها الشيء بعد الشيء ، ومعرفة ذلك موكولة إلى ثقافة المفهرس، ومعرفته بتاريخ الكتب وحال المطبوع منها، وعن أي أصول خطية حقق الكتاب، ولا يتأتى هذا إلا بعد دربة وكثرة تفتيش، ومجالسة ومشافهة أهل العلم، وقد أدركت طائفة منهم كانت أحوال المخطوط والمطبوع من تراثنا عندهم على طرف الثمام.

وقد يطبع الكتاب ويشيع، وتكثر إفادة الدارسين منه وإحالتهم عليه؟ ثم تظهر منه مخطوطة تشتمل على زيادات ليست في ذلك المطبوع منه، والأمثلة من ذلك كثيرة، أكتفي منهـا بمثال واحد: هو شرح ديوان المتنبي للواحدي، والواحدي هو: أبوالحسن على بن أحمد بن محمد المتوفى بنيسابور سنة 468 هـ، وهو عالم بالتفسير والأدب، ومن أشهر تصانيفه: أسباب نزول القرآن الكريم، وتفاسيره: البسيط والوسيط والوجيز.

ويعد شرحه لديوان المتنبي من أقدم شروحه وأحسنها، وقد تنبه له المستشرقون منذ زمن بعيد، فنشره المستشرق الألماني فريدرك ديترصى بمدينة برلين سنة 1276 هـ - 1860 م، أي منذ 135 عاما، ومازالت هذه هي الطبعة الوحيدة التي بأيدي الناس.

مخطوطة نفيسة

وقد رأيت من هذا الشرح مخطوطة نفيسة في أثناء عملي بعمادة شئون المخطوطات بجامعة الإمام محمد بن سعود التي أشرت إليها. وهذه المخطوطة منسوخة سنة 680 هـ بخط نسخي جيد مضبوط، وكتبت أبيات المتنبي بخط الثلث الكبير.

وفضلا عن قدم هذه المخطوطة وجودة خطها فقد اشتملت على خاتمة لم تأت في طبعة برلين المذكورة. وهذا نصها، يقول الواحدي :

" هذا آخر ما اشتمل عليه ديوانه الذي رتبه بنفسه، وهو خمسة آلاف وأربعمائة وأربع وتسعون قافية. وكان الفراخ من هذا التفسير والشرح اليوم السادس عشر من شهر ربيع الآخر، سنة اثنتين وستين وأربعمائة. وإنما دعاني إلى تصنيف هذا الكتاب مع خمول الأدب وانقراض زمانه، اجتماع أهل العصر قاطبة على هذا الديوان، وشغفهم بحفظه وروايته، والوقوف على معانيه، وانقطاعهم عن جميع أشعار العرب ، جاهليها وإسلاميها ، إلى هذا الشعر، واقتصارهم عليه في تمثلهم ومحاضراتهم وخطبهم ومقاماتهم، وحتى كأن الأشعار كلها فقدت، وليس ذلك إلا لتراجع الهمم وخلو الزمان عن الأدب ، وتقاصر الرغبات، وقلة العلم بجوهر الكلام ومعرفة جيده من رديئه، ومطبوعه من متكلفة.

ومع ولوع الناس بهذا الديوان لا ترى أحدا يرجع في معرفته إلى محصول، أويفي ببيان عن مودعاته وغوامض معانيه ومشكلاته، وإنما المفزع فيه إلى فسر [ أي تفسير ] أبي الفتح بن جني، وهو في ذلك كقول من قال:

أصبحت ترجو الغوث من قبلي

والمستغاث إليه في شغل

وأنه اقتصر في كتبه على تفسير الألفاظ، واشتغل بإيراد الشواهد الكبيرة والنحو والغريب ، حتى أشتمل كتابه على عظم نوادر أبي زيد، وجميع أبيات سيبويه وأكثر مسائله، وزهاء عشرين ألفا من الأبيات الغريبة، وحشاه بحكايات باردة، وأخبار من العرب غريبة نادرة، لا يحتاج في فسر هذا الديوان إلى شيء منها. والله تعالى ذكره يتغمدنا وإياه بسعة رحمته، وجميل عفوه ، إنه الغفور".

فهذه الخاتمة التي انفردت بها تلك المخطوطة أفادتنا عدة فوائد: (أ) تاريخ فراخ الواحدي من شرحه، وأن ذلك كان قبل وفاته بست سنوات، فيكون قد ألفه وهو في تمام نضجه العلمي. ( ب) ذكره لدواعي تأليفه. (ج) ما يفهمه الناقد البصير من خبئ هذا الكلام ، وكشفه عن رأي الواحدي في شعر المتنبي جملة ، وكانه يريد أن يقول : إن أبا الطيب لا يستحق كل هذه الضجة، فإنه لا ينبغي أن يحجب بشعره شعر الأوائل. (د) نقده لشرح ابن جنى لشعر المتنبي ، وكأنه يريد أن يقول : إن إخضاع الشعر لقضايا النحو واللغة، على نحو ما يصنع ابن جني ومن على شاكلته، لا يكشف عن جوهر الشعر، ولا يستشرف آماده الرحبة الواسعة .

وهذه الفائدة التي جاءت بها مخطوطة شرح ديوان المتنبي، وأخلت بها مطبوعته تقودنا إلى أهمية البحث الدائم عن المخطوطات العربية، وعدم الإخلاد إلى الراحة، والتعويل على ما بين أيدينا من المطبوعات.

حاجتنا إلى المخطوطات

ويأتي السؤال المهم: هل نحن في حاجة إلى مخطوطات جديدة، تكشف عن تراثنا وتجلوه بعد هذا القدر الهائل من المطبوعات، منذ ظهور المطبعة في القرن الخامس عشر الميلادي؟

وأقول: نعم، نحن في حاجة لا تنقطع إلى المخطوطات، وحاجتنا هذه لغايتين.

الغاية الأولى : البحث عن تلك المخطوطات التي تتردد في كتب التراجم والببليوجرافيا، لعلمائنا، ويكثر النقل عنها والإحالة عليها في كتب اللاحقين، ولا نرى لها وجودا في فهارس المكتبات، مطبوعة أو مخطوطة، والذي يغرينا بدوام البحث وعدم اليأس: تلك المخطوطات التي تظهر بين الحين والحين وكنا نعدها من المفقودات، وحديث ذلك معلوم عند أهل الاختصاص، ولي في ذلك تجارب أيام عملي بمعهد المخطوطات بالمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، فقد اكتشف أشياء من المخطوطات لا يعلم الناس عنها شيئا، وذلك من خلال رحلات معهد المخطوطات في البلدان التي تكثر فيها المخطوطات مثل تركيا والمغرب واليمن وإسبانيا.

والغاية الثانية : أن بعض مطبوعاتنا نشرت عن أصول مجهولة ، وقد كان هنا في مراحل الطبع الأولى ، قبل أن يستقر علم تحقيق المخطوطات. وقد يسأل سائل : كيف كانت هذه الأصول المخطوطة مجهـولة ؟ والجواب: أن ناشري الكتب في تلك المراحل الأولى من الطباعة لم يكونوا يغنون بذكر وصف المخطوط الذي ينشرون عنه، بل إن بعضهم كان يتخلص من المخطوط نفسه بعد الفراغ من طبعه، فإن العمال أحيانا كانوا يجمعون من المخطوط نفسه، ولقد رأيت مرة عند بعض باعة الكتب القديمة أوراقا من كتاب مخطوط ، ورأيت آثار يد وأحبار على هذه الأوراق في غير مكان منها ، فتعجبت من ذلك، ولكن عجبي زال حين أخبرني ذلك الوراق أن هذه آثار يد الجميع - يعني عامل المطبعة - الذي كان يجمع من المخطوطة مباشرة.

وأيضا : فإن بعض أصول علمنا - على شهرتها - طبعت عن أصول ناقصة، ومن ذلك معجم الشعراء للمرزباني ، وتاريخ بغداد للخطيب البغدادي، ومعجم الأدباء لياقوت الحموي.

ومن وراء ما ذكرته من نقص المطبوعات وجهالة أصلها، فإن هناك أمرا في غالية الأهمية، وهو أن بعض كتبنا المطبوعة قد ظهـرت لها مخطوطات نفيسة توجب إعادة تحقيقها ونشرها، والأمثلة من ذلك بالغة الكثرة، أكتفي منها ببعض ما رأيته بعيني في رحلاتي وأسفاري، ومن ذلك: الكتاب لسيبويه، والصحاح للجوهري، والعمدة لابن رشيق، فهذه الكتب الثلاثة مطبوعة أكثر من طبعة، لكني رأيت منها نسخا مخطوطة عالية جدا: فمن كتاب سيبويه رأيت أقدم مخطوطة منه، ترجع إلى القرن الرابع، بمكتبة الجامع الكبير بصنعاء، ومن هذه النسخة نفسهـا قطعة في مكتبة الإمبروزيانا بميلانو بإيطاليا ، وانتقال بعض المخطوطات عن اليمن إلى الامبروزيانا له قصة معروفة عند أهل الشأن والاختصـاص.

والصحاح للجوهري أصل من أصول المعاجم العربية، وعلم الصرف بوجه خاص، وقد رزق حظوة في كثرة مخطوطاته ونفاستها مما لم أره وكتاب آخر، ومن ذلك ما رأيته في مكتبات تركيا والمغرب واليمن والسعودية. ونسخة الصحاح المطبوعة زاخرة بالأخطاء والتصحيفات، فيجب إعادة طبعه على هذه المخطوطات النفيسة منه.

والعمدة لابن رشيق رأيت منه بجامعة الإمام محمد ابن سعود الإسلامية بالرياض مخطوطة تشتمل على الجزء الثاني - وهو آخر الكتاب - بقلم نسخي تقيس عتيق ، لا يخرج عن القرن السادس، وكانت هذه المخطوطة في ملك الأديب المصري الشيخ على الليثي، ثم خرجت من القاهرة واستقرت بالرياض، وكلهـا بلاد الله، المهـم ألا تضيع المخطوطات، ودعك من، حديث سرقة المخطوطات وبيعها فهو حديث خرافه.

ماذا عن علم المخطوطات ؟

هذا الذي ذكرته لك أيها القارئ الكريم هو جزء من علم ضخم، هو "علم المخطوطات" وهذا العلم ذو شعب كثيرة، وقد بدأ الاهتمام به حين استقر علم " تحقيق النصوص ونشرها "، فإن النصوص حين تحقق إنما تعتمد على أصول مخطوطة موثقة، ثم استقل الحديث عنه علما قائما بذات، يتناول قضايا كثيرة : تبدأ بتاريخ التدوين بعد انحسار عصر الرواية، وأدوات الكتابة من أقلام وأحبار، وما يكتب عليه من عسب النخل، وعظام الإبل، واللخاف، وهي الحجارة البيض العريضة الرقيقة، والجلود، والرق - بفتح الراء - وهو الجلد الرقيق الذي يؤخذ من بطن الغزلان، وتاريخ ظهـور الورق وصناعته، وأماكن وجوده، وأنواعه من الصيني والسمر قندي والمصري والبغدادي والمملوكي، ثم ما يتبع ذلك كله من الإملاء والنسخ ومنازل النساخ وطبقاتهم، ثم معرفة منازل النسخ للكتاب الواحد، وتقديم نسخة على أخرى وفق المعايير التي ذكرتها في مقدمة هذه الكلمة، ومعرفة الخط العربي بنوعيه: المشرقي والمغربي، وتطوره، وسمات كل عصر في نوع الخط الذي يشيع فيه، وتوظيف ذلك كله في تقريب زمن كتابة المخطوط عندما يفقد المخطوط تاريخ كتابته، ومعرفة أمراض المخطوطات، من الرطوبة والأرضة، وهي تلك الحشرة الآكلة التي تسمى في بلادنا المصرية : المسوس أو العثة - وينطقها العوام بكسر العين بعدها تاء مثناة من فوق، كما يقلبون الثاء تاء في بعض الكلمات، مثل قولهم : تعلب بدل ثعلب، والتوب مكان الثوب - وطرق الوقاية من مثل هذه الآفات، واصطناع الوسائل التي تحفظ المخطوطات من البلى، مثل فن الترميم.

ومن ميادين هذا العلم معرفة البلدان التي تكثر فيها المخطوطات، أصالة أو انتقالا ، وحديث المكتبات العامة " والخاصة، وما فهـرس منها وما لم يفترس.

مسار التأليف العربي

وقد تنازع معرفة هذا العلم والاهتمام به طائفتان من الناس، الطائفة الأولى: هم العلماء المحققون الذين شغلوا بتحقيق المخطوطات ونشرها، والطائفة الثانية : هم نفر من الناس اشتغلوا بهذا العلم جمعا وفهـرسة ليس غير، كما يعنى جامع الآثار بتحصيلها وتهيئتها للدارسين ليس غير، ومن الناس من حاز الفضيلتين وجمع بين الاهتمامين: تحقيق المخطوطات وجمعها وفهرستها، وهذا الصنف من الناس قليل، ولا شك أن من يشتغل بعلم المخطوطات من العلماء المحققين يكون أقدر من غيره على تقييم ما يقع بين يديه من مخطوطات ، لأنه يعرف مسار التأليف العربي وتطوره خلال العصور، كما أنه يدرك العلائق بين الكتب شرحا أو اختصارا أو نقدا أو تذييلا، فضلا عن معرفته بالموجود والمفقود من تراثنا، وتاريخ العلماء وتراجمهم وتقلبهم في العالمين، وقد أدركت نفرا من هذه الطائفة كانوا يعرفون أسماء الكتب ومداخلاتها، وأسماء العلماء وكناهم وألقابهم وأنسابهم، وتاريخ وفياتهم ومبلغ أعمارهم، كما يعرف الناس آباءهم، في جانب تلك الحصيلة اللغوية التي تحين على قراءة العَسر المُّعمي من المخطوطات ، والخطوة الأولى في الحكم على المخطوط وتقييمه هو قراءته قراءة صحيحة مبرأة من التصحيف، سليمة من التحريف .

وقد كتبت في علم المخطوطات دراسات كثيرة تناولت قضاياه كلها ، وذلك في المجلات المتخصصة، مثل مجلة معهد المخطوطات بالقاهرة ، التي صدر العدد الأول منها سنة 1375 هـ - 1955 م ومازالت تصدر بحمد الله، برغم ما تعرض له المعهد من هزات وتقلبات، ومجلات مجامع اللغة في القاهرة ودمشق وبغداد والأردن، ومجلة المورد العراقية ، والمجلات العلمية في المغرب العربي ، ومجلات الاستشراق ، ثم صدرت فهارس كثيرة للمخطوطات في الشرق والغرب، ترصد المخطوطات وتصنفها وتعرف بها، إلى جانب العملين الكبيرين في هذا الميدان، وهما : تاريخ الأدب العربي للمستشرق الألماني كارل بروكلمان، وتاريخ التراث العربي للعالم التركي مولدا ونشأة، الألماني الجنسية وإقامة الدكتور محمد فؤاد سزجين.

وقد ارتبط هذا العلم بأسماء كبيرة، أحبت المخطوطات حبا شديدا، وسعت لها سعيها، فصرفت لها الجهود، وبذلت في تحصيلهـا الأموال ، تسخيرا من الله عز وجل لحفظ ذلك التراث وحياطته وصيانته ، ويبرز هنا عالمان جليلان، أحدهما في المشرق العربي، والثاني في المغرب العربي، فأما الذي في المشرق : فهو العلامة أحمد تيمور باشا، وهو فرد زمانه وواحد عصره، نشأ في بيت عز ونعيم، ثم صرف سته إلى العلم والأدب، وجمع مكتبة قيمة حوت كثيرا من نوادر المخطوطات ونفائسها، ضمت بعد وفاته إلى دار الكتب المصرية ، وعرفت باسم : المكتبة التيمورية، وقل أن تجد مخطوطة من مخطوطات مكتبته إلا وفي أولها فهرس واف لما تضمه هذه المخطوطة بخطه الدقيق الواضح.

وأما الذي في المغرب : فهو العلامة محمد عبدالحي بن عبدالكبير، المعروف بعبدالحي الكتاني ، صاحب " التراتيب الإدارية " و" فهرس الفهارس والأثبات" وهو في شيوخه ومروياته عنهـم، سافر وارتحل، وحصل كثيرا من المخطوطات، جمع بعضها في الخزانة العامة (دار الكتب) بالرباط، باسم : المكتبة الكتانية.

ومن وراء هذين العلمين تأتي أسماء كثيرة أيضا في هذا العلم، مثل : محمد محمود بن التلاميد التركزي الشنقيطي، وشيخ العروبة أحمد زكي باشا، وهو أول من استخدم كلمة " تحقيق " في صدر الكتب المنشورة، وهو أيضا ناشر كتاب " أنساب الخيل " وكتاب " الأصنام " كلاهما لابن الكلبي ، وقد جمع مكتبة مخطوطات قيمة عرفت في دار الكتب المصرية بالمكتبة الزكية . ومحب الدين الخطيب العالم الناشر ، وهو صاحب المكتبة السلفية ، والناشر العظيم ذو الأثر الكبير محمد أمين الخانجي ، والعالم التونسي الكبير حسن حسني عبدالوهاب ، والفقيه التطواني بمدينة سلا بالمغرب ، وأحمد عبيد بدمشق .

وقد أدركت من تلاميذ هذا الجيل العظيم وورثته اسمين كبيرين : فؤاد سيد عمارة ، ومحمد رشاد عبدالمطلب .

أما فؤاد سيد فقد كان أمين المخطوطات بدار الكتب المصرية ، وكان هذا الرجل آية في معرفة المخطوطات وقراءتها ، وميز صحيحها من زائفها ، وعتيقها من محدثها ، مع اطلاع واسع وحافظة قوية .

وأما محمد رشاد عبدالمطلب فقد عمل بمعهد المخطوطات بالقاهرة منذ إنشائه سنة 1946م إلى حين وفاته سنة 1975 ، وقد خرج في بعثات المعهد لتصوير المخطوطات ، من القدس والهند وتركيا والمغرب والسعودية ، وكان أعجوبة زمانه في معرفة المخطوطات ومظان وجودها ، وكان يتحدث عنها حديث العاشق المدله بحبها ، كما كان له معرفة واسعة بالكتاب المطبوع ، زمانا ومكانا ، وفرق ما بين الطبعات .

وقد كان لهذين الرجلين فضل ظاهر على جمهرة الدراسين والباحثين ، وأشهد - وقد جلست إليهما زمانا وتعلمت منهما الكثير - أنهما دلا أعدادا كبيرة من طلبة الدراسات العليا على مصادر وموارد في أبحاثهم لم يكونوا بالغيها إلا بشق الأنفس ، بل لعلهم لم يكونوا يقفون عليها لولا عونهما ومساعدتهما .

علماء المخطوطات

ثم عرفت من علماء المخطوطات غير هذين الكثير ، من أمثال صلاح الدين المنجد ، وهو سوري تولى إدارة معهد المخطوطات بالقاهرة سنوات كانت من أزهى سنوات ذلك المعهد، وكان من أنشط وألمع من تولوا إدارة المعهد، وهو الذي حرك المعهـد في أنشطته المختلفة؟ من تصوير ونشر وفهرسة، وكان أول رئيس تحرير لمجلة المعهد.

ومن المغرب عرفت أسماء كبيرة في علم المخطوطات، مثل محمد العابد الفاسي أمين المخطوطات بمكتبه القرويين بفاس، وكان جبل علم، مات وفي صدره الكثير، ومحمد إبراهيم الكتاني أمين المخطوطات بالخزانة العامة بالرباط، وله دراسات كثيرة حول علم المخطوطات، وله أيضا اكتشافات جيدة في نسبة المخطوطات المجهولة إلى أصحابها، أذكر منها هنا اكتشافه لنسبة مخطوطة الجزء الثاني من كتاب " تذكرة النحاة " لأبي حيان الأندلسي ، وعبدالسلام بن سودة صاحب كتابا " دليل مؤرخ المغرب الأقصى "، والعلامة التقي النقي بقية السلف الصالح الشيخ محمد المنوني، زين المغرب الأقصى، ونور الرباط وبهجتها، جلست إليه ورويت عنه، وهو إلى جانب اشتغاله بعلم المخطوطات باحث عظيم، وله تحقيقات وتصانيف جياد - وبخاصة في تاريخ المغرب ومظاهر نهضته، ويبذل علمه في سخاء وأريحية لكل من يقصده أو يكاتبه، أطال الله في النعمة بقاءه.

وعرفت أيضا من علماء المخطوطات: إبراهيم شبوح بتونس، ومحمد بن شريفة بالمغرب، ومن المملكة العربية لسعودية علامة الجزيرة الشيخ حمد الجاسر، وعبدالرحمن بن سليمان العثيمين، ومن اليمن القاضي إسماعيل الأكوع، وأخاه القاضي محمد الأكوع، وعبدالله الحبشي، وهو باحث جيد، ومن العراق أسامة النقشبندي وقاسم السامرائي، وله اهتمام خاص بتاريخ الورق وصناعته، ومن الكويت عبدالله يوسف الغنيم، وله اهتمام خاص بمخطوطات الجغرافيا العربية ، ومن تركيا رمضان ششن.

وإنما استكثرت من ذكر هذه الأسماء - وقد عرفتهـا من خلال اشتغالي بهذا العلم سنوات ذات عدد- لأدلل على أن علم المخطوطات في عالمنا العربي يرتبط بأسماء بأعيانها، ومعظم هذه الأسماء إنما ارتبطت بهذا العلم لاهتمامات خاصة، ومن مخاطر الاهتمامات الخاصة أنها تتوقف بتوقف أصحابها، بدواعي التوقف التي لا يمكن حصرها، ومعنى هذا أننا بحاجة إلى تأصيل هذا العلم، ولا سبيل إلى ذلك إلا الجامعات العربية، بأقسام المكتبات بها، أو بمراكزها العلمية، وأعلم أن أقسام المكتبات ببعض كليات الآداب تعنى بتدريس هذا العلم، ولكن بمناهج مخففة ، وبالجوانب النظرية فقط، ثم بالاقتصار على أساتذة قسم المكتبات فقط، دون الاستعانة بخبراء هذا العلم الذين هم خارج الإطار الجامعي. أقول قولي هذا وأنا أعلم أن لبعض أساتذة أقسام المكتبات بالجامعات علما بالمخطوطات ولكنهم قليلون، ولا بد من الإفادة من هذه الخبرات التي ليست من أعضاء هيئة التدريس.

كما أني أعلم أيضا حديث هذه الحلقات التي تقام بين الحين والأخر لدراسة شئون المخطوطات وقد كثرت، هذه الحلقات في السنوات الأخيرة كثرة ظاهرة، ولكن التنسيق بينها مفقود، كما أن الجهود اللاحقة فيها لا تستفيد من الجهود السابقة، فكل في فلك يسبحون، وأعتقد أن الحلقة المفقودة في مثل هذه الجهود أنها لا تتجه إلى تكوين جيل من الشباب يؤسس على المعرفة الصحيحة ليمضي في هذا الطريق على بصيرة، أما أن تلقى بحوث ومحاضرات يخاطب العلماء فيها بعضهم بعضا، فهذا مالا غناء فيه ولا طائل تحته. وعن جهات النقص في مثل هذه الحلقات أن الدول التي تدعى إليها والمؤسسات التي تشترك فيها ترسل في الغالب موظفين بدور الكتب وبالإدارات الثقافية بها، والموظف يحرص على أن يقدم تقريرا ، لا أن يحصل علما.

إن علماء المخطوطات يتناقصون يوما إثر يوم، بالموت الذي لا يرد، وبالصوارف التي لا تدفع.

وقد مات كثير من علماء المخطوطات وفي صدورهم الشيء الكثير، فبعهم ضن واحتجن، وبعضهم تراخى وغره طول الأمل. ولهذا فإني أدعو كل من أنعم الله عليه بشيء من هذا العلم أن ينشره ويذيعه، فإن الموت لا موعد له، وعلمه عند علام الغيوب.

ثم إنه من أوجب الواجبات على جامعاتنا العربية أن تعتني بهذا العلم، وتجعل له من ميزانيتها نصيبا مفروضا، وأن تستثمر من بقي من خبراء هذا العلم، لتتخرج عليهم أجيال جديدة، تمضي في الطريق وتكمل المسيرة ، فلا ينقطع مدد هذا العلم الذي هو الأساس لاكتشاف المغيب من تراثنا ، وتأكيد الثقة بما سليم لنا منه، من عوادي الناس والأيام.

 

محمود الطناحي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات