لعل بعضنا يتذكر تلك
الضجة التي ثارت في الولايات المتحدة إبان إطلاق أول قمر صناعي (سوفييتي) إلى
الفضاء، لقد قامت قيامة المفكرين الاستراتيجيين الأمريكيين آنذاك، وانتهت الآراء
إلى وجوب مراجعة مناهج الرياضيات في المدارس والجامعات الأمريكية، فالسبق السوفييتي
كان سبقا في الرياضيات أولا .. ومازالت الرياضيات تمثل قلب ما يجري حولنا من سباق
باتجاه القرن الحادي والعشرين، في برمجة الحواسب الإلكترونية، وفي إطلاق ثورة
المعلومات. ومن الغريب أن كثيرين - حتى من خاصة المثقفين - لا يدركون أهمية هذا
الجانب المعرفي الخطير. وهذه المقالة تأتي استجابة لطلب "العربي". لسد هذا النقص
المعرفي الشائع، يكتبها مفكر عربي معروف يجهل الكثيرون أنه أيضا أحد أساتذة علم
الرياضيات الكبار.
كما نطلق
على شاعرنا الكبير شوقي لقب "أمير الشعراء"، أطلق أيضا على جاوس قبل شوقي بأكثر من
قرن لقب "أمير الرياضيين ". ورغم التناقضات والحزازات التي كانت قائمة بين العلماء
في فرنسا وإنجلترا وألمانيا كان هناك إجماع على استحقاق جاوس لهذا اللقب، ومن القصص
المعروفة في هذا المجال أن عالم البيولوجيا والرحالة فون هامبولت- وكان من معاصري
جاوس- ذهب إلى باريس وقابل الرياضي الفرنسي الكبير لابلاس، وفي هذا اللقاء سأله
رأيه عن أعظم عالم رياضيات في أوربا فأجاب لابلاس دون تردد : فاف. وعندما قال
متسائلا: وماذا عن جاوس؟ قال لابلاس ودون تردد أيضا: جاوس هو أعظم رياضي في
العالم!.
ثلاثة على
القمة
الحق أن التاريخ
يعرف ثلاثة من العلماء الرياضيين يجلسون وحدهم على القمة: أرشميدس ونيوتن وجاوس.
والثلاثة كانوا البادئين بموجات جديدة في الرياضة البحتة والرياضة التطبيقية،
والثلاثة لم يفرقوا في عملهم بين هذا وذاك، ومع أن العديد من الكتب تبرز حتى اليوم
ابتكارات أرشميدس التكنولوجية واختراعاته، إلا أن المتعمقين في تاريخ هذا الرياضي
الفذ الذي كان عضوا مراسلا في مدرسة الإسكندرية يعرفون أنه أول من وضع لبنات علم
التكامل وأول من حسب النسبة التقريبية للدائرة (ط) صحيحة لثمانية أرقام
عشرية!.
أما نيوتن فقد
كان يظن أن المبرر الرئيسي لاكتشافاته في الرياضة البحتة هو تطبيقاتها، وأن أعظم
أعماله هو حسابه الصحيح لموعد عيد الفصح. لكن الحقيقة أن اكتشافاته في علم التفاضل
والتكامل لا تقل أهمية وطليعية عن اكتشافاته في الميكانيكا وفي حركة الأجرام
السماوية.
وجاوس أيضا كان
شديد الاهتمام بالفلك إلى درجة أنه قضى عشرين عاما من عمره في حساب مسار الكوكب
الثامن سيرس Ceres ، وكان فلاسفة عصره وفي
مقدمتهم هيجل يشنون هجوما شديدا على الفلكيين ويرددون كلمة هيجل الشهيرة: " لو منح
الفلكيون الفلسفة بعض الاهتمام لرأوا على الفور أن هناك سبعة كواكب فقط، لا أكثر
ولا أقل.. وعلى هذا فإن بحثهم عن كوكب ثامن هو ضياع سخيف للوقت "!.
وإذا بدا أن
عشرين عاما من عمر مثل هذا النابغة هو أمد طويل في حساب مسار هذا الكوكب فينبغي أن
نتذكر أن أعمال نيوتن في "الميكانيكا السماوية" كانت النموذج الأعظم في هذا الزمان،
وأن التداخل بين الرياضيات وبين الفيزياء الرياضية والفلك كان قائما آنذاك بشدة،
وأن الفصل بين هذه العلوم المختلفة لم يعرف إلا في النصف الثاني من القرن
العشرين.
وعلينا أيضا أن
نتذكر أن والد جاوس وأصدقاءه كانوا يلحون عليه بالانخراط في عمل "مفيد" يسعد به
الدوق كارل فرديناند - دوق برونز فيك - الذي تولى جاوس بالرعاية منذ الصغر وتكفل
بنفقات تعليمه إلى ما بعد تخرجه في الجامعة وزواجه.
فها هو كوكب حديث
الاكتشاف في موقع من السماء يعتقد الفلكيون أن حساب مساره أمر صعب.
فلماذا لا يقوم
بهذا العمل ويهديه إلى الدوق مخلدا بذلك اسمه؟ وهكذا استجاب جاوس لرغبة والده
وأصدقائه وقضى عشرين عاما في هذه الحسابات وحدد رغم قلة المشاهدات الفلكية المواقع
التي سيكون عندها هذا الكوكب في أزمنة محددة. وبالفعل أثبت التلسكوب صحة هذا
التوقع.
ومع ذلك كله فإن
الكثيرين من علماء الرياضيات يعتبرون أن أعظم أعمال جاوس هي إنجازاته في علم
الحساب ونظرية الأعداد التي أنجزها وعمره واحد وعشرون عاما والتي نشرها في مؤلف
واحد باسم "بحوث حسابية" بعد ذلك بثلاث سنوات. وبالطبع فهذه البحوث في الحساب
العالي جاءت في فرع كان له أقل التطبيقات آنذاك، وربما إلى اليوم.
ضد جنون
الحرب
ولد جاوس عام
1777 م ومات عام 1855، أي أنه عاش ما بين الربع الأخير من القرن الثامن عشر ونهاية
النصف الأول من القرن التاسع عشر.. ولم تكن ألمانيا موحدة آنذاك بل كانت مجموعة من
الدوقيات، وكانت تلك الفترة في أوربا مليئة بالأحداث الجسام والثورات والانقلابات،
والتحولات السياسية السريعة. ففي تلك الفترة وقعت الثورة الفرنسية "1789 "، ثم
اكتسح نابليون بجيوشه كل أوربا، بما في ذلك دوقية برونزفيك، حيث هزم الدوق فرديناند
(راعي جاوس) في معركة قرب ليبزج، وفرض نابليون على مثقفي ألمانيا لونا من ألوان
الجزية لتمويل جيوشه. وكان على جاوس أن يدفع نحو ألفي فرنك وهو ما لا يستطيعه،
فتطوع الرياضي الفرنسي لابلاس بأن يدفع هذا المبلغ نيابة عنه، وهو ما رفضه جاوس
بشدة. ثم قام معجب في فرانكفورت بإرسال هذا المبلغ إلى جاوس دون ذكر اسمه فاضطر
جاوس لقبول الهدية.
تلك أيضا هي فترة
الحرب الأهلية في فرنسا، وكوميونة باريس (1848) وفترة الهزيمة النهائية لنابليون في
واترلو ونفيه إلى جزيرة سانت هيلانة، ولذا ليس غريبا أن يكون جاوس في اهتماماته
السياسية - وهو على هذه الصلة الوطيدة بالدوق فرديناند - محافظا، ينظر إلى حروب
نابليون في أوربا وكأنها جنون غير مفهوم، ويرتعد عندما يفكر في احتمال قيام حرب
أهلية في ألمانيا ويقول: " لو قامت الحرب الأهلية في ألمانيا لفضلت أن أكون ميتا".
ولا يعني هذا أنه كان ضد الإصلاحات الاجتماعية في ألمانيا وإنما بشرط أن تكون
متدرجة وذكية، وكان أصدقاؤه الأكثر جرأة منه يعزون مواقفه المحافظة هذه إلى عزلته
في عمله العلمي، وإلى خشيته من "حكم الرعاع " الذي عرفته فرنسا.
وبالطبع لا نحتاج
إلى أن نذكر أن جاوس نشأ في بيئة شديدة الفقر، وأنه لولا عبقريته التي ظهرت مبكرا
جدا في صباه لما اهتم به دوق برونزفيك ولا لتحق بنفس عمل والده.. بستانيا وصانع
قوالب طوب لكن من حسن حظ البشرية والرياضيات أن نبوغ جاوس ظهر مبكرا جدا. فمن
الأشياء المعروفة أنه وهو في الثالثة من عمره، وفي يوم سبت، وكان والده يجري حسابات
أجور العمال الذين يشرف عليهم، ودون انتباه إلى أن ابنه يتابع عمليات الجمع التي
يجريها فوجئ الأب بالابن يقول له إن هذه الحسابات بها خطأ وإن الرقم الصحيح هو كذا،
وراجع الأب حساباته ليكتشف أن العدد الذي ذكره الطفل هو العدد الصحيح!.
وفي المدرسة
الابتدائية وجد المدرس أنه لا يكاد ينتهي من كتابة حدود المتتابعة المطلوب جمعها
حتى يكون التلميذ جاوس قد كتب الإجابة الصحيحة. وقد أدى هذا إلى نشوء علاقة وثيقة
بين جاوس الطفل وبين مساعد المدرس الشاب ويدعى بارتلز Bartels - وكان من عشاق الرياضيات. فأخذا يدرسان معا ويساعدان
بعضهما البعض ويتحققان من صحة براهين المسائل التي كانا يحلانها.
ولم يكتف بارتلز
بمساعدة الصبي جاوس في ألغاز علم الجبر، فقد كان بارتلز على صلة ببعض ذوي النفوذ
الذين أقنعهم بنبوغ جاوس. وقام هؤلاء بلفت نظر دوق برونزفيك (الدوق كارل فرديناند)
إلى هذه العبقرية الجديدة، فاستقبل الدوق جاوس لأول مرة عام 1791، وكان في الرابعة
عشرة من عمره. ومنذ ذلك الوقت احتضن الدوق هذه العبقرية الفذة وتكفل بتغطية نفقاته
إلى أن تخرج في الجامعة، وحتى بعد زواجه وإنجابه.
نبوغ
مبكر
ربما كان من
علامات نبوغ جاوس المبكرة أنه اكتشف ما عرف بعد ذلك بالنظرية الأساسية للأعداد
الأولية وهو في الخامسة عشرة من عمره! صحيح أنه لم يقدم برهانا رياضيا لهذه
النظرية، وإنما تم ذلك في عام 1896 على يد الرياضي الفرنسي هادامار اي بعد وفاة
جاوس بنصف قرن تقريبا. لكن يظل لجاوس ولعبقريته الفضل الأكبر في اكتشاف أول قانون
ينتظم الأعداد الأولية، مع أن توزيع هذه الأعداد يبدو بين الأعداد الطبيعية بلا
نظام على الإطلاق. فالأعداد الأولية بين العشرة والعشرين أربعة بينما بين العشرين
والثلاثين هناك عددان أوليان فقط، والآن وبفضل الحاسوب - نعرف أن هناك تسعة أعداد
أولية بين العشرة مليون وبين المائة عدد الأقل منها مباشرة بينما هناك عددان أوليان
فقط بين العشرة مليون والمائة عدد الأعلى منها مباشرة.
كيف إذن استطاع
صبي في الخامسة عشرة من عمره أن يكتشف هذا الانتظام في الأعداد
الأولية؟.
بعض الإجابة عن
هذا السؤال يعود إلى أن جاوس كان يهوى الحساب مهما كانت مشقته وطوله - في عالم بلا
حاسوب ولا آلات حاسبة يدوية. وقد استطاع باستخدام جداول دلامبير عن الأعداد
الأولية أن يخمن هذا القانون الذي جرى برهانه بعد ذلك بنحو نصف قرن، ومع أن جاوس
التحق بجامعة جوتنجن بعد ذلك وهو في الثامنة عشرة من عمره إلا أنه اخترع طريقة
المربعات الصغرى - وهي إحدى الأدوات الأساسية لعلم الإحصاء اليوم- وهو لايزال طالبا
وأنهى مؤلفه العظيم "بحوث حسابية" وهو في التاسعة عشرة من عمره. وهذا المؤلف يعتبر
واحدا من قمم عصره، والبعض يعتقد أنها أعظم أعماله على الإطلاق .. ومع أن جاوس وسّع
مجال بحوثه بعد ذلك ليشمل الفلك والمغناطيسية الكهربائية، وباقي فروع الفيزياء
الرياضية الأخرى، فقد ظل الحساب هو حبه الأول الذي يعود إليه بين الحين والآخر كلما
سمحت الظروف.
لكن يظل لجاوس
ضمن فروع الرياضيات البحتة بصمات لا تنسى لأنها تركت أثرها الحاسم على كل الرياضيات
التي جاءت بعده. فقبل جاوس لم يكن الإحكام في البرهان الرياضي محل اهتمام كبير،
ونعني بالإحكام دقة البرهان ومعرفة تحت أي شروط تكون النظرية صحيحة. لم يهتم بهذا
الموضوع لا نيوتن ولا من جاءوا بعده حتى ظهور جاوس. فكل هؤلاء (نيوتن، ليبنتز،
جاوس، أويلر) لم يكن لديهم عمليا أي تصور صحيح عن البرهان الصحيح للعمليات
اللانهائية وشروطه. وإلى جاوس وحده يعود الفضل في هذا الإحكام، فهو أول المدققين في
مجال التحليل، وقد خيمت هذه الدقة على معاصريه ومن جاءوا بعده. إن الرياضيات بعد
جاوس أصبحت مختلفة تماما عن رياضيات نيوتن وأويلر ولاجرانج، وبهذا المعنى فإن جاوس
أحدث ثورة في العلوم الرياضية لأنه نقلها نقلة كبيرة.
نقد
الفلاسفة
بقي أن نقول في
الختام إن جاوس ظل مترددا بين الاتجاه لدراسة الرياضيات والاتجاه لدراسة الفلسفة،
وبقيت هذه الحيرة حتى عام 1796، أي قبل عيد ميلاده العشرين بشهر واحد عندما اتخذ
قراره لصالح الرياضيات. ومع ذلك فقد ظل حريصا على متابعة كل جديد في الفلسفة، وإن
ازداد شكه في جهود فلاسفة أوربا لضعف صلتهم بالعلوم الطبيعية والرياضيات، مع أنهم
دائما يقحمون هذه العلوم في فلسفتهم.
ولقد أشرنا من
قبل إلى موقف هيجل الذي حاول أن يسخر من موقف الفلكيين الباحثين من كوكب ثامن في
السماء. والمفارقة أن مقال هيجل هذا نشر في نفس اليوم الذي اكتشف فيه الفلكي
بياتزي Piazzi الكوكب الجديد سيرز
Ceres، وهو أول كوكب من مجموعة ثانوية معروفة
اليوم.
كتب جاوس إلى
صديقه شوماخر عام 1844 معلقا على ضعف معرفة الفلاسفة بالعلوم الرياضية قائلا: "وها
أنت ترى نفس الظاهرة في الفلاسفة المعاصرين، ألا يجعلون شعرك يقف وأنت تقرأ
تعاريفهم.. حتى مع كانط ليست الأمور أفضل كثيرا. ففي رأي إن تفرقته بين التقارير
التحليلية والتركيبية هي تفرقة تؤدي إلى تفاهات أو إلى نتائج
زائفة"