تغريب العالم سعيد الكفراوي

تغريب العالم

المؤلف: سيرج لاتوش

بتجرد كامل، وبعيدا عن أي خضوع أو الإحساس بدين لأية شركة، أو أية مؤسسة يرى المؤلف الفرنسي "لاتوش" أغلب الأحيان براءة ذمة بحثه "تغريب العالم" من الخضوع لأي من تلك الشركات والمؤسسات، وبالتالي فقد كفلت لكتابه الحرية المطلقة ليطرح فكره من غير تحفظ أو أية شبهة من مخاوف.

الكتاب من مجمل تصوره، وعبر أسئلته المهمة التي يطرحها يظل شاغله الأوحد "دلالة ومغزى وحدود تنميط العالم" بالذات عالمنا الثالث، ذلك الغرب الذي يعيش وهم تفوقه، وإنجازه الحضاري المتعدد الذي يسعى عبر صيرورة منظمة وتقنية عالية الجودة لتحويل أعراق، وثقافات، وأساطير هذا العالم إلى كومة من الخردة. علينا إذن وبنفس التجرد أن نعرض فصول هذا الكتاب المهم الذي يؤكد فكرة تغريب العالم ومن خلال فكر رجل أنتجه الغرب نفسه وتشكل وعيه خلال معرفة يقينية بهذا الغرب، وامتلك أسئلته العلمية، ومعرفته المستمدة من فكر هذا الغرب وفلسفته.

إن صيحة الجنرال "جورو" عندما وقف أمام قبر "صلاح الدين "صارخاً"استيقظ يا صلاح الدين لقد عدنا". تلك الصيحة القديمة تعني من وقتها صعود سيادة الرجل الأبيض وبالتالي تعتبر البدايات الأولى لتغريب العالم، وتؤكد ذلك اليقين الغربي المطلق في أن التدوين التاريخي لأوربا هو التدوين التاريخي للبشرية. على أية حال كانت البداية لهذا التغريب / الاستعمار تقوم بغير وازع من ضمير، وباندفاع محموم نحو مصالحه الذاتية والسيطرة على البشر، وغزو الأسواق، والتزود بالمواد الأولية، والبحث عن أراض جديدة، وأياد عاملة لتحقيق تلك الإمبريالية الكولونيالية.

مما لاشك فيه أن ابتعاث الغرب كان ابتعاثا صليبيا، ويؤكد المؤلف أن جميع الإمبراطوريات استبدادية: بابل والصين والمكسيك وروما. إن أوربا ابنة "أورشليم" التي غزت الأرواح وورثتها روما البيزنطية، التي ورثها " شارلمان" الذي واجه العرب في " بواتييه" الصليب في يد، والسيف في الأخرى، حيث بدأ في زمنه التغريب وفق الفهم والعقيدة الصليبية. إن الحروب الصليبية إحدى المغامرات المجنونة التي تصورها العقل البشري. ويكتمل التغريب ببزوغ نجم إسبانيا في القرن السادس عشر، وحركة الفتح المصاحبة، واكتشاف الطرق أمام "مغامري السماء والأرض " عندما رفع القديس "فرنسوا خابيير" الصليب في وجه اليابان التي تعتنق عقيدة ليست سماوية. وهكذا يعيد الفاتحون الإسبان رسم خريطة العالم عبر الوكالات التجارية والحصون والإرساليات، عبر انتصار العناصر الثلاثة للإمبريالية: العسكريين، والتجار، والمبشرين. ومن هنا يظهر الفتح ليس باعتباره فتحا عسكريا، أو سياسيا لكنه في شكله النهائي مسخ موسوعي للكون.

وتحت الدعاوى الكثيرة التي طرحها هذا الغرب في صعوده الإمبريالي للسيطرة والفتح وإحكام القبضة مثل دعاوى: النموذج العالمي، والتالية للعلم والتقنية التي أصبحت أداة لاستعمار الأرواح والأجساد، وسيطرة الاقتصاد على أجزاء العالم بتدميره لمعنى نظم هذه الدول الاجتماعية حتى تغدو حياتها أسيرة لحلم الامتلاك، مرتهنة لرفاهية خادعة تتمخض عن سعادة زائفة وبعض الدولارات الإضافية، والغزو الثقافي الذي يتدفق عبر وسائل الإعلام " صحف. إذاعات. تليفزيونات. أفلام. كتب. أسطوانات. فيديو" التي تمتلك فاعليتها وتأثيرها في العقل وأشكال السلوك ومناهج التعليم، ويكفي أن تعرف أن سوق الإعلام تحتكره أربع وكالات: أسوشيتدبرس، ويونايتدبرس (أمريكا)، ورويتر (بريطانيا)، وفرانس برس (فرنسا).

وبتأمل تلك الوسائل، وتتبع غايات التغريب، والنظرة التاريخية للمسيرة المؤكدة لصعود الغرب، يكمل الانتصار الذي لا يعد في مجمل أحواله انتصارا للإنسانية.

ما هو الغرب؟

"انظر: الشوارع خالية: إنه زمن (دالاس) ".

عبارة بسيطة ومدهشة في الآن، لكن مضمونها، ومعناها يقومان بتلخيص واقع الكون الآن. ذلك الواقع الذي يبدو لفرط وضوحه واقعاً رمزيا بدرجة تدفع إلى الرعب.

زمن "دالاس " يعني زمن الغرب.

فما هو ذلك الغرب؟

يرى "لاتوش" لكي نعرف الغرب ينبغي علينا النظر إليه باعتباره كيانا جغرافيا: أوربا. وصاحب ديانة: المسيحية. وله فلسفة هي: التنوير. وضمن إثنية: هي العرق الأبيض. وداخل نظام اقتصادي: الرأسمالية.

وبما أن الأرض تدور فالحقيقة أنه لا وجود لما يسمى بالغرب جغرافيا وبالتالي فقد أصبح الغرب في حقيقته فكرة أيديولوجية أكثر منها فكرة جغرافية. كما أننا لا يمكننا أن نختزل الغرب إلى كيان عرقي حتى على اعتبار أن القرن التاسع عشر آمن بتفوق العرق الأبيض لأنه كان الشكل الأبيض للتغريب. إلا أننا نستطيع نفي هذه المقولة لأن التفوق الإنساني لا يخص البيض وحدهم، ولكن يخص شعوبا أخرى مثل اليابانيين وغيرهم ممن حققوا نقلة مهمة في التطور الحضاري والإنساني. علينا إذن أن ندرك أن "تعريف الغرب بالعرق الأبيض يختزل تغريب العالم إلى استعباده في سياق المشروع الاستعماري".

أيضاً هل في الإمكان استيعاب الغرب في كيان ديني؟ ينفي الكاتب نفيا قاطعا هذا المعنى باعتبار أن المنهج المسيحي الإلهي كان سببا في الفتح والانتشار، ورغبة في تغريب العالم للسيطرة الأيديولوجية على مقدرات البلاد التي خضعت لما يسمى بالرسالة المسيحية للإنجيل، تلك الرسالة التي تقوم على التبشير، والاستيعاب، ومحو ثقافة ودينية الآخر. لذلك ففي نهاية الأمر يتطابق الغرب مع هذا الكيان الديني ويعود فيستوعبه داخل مشروعه الاقتصادي.

هل للغرب رسالة فلسفية وأخلاقية وثقافية؟

من غير شك، وفي إطار المعنى الكلي لمفهوم التغريب الذي يقوم على الوعي بالذات (الأنا الفاعل) الذي يسعى بشتى الوسائل لإحداث تبعية الآخر لتحقيق ذاته هو (فكرة صهيونية/ توراتية) وعلى الرغم من ذلك فإن الغرب قد قدم رغم تلك الصورة القاتمة عصر التنوير عبر مفكريه الليبراليين وفلاسفة القرن الثامن عشر وقيم حقوق الإنسان، والديمقراطية، ومنظمة الأمم المتحدة وغيرها من القيم التي سادت في القرن الأخير.

ورغم ذلك لا تزال فخاخ الأنا، وجدية الثقافة تقود إلى حق الإبادة الإثنية، وحق السيطرة على العالم بدفعه لصيغة تبدو نموذجية في شكلها التغريبي.

أما ثقافة التغريب والتي عرفها الكتاب بـ "إنها الاستجابة التي أسهمت بها الجماعات البشرية إزاء مشكلات وجودها الاجتماعي " أو التي عرفها "ج. ب دوبوي " "البرنامج الذي يشكل ثقافة يمكن النظر إليه على أنه نسق متسق من الرموز (اللغة، الفن، الأساطير، الطقوس) يسمح للبشر بعقد صلات ذات مغزى فيما بينهم ومع عالمهم، وبالعثور على معنى لبيئتهم ولحياتهم، وبالتالي بتوطيد إحساس ما بالأمان".

لا يختلف هذا التعريف للثقافة عن المفهوم الغربي لها، إلا أنه وفي ظل ما يسمى بالحداثة، وتعقيد التقنية التي تفرض على العالم الثالث بقصد محو ثقافته، وفي هذه الحالة تكون الثقافة في واقع الأمر معادية للثقافة، أي أنها ثقافة لمحو ثقافة أخرى، أي زرع قيم وأفكار ومناهج تعليم في أرض، وبين جنس من الأجناس يعيش قناعاته الاجتماعية والتاريخية والثقافية الخاصة به، والذي لا يمكنه التطور إلا من خلالها، والحفاظ عليها.

التغريب واجتثاث الجذور

يرى "لاتوش" وبعميق النظر في هذا الباب أن التغريب يقوم على الإمبريالية بوصفها نظاما كاملا من الاغتصاب يقوم على الإقطاع ومحو الثقافة وإحداث التخلف. والغرب باعتباره يمتلك مركزا واحدا محيطه في أي مكان، وهكذا يصبح الغرب من خلال السيطرة محاربا من غينيا، وفلاحا من زراع القطن في مصر، وتاجر ملابس من بنين، وقام بطرح فكرته السائدة عن السيطرة من خلال السيطرة على الأسواق التي شجبها مفكر من الغرب نفسه هو "كارل بولانبي" عندما قال: "إن السماح لآلية السوق بأن توجه وحدها مصير البشر وبيئتهم الطبيعية سيؤدي إلى تدمير المجتمع".

كما أننا لا يمكن أن نختزل الغرب باعتباره آلية اقتصادية للسوق، غير أن هذه الآلية تمثل شكلا نموذجيا للسعي وراء الأداء، وتميل لنشر منطقها إلى الكل الاجتماعي. من هنا علينا أن نتأمل ما تعنيه جملة "محو الثقافة والإبادة الإثنية" فاستخدامنا لكلمة تثاقف دلالة على التفاعل الإيجابي عند احتكاك الثقافات، فإذا كان توازنا وحفاظا على هوية كل ثقافة في تجاورها الإنساني يكون التثاقف هنا ناجحا. أما عندما تتدفق ثقافة ناجحة وقادرة على ثقافة أخرى مصمتة تغدو الثقافة الأخرى مغزوة مهددة في وجودها ذاته ويمكن اعتبارها ضحية لعدوان حقيقي، أما إذا كان العدوان ماديا فهذا هو الزوال الحقيقي. وإذا تأملنا هذا الصراع فسوف نجده يتم عبر وسائط تسمى "وسائط اجتثاث الجذور" منها:

1 - إن تبني حكم الآخر يستتبع تبني الفعل الذي يتصوره.

2 - يتم السيطرة على التصنيع، والتمدين "القوموية" ويؤكد ذلك "ريمون بار" بلهجة قاطعة " اللامساواة في الدخول هي مصدر السخط وبالتالي مصدر تقدم البشرية ".

بتأمل واقعنا العالمي المعاصر، وما يحفل به من تمزقات مرعبة تصدمنا في كل حالاته لأن الخطة الخاصة بوحدة إنسانية جوهرية تقوم على النموذج الغربي الذي يقوم بدوره على إخراج اقتصادي عالمي ضخم. وعلى الرغم من السيطرة الفادحة لهذا التغريب على العالم، وعمله الدائم على محو ثقافة الآخر وتزكية النموذج الغربي فإننا نرى في كثير من المشاهد والأمثلة إخفاق هذا النموذج.

ويبدو أن نجاح اليابان الذي لاشك فيه والنجاح الأكثر إشكالية لعدد من البلدان الصناعية الجديدة شاهدان على تغريب ناجح يقوم على إنقاذ الهوية الثقافية لهذه البلدان. ويمكننا النظر إلى أنماط الاختيار التنموي للتغريب - باعتباره النموذج الموصل لحدود ناجحة في عالمنا الثالث ترى هذه النظرة أن التنمية قد أخفقت في هذه الدول التي كثيراً ما تخلت عن إيمانها بتراثها، وثقافتها المحلية، وعدم معرفتها بأن كل ما هو محلي حقيقة وأصيل هو الأساس في إقامة نهضة قائمة على الانتخاب الحر، والاختيار الصالح لواقع الحال.

فحينما دعا "أحمد الذهبي" سلطان مراكش الفخور بقصره الجديد المسمى "البديع" مهرجه وسأله عن رأيه سمعه يجيب "عندما سيتم تدميره سيصنع كومة ضخمة من التراب". ولو نظر هؤلاء المهرجون الآن إلى مشهد تصنيع العالم الثالث الذي سوف يتحول من غير جدال إلى كومة ضخمة من الخردة. لأدركوا صدق مقولة المهرج.

إن التخريب من زاوية ما "تهيئة" ثقافية للتصنيع، يقودنا ذلك كله إلى ما يسمى بأزمة "النظام الغربي" الذي يعتمد في وجوده على:

1 - آلة تشكل جوهره الثقافي والحداثي.

2 - نظام دولة قومية/ عالم/ أمة هي ذات القانون الدولي.

3 - الأمة التي لا تتمتع بأي وجود قانوني يعتمد على الشكل التغريبي يمكن اكتشافها وغزوها وتمدينها.

4 - محو الحدود الإقليمية، وبالتالي تفريغ القومية من جميع الآثار الثقافية والسياسية.

5 - فيما يتعلق بالثقافة تبدو الأمور أكثر تعقيدا فليس محو الحدود الإقليمية مجرد ظاهرة اقتصادية تفرغ القومية من جوهرها بل لها آثار سياسية " ثقافية، والحقيقة أن نص الحقوق والواجبات الاقتصادية للدول والذي يعلن أن "الشركات المتعددة الجنسية لا يجوز لها أن تتدخل في الشئون الداخلية للبلدان التي تعمل فيها يشهد على سذاجة بالغة".

6 - لم يؤد "محو الحدود الإقليمية" الاقتصادي والمجتمعي والثقافي إلى ظهور نظام دولي جديد أو حتى نظام عالمي بقدر ما أدى إلى اضطراب وفوضى.

بعيدا جدا أو في مكان آخر

يقول "سيرج لاتوش" في آخر فصول كتابه: يؤدي إخفاق الآلة التقنية الاقتصادية إلى تدهور الغرب كحضارة. والواقع أن إخفاق التنمية ونهاية نظام الدولة/ الأمة هما علامتا ومظهرا هذا الإخفاق، غير أنهما ليسا سببيه الوحيدين. وقد أسهمت مقاومة المجتمعات المختلفة، وقدرتها على البقاء، بوصفها مختلفة، وقابلية الروابط الاجتماعية الأصلية لتحويل الإسهامات الأشد تباينا للحداثة إلى معان غريبة عليها كليا، في تآكل سيطرة النموذج الغربي. وتسمح هذه المخلفات والمقاومات والتحويلات بتوقع سقوط الغرب ليس بوصفه نهاية العالم بل بوصفه النهاية لحضارة. ذلك أن حيوية ودينامية الآخر تفسحان المجال أمام التنبؤ بمخارج حتمية الكون ذي البعد الواحد.

بعد كل ما تقدم من طرح، وتتبع فكري لحال الغرب وأهله، ومعرفة النهاية المتصورة للتغريب نطرح سؤالنا العام:

هل ينبغي إنقاذ بابل؟.

علينا بتلطيف الإحساس الكارثي لنهاية الغرب.

فالحقيقة أن نهاية الغرب ليست بالضرورة نهاية العالم. فبقدر معرفتنا أن الغرب هو الذي صنع التقدم والنمو والتنمية هو الذي اخترع أيضا التدهور والانحطاط والفوضى. وإذا كان الغرب قد بدا لنا بوصفه هذه الآلة الجهنمية التي تسحق البشر والثقافات من أجل أهداف جنونية، فهل يمكننا إنقاذ الحلم الذي صنعه التغريب في حقب تنويره، وإضافاته الحقيقية، أم علينا النضال في سبيل إنقاذ برج بابل؟ وحيث إنه ليس هناك أي أمل في بناء أي شيء حي على الإطلاق على احتيال عالمية زائفة مفروضة بالعنف ومؤيدة بنفي الآخر فإن الرهان على أن هناك مجالا مشتركا للتعايش الأخوي ينبغي اكتشافه وبناؤه يستحق عناء الإقدام عليه.

خاتمة

هذه محاولة لقراءة هذا الكتاب المهم الذي يبدو كالصرخة الأخيرة قبل الموت. هذا الكتاب الذي يوسع من مساحة الرؤية لدينا، ذلك الآخر الذي عاش مشروع الغرب الموجه أصلا لذاته، وثقافته، بقصد تغريبه ومن ثم محوه. وعلينا أن نفهم أنه في الواقع يمكننا استبعاد المكاسب المادية والرمزية للتحديث حتى يمكننا أن نبتكر حلولا من أجل البقاء كمكان وإنسانية. ترجم الناقد والمترجم "خليل كلفت" هذا الكتاب في ترجمة سهلة، وأمينة وعميقة في آن، فتلقيناه باعتباره نصاً يقترب من أرواحنا وأفهامنا فيساعدنا على الفهم وطرح الأسئلة، وتأملنا لحركة التغريب فكانت ترجمة تعبر تعبيرا حقيقيا عن يسر الفنان والمترجم العتيد.

 

سعيد الكفراوي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




غلاف الكتاب